احد ادلة هدم القبور التي اعتمدتها الفرقة الوهابية , هو حديث الامام علي (عليه السلام), في قوله لأبي الهياج أبعثك على ما بعثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم (( لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته )) .. الذي رواه مسلم في صحيحه , واحمد بن حنبل في مسنده , والنسائي في سننه .. فكان هذا الحديث ذريعتهم الى هدم قبور الائمة عليهم السلام ..
وللجواب على هذه الشبهة , اقول :
ان هذا الخبر لا دلالة فيه على ما ذهبوا اليه , فالمقصود بـ(لا تدع ... قبرا الا سويته) ليس معناه الهدم , بل المقصود بـ(الا سويته) التسطيح والتعديل , ويدلك على ذلك عنونة الباب بـ(باب تسوية القبور) الوارد ذكره في صحيح مسلم , ولو اراد به الهدم لعنونه بباب مساواة القبور , حيث اورد فيه اولا , حديث " كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا, فأمر فضالة بقبره فسوّي, ثم قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأمر بتسويتها " , ثم أورد بعده في نفس هذا الباب حديث أبي الهياج المتقدم : "ولا قبراً مشرفاً إلا سويته".
وها هو ذا امامهم النووي شارح صحيح مسلم , قد فهم من الحديث ما ذكرناه, حيث قال ما نصه : "ان السنة ان القبر لا يرفع عن الارض رفعا كثيرا ولا يسنّم , بل يرفع نحو شبر , وهذا مذهب الشافعي ومن وافقه , ونقل القاضي عياض عن اكثر العلماء ان الافضل عندهم تسنيمها " .. فاين الهدم في كلام العلماء ؟!
وروى البخاري في صحيحه, في باب صفة قبر النبي وأبي بكر وعمر، بسند ينتهي إلى سفيان التمار, أنه رأى قبر النبي (صلى الله عليه وآله) مسنماً.. وفيه دلالة على افضلية تسنيم القبر .. وهاك ما قاله القسطلاني شارح البخاري, في بيان المراد من مفردة (مسنما), هذا نصه :
"( مسنماً ) بضم الميم وتشديد النون المفتوحة, أي : مرتفعاً, زاد أبو نعيم في مستخرجه : وقبر أبي بكر وعمر كذلك, واستدل به على أن المستحب تسنيم القبور, وهو قول أبي حنيفة, ومالك, وأحمد, والمزني وكثير من الشافعية.. إلى أن قال القسطلاني : "ولا يؤثر في أفضلية التسطيح كونه صار شعار الروافض, لأن السنة لا تترك بموافقة أهل البدع فيها ! ولا يخالف ذلك قول علي (رضي الله عنه) أمرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن لا ادع قبراً مشرفاً إلا سويته, لأنه لم يرد تسويته بالأرض, وإنما أراد تسطيحه جمعاً بين الأخبار ، ونقله في المجموع عن الأصحاب " .. افهل استعجم عليهم بيان القسطلاني ؟! فها هو يصرح بلسان عربي "لم يرد تسويته بالأرض وانما اراد تسطيحه" .
اما لو حملنا (سويته) على ظاهره اي بمعنى هدمته وساويته بالأرض , فانه سيفضي الى التعارض وحينها يجب رده أو تأويله ليتفق مع الأحاديث الأخرى التي هي أقوى منه سنداً ومعنى الواردة في فضل زيارة القبور, ومشروعية بنائها, حتى أن النبي (صلى الله عليه وآله) سطّح قبر إبراهيم .
اذن فاللازم صرفه إلى أن المراد: (لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته) بمعنى هدمته , أنه أراد قبور المشركين التي كانوا يقدسونها في الجاهلية وفي بلاد الكفار التي افتتحها الصحابة , بدليل ذكر التماثيل معها وإلا فالسنة وعمل الصحابة على خلافه بالنسبة لقبور المسلمين ، حيث أن قبور الشهداء كانت مرتفعة ، وأن قبر الرسول (صلى الله عليه و آله), وابو بكر وعمر بن الخطاب كانت مرتفعة ..
كما ثبت أن قبور الانبياء (إبراهيم وإسحاق ويعقوب) عليهم السلام , كانت موجودة في بيت المقدس، وقد ضربت عليها المساجد والقِباب، ثم إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يأمر أصحابه بهدمها رغم أنه بشرهم بفتح ذلك البلد.
وكذلك الصحابة فانهم قد فتحوا بلاد الشام والعراق وغيرهما , ولم يهدموا الأبنية المقامة على قبور من دفن فيها من الأنبياء عليهم السلام .
ومنه تعلم ان أعاظم المسلمين, وأساطين الدين من ائمة الحديث, كالبخاري ومسلم, وأئمة المذاهب, كأبي حنيفة, والشافعي, ومالك, وأحمد, وأعلام العلماء, وأهل الإجهاد, كالنووي وأمثاله, كلّهم متفقون على مشروعية بناء القبور في زمن الوحي والرسالة, كيف والنبي (صلى الله عليه وآله) بذاته بنى قبر ولده إبراهيم !! .
وغاية ما هنالك انهم اختلفوا فيما بينهم , فبعضهم ذهب إلى تسنيم القبر محتجا بحديث البخاري عن سفيان التمار, أنه رأى قبر النبي (صلى الله عليه وآله) مسنماً , والاخر ذهب إلى التسطيح محتجا بتسطيح النبي قبر ولده إبراهيم ..
والنتيجة: أنّ الفهم الذي ذهبت إليه هذه الجماعة الوهابية لحديث أبي الهياج من تسوية القبور بالأرض - بمعنى مساواتها بها- لم يسبقهم إليه أحد من المسلمين من قبل ، وهو يعارض مرويات أهل السنة أنفسهم في المقام فضلا لمخالفته لما عليه علماء المذاهب الأربعة في الموضوع ذاته.
واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين, وافضل الصلاة واتم التسليم على اشرف الانبياء والمرسلين محمد وعلى اهل بيته الطاهرين .
الكاتب / السيد مهدي الجابري
اترك تعليق