الأصل الأوّل من أصول الدين وهو التوحيد الذي هو كمال الواجب الوجود بالذات في الذات.
اعلم أنّ التوحيد ـ بحسب المعنى التصوّري ـ عبارة عن نسبة المكلّف الواجب الوجود بالذات إلى الوحدة من جميع الجهات :
كالوحدة باعتبار الأجزاء العقليّة من الجنس الذي هو عبارة عمّا به الاشتراك في الذات ، والفصل الذي هو عبارة عمّا به الامتياز.
والوحدة باعتبار الأجزاء الخارجيّة التي هي بإزاء الأجزاء العقليّة من المادّة والصورة.
والوحدة باعتبار الأجزاء الخارجيّة العنصريّة الرئيسة أو غيرها.
والوحدة باعتبار الذات والصفات.
والوحدة باعتبار الأفراد والجزئيّات ، بمعنى أنّه لا شريك له في الذات ، ولا شبيه له في الصفات ، ولا تعدّد ولا تكثّر له في الذات ، ويندرج فيه توحيد الذات وتوحيد الصفات وتوحيد الذات والصفات وتوحيد الأفعال وتوحيد العبادة.
بيان ذلك : أنّه روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال : « إنّ القول في أنّ الله واحد على أربعة أقسام ، فوجهان منها لا يجوزان على الله عزّ وجلّ ووجهان يثبتان فيه، فأمّا اللذان لا يجوزان عليه ، فقول القائل : واحد ، يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز ؛ لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، أما ترى أنّه كفر من قال : إنّه ثالث ثلاثة ، وقول القائل : هو واحد من الناس ، يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز عليه ؛ لأنّه تشبيه ، عزّ وجلّ ربّنا وتعالى عن ذلك، وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل : هو واحد ليس له في الأشياء شبه ، كذلك ربّنا ، وقول القائل : إنّه عزّ وجلّ أحديّ المعنى ، يعني به أنّه لا ينقسم في وجود لا عقل ولا وهم ، كذلك ربّنا عزّ وجلّ ». (1)
وقد يقال : مراتب التوحيد عبارة عن نفي استحقاق إله آخر للعبادة ، ونفي وجوده ، ونفي إمكانه، وإثبات الثلاثة لله تعالى.
وقد يقال : إنّ التوحيد توحيد الأحديّة كما للعصاة ، وتوحيد الفردانيّة كما للولاة.
وقد يقال : إنّه علميّ يظهر بالبرهان ، وعينيّ يثبت بالوجدان ، وحقّي اختصّ بالرحمن.
وقد يقسم إلى القشر ، وقشر القشر ، واللبّ ، ولبّ اللبّ.
والأوّل : كإيمان عموم المسلمين ، وهو التصديق بمعنى الكلمة.
والثاني : كإيمان المنافقين.
والثالث : كإيمان المقرّبين ، وهو بأن يشاهد ذلك بطريق الكشف ، ويرى أشياء كثيرة صادرة من الواحد القهّار.
والرابع : إيمان الصدّيقين ، وهو بأن لا يرى في الوجود إلاّ واحداً حتّى لا يرى نفسه.
وقيل : التوحيد كامل وناقص ، والأوّل أن يعلم أنّ وجوب الوجود لا يمكن أن يكون لذاتين ، والثاني أن يعلم أنّ الله سبحانه واجب الوجود فقط.
ويمكن أن يقال : إنّ مراتب التوحيد خمس : توحيد الذات ، وتوحيد الصفات ، وتوحيد الذات والصفات ، وتوحيد الأفعال ، وتوحيد العبادة.
فقوله تعالى : {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النحل: 51] إشارة إلى توحيد الذات ، وكذا قوله تعالى : {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1].
وقوله تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] إشارة إلى توحيد الصفات ، وكذا قوله تعالى : {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4].
وقوله -عليه السلام- : « لم يزل الله عزّ وجلّ والعلم ذاته » (2) الحديث ، إشارة إلى توحيد الذات والصفات ، بل توحيد الصفات أيضاً.
وقوله تعالى : {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ} [فاطر: 3] وقوله تعالى : {أَمْ جَعَلُوا لِلهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [الرعد: 16] وقوله تعالى : {هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان: 11] إشارة إلى توحيد الأفعال.
وقوله تعالى : {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] إشارة إلى توحيد العبادة.
ومثله ما روي في « الكافي » ـ في الصحيح ـ عن هشام بن الحكم أنّه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن أسماء الله واشتقاقها : الله ممّا هو مشتقّ؟ فقال : « يا هشام! الله مشتقّ من أله وإله يقتضي مألوهاً والاسم غير المسمّى ، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئاً ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد اثنين ، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد ، أفهمت يا هشام؟ » قال : قلت : زدني ، قال : « لله تسعة وتسعون اسماً ، فلو كان الاسم هو المسمّى لكان لكلّ شيء منها إله ولكنّ الله تعالى تدلّ عليه هذه الأسماء وكلّها غيره » (3).
كما أنّ التوحيد ـ كما أشرنا ـ قد يكون باعتبار الأجزاء العقليّة من الجنس وهو ما به الاشتراك ، والفصل وهو ما به الامتياز ، بمعنى أنّه ليس له أجزاء عقليّة ، وقد يكون باعتبار الأجزاء الخارجيّة التي هي بإزائها من المادّة والصورة ، وقد يكون باعتبار الأجزاء الخارجيّة ، مثل العنصريّة الرئيسة وغيرها ، وقد يكون باعتبار الذات والصفات ، وقد يكون باعتبار الأفراد والجزئيّات.
والتوحيد الذاتي يندرج فيه التوحيد الأجزائي بملاحظة الأجزاء العقليّة والخارجيّة بإزائها وغيرها ، والتوحيد الجزئيّاتي ، بمعنى أنّه واحد لا ينقسم أصلاً ، ولا شريك له في الذات ، والمتداول بين الناس خصوص التوحيد الذاتي الجزئيّاتي من غير ملاحظة التوحيد الذاتي الأجزائيّ والتوحيد الصفاتي ، والذاتي والصفاتي والأفعالي والعباداتي ، مع أنّ الجمع مهما أمكن أولى.
وبحسب المعنى التصديقي عبارة عن الاعتقاد مع الإقرار بأنّ الله الذي هو الواجب الوجود بالذات ، وصاحب جميع الصفات من صفات الكمال والجمال ، والمنزّه عن صفات النقص ؛ لكونه صاحب الجلال ، وتكون صفاته الذاتيّة كوجوده ، ووجوبه عين الذات ـ واحد ولا كفو ولا شبه له في الصفات ، بمعنى أنّ المكلّف لا بدّ أن يعتقد أنّ الله تعالى موجود بوجود هو عين ذاته ؛ لأنّه موجد للعالم وللآثار الممكنة التي لا تحدث بنفسها ، بل تحتاج إلى مؤثّر غير متأثّر ولو بواسطة ، فيكون وجوده ضروريّاً بالذات ؛ لضرورة ثبوت الشيء لنفسه ، وعدمه ممتنعاً بالذات ؛ لامتناع اجتماع الضدّين.
وأنّه تعالى قديم بذاته بمقتضى وجوب وجوده ؛ إذ لولاه لكان حادثاً محتاجاً إلى محدث.
وأنّه تعالى أبديّ يمتنع عليه العدم كما يقتضيه القدم وعينيّة الوجود المعلومة من وجوب الوجود وعدم جواز الاحتياج إلى الغير.
وأنّه تعالى حيّ بشهادة حياة المصنوعات بالحياة القديمة التي هي عين الذات ؛ لئلاّ يلزم الاحتياج وتعدّد القدماء. (4)
وأنّه تعالى عالم بالعلم القديم الذاتي ...
وأنّه تعالى قادر ، مختار ، غنيّ مطلق يحتاج إليه ما سواه ؛ لأنّه خلق الاختيار وأخّر بعض المختار ، مع أنّ العجز مستلزم للاحتياج المستلزم للحدوث.
وأنّه تعالى سميع ، بصير ، مريد ، متكلّم ، صادق ...
وأنّه تعالى ليس بجسم ولا مركّب ولا مرئيّ ولا محلّ ولا حالّ ولا صاحب نحو ذلك من الأحوال.
وبالجملة ، فلا بدّ أوّلاً من معرفة الله بخمس صفات :
-الأولى : أنّه خالق العالم والممكنات ؛ لشهادة السماوات والأرض ، وما فيهما من البسائط والمركّبات.
الثانية : أنّه واجب الوجود بالذات ، بمعنى أنّ الوجود ـ بمعنى منشأ الأثر ـ لكونه عين ذاته تعالى لازم وضرور لذاته ؛ للزوم ثبوت الشيء لنفسه وكون نفس الذات علّة لإثبات الوجود له ، لا علّة للثبوت ليلزم معلوليّة الذات ، فيلزمه ضرورة الوجود بمعنى الكون والتحقّق ـ المعبّر عنه في الفارسيّة بـ « بودن » و « هستى » ـ لذاته واستحالة العدم عليه ؛ لاستحالة سلب الشيء عن نفسه.
-الثالثة : أنّه صاحب صفات الكمال والجمال.
-الرابعة : أنّه تعالى منزّه عن صفات النقص وله الجلال.
-الخامسة : أنّ صفاته الذاتيّة عين ذاته.
وثانياً من معرفة جهات التوحيد أعني التوحيد الذاتي والصفاتي وغيرهما ، فهذا الأصل مشتمل على خمسة اعتقادات :
-الأوّل : أنّ العالم له صانع واجب الوجود بالذات ، فهو من أصول الدين ، ومنكره كالدهري من الكافرين.
-الثاني : أنّ الصانع الواجب الوجود بالذات صاحب الصفات لا نائب الصفات ، وهو من أصول المذهب أو كماله ، ومنكره ـ كبعض أرباب المعقول أو المنقول ـ ناقص المذهب(5).
-الثالث : أنّ الصانع الواجب بالذات ـ الذي هو صاحب جميع صفات الكمال والجمال ـ منزّه عن صفات النقص كالتجسّم والحلول ؛ لكونه صاحب الجلال ، وهو أيضاً من أصول الدين من وجه، والمذهب من وجه آخر ، ومنكره ـ كالمجسّمة والحلوليّة وأمثالهم ـ خارج عن الدين أو المذهب.
ومن جملة النقائص ما يحكى عن النصارى أنّ الله والد ومولود وروح القدس وشفيع ، وهو يتجلّى ودخل في رحم مريم وخرج إلى الدنيا وصلب وقتل ودفن ، ثمّ رجع إلى الدنيا بعد ثلاثة أيّام وغاص في جهنّم لنجاة أرواح الأنبياء والمؤمنين ، ثمّ صعد إلى السماء ، ثمّ ينزل إلى الدنيا لإيصال الثواب إلى الأخيار والعقاب إلى الفجّار.
-الرابع : أنّ الصفات الذاتيّة ـ كالحياة والعلم والقدرة ـ عين الذات ، وهو أيضاً من أصول المذهب ، ومنكره كالأشاعرة خارج عن المذهب.
-الخامس : أنّ الصانع الواجب الوجود بالذات ـ الذي هو صاحب صفات الكمال والجمال ، والمنزّه عن صفات النقص وهو صاحب الجلال ، وتكون صفاته الذاتيّة عين ذاته تعالى ـ واحد من جميع الجهات ، لا تكثّر في ذاته ، لا شريك له في الذات ، ولا كفو ولا شبيه له في الصفات.
وهو أيضاً من أصول الدين ، ومنكره كالمشركين من الكافرين ...
والظاهر أنّ وجه اختياره هو الإشارة إلى أنّ البرهان الممكن ـ إقامته عليه إنّما هو البرهان الإنّي ـ الذي ينتقل فيه من المعلول إلى العلّة ـ ؛ لأنّه يستدلّ من المصنوع الذي هو المعلول على الصانع الذي هو العلّة بملاحظة الصنع والإبداع والتكوين، ولا يمكن إقامة البرهان اللمّي الذي ينتقل فيه من العلّة إلى المعلول ولو بملاحظة إمكان العالم أو طبيعة الوجود كما عن الحكماء (6) ـ إذ لا علّة له ؛ لأنّه علّة لكلّ علل.
وما يقال ـ [ من ] (7) أنّ كون العالم مصنوعاً علّة لكون الواجب صانعاً أي لهذا الوجود الرابطي لا الأصل ـ فاسد ؛ لكون الأمر بالعكس ، كما لا يخفى.
نعم ، هو علّة في الإثبات لا الثبوت (8) وليس الوجه دفع ورود الاعتراض على ذكر «الواجب» بأنّ ما هو واجب فهو موجود بالضرورة ، فلا حاجة إلى إثباته ؛ (9) إذ (10) ليس المراد من الواجب ما هو كذلك في نفس الأمر ، بل ما فرض كونه كذلك ، فيكون المقصود إثبات أنّ لهذا المفهوم فرداً في الخارج ، وليس كالمفهومات الفرضيّة التي لا تحقّق لها فيه، ولا شكّ أنّ هذا ليس بديهيّاً ، بل يحتاج إلى البرهان في إثباته، ( و ) في إثبات ( صفاته ) الثبوتيّة الحقيقيّة التي هي عين الذات ( وآثاره ) المترتّبة عليه في مقام الفعل كالصفات الإضافيّة.
من كتاب : البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة- ص17-24/ج2.
للمؤلف : محمد جعفر الاسترآبادي المعروف بــ(شريعتمدار).
__________________
(1) « التوحيد » : 83 ـ 84 ، باب معنى الواحد والتوحيد والموحّد ، ح 3 : « الخصال » : 2، باب الواحد ، ح 1 ، وصحّحنا النقل على المصدر.
(2) « التوحيد » : 139 باب صفات الذات ... ح 1 : « الكافي » 1 : 107 باب صفات الذات، ح 1.
من جميع الجهات لا تكثّر فيه ، ولا شريك له في الذات .
(3) « الكافي » 1 : 87 باب المعبود ، ح 2 و: 114 باب معاني الأسماء واشتقاقها ، ح 2 ، بتفاوت يسير.
(4) هذا تعريض بمذهب الأشاعرة ، وسيأتي بيان مذهبهم ومناقشته.
(5) هم المعتزلة ، وسيأتي بيان مذهبهم ومناقشة.
(6) انظر « الشفاء » الإلهيات : 327 ـ 331 ؛ « المبدأ والمعاد » لابن سينا : 22 ؛ « النجاة» : 235 ؛ « المعتبر في الحكمة » 3 : 26 ـ 27 ؛ « المطالب العالية » 1 : 72 ـ 73؛ « المحصّل » 342 وما بعدها ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » 3 : 20 ـ 28 ؛ « مناهج اليقين » : 158 ؛ « النافع يوم الحشر » : 8 ـ 9 ؛ « إرشاد الطالبين » : 176 ـ 179 ؛ « شرح المواقف » 8 : 5 ؛ « شرح المقاصد » 6 : 15 ـ 16 ؛ « الأسفار الأربعة » 6 : 26 ؛ « شرح الهداية الأثيرية » لملاّ صدرا : 15 ـ 17 ؛ « شوارق الإلهام » 2 : 494.
(7) انظر « شوارق الإلهام » 2 : 499.
(8) أي وجه اختيار كلمة « الصانع » دون « واجب الوجود » مثلاً.
(9) انظر « شوارق الإلهام » 2 : 494.
(10) هذا تعليل لقوله : « وليس الوجه ».
اترك تعليق