قال الشيخ المفيد : الاستدلال على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام بما استفاض عن النبي صلى الله عليه وآله في يوم الغدير من المقال .. - قد أجمع حملة الاخبار، واتفق نقلة الآثار، على أن النبي صلى الله عليه وآله جمع الناس بغدير خم ، عند مرجعه من حجة الوداع ، ثم واجه جماعتهم بالخطاب فقال : " ألست أولى بكم منكم ؟ - فلما أذعنوا له بالاقرار قال لهم على النسق من غير فصل في الكلام - : فمن كنت مولاه فعلي مولاه ، أللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله " [1] . فقررهم صلى الله عليه وآله على فرض طاعته عليهم بصريح الكلام ، ثم عطف على اللفظ الخاص بما ينطوي على معناه ، وجاء فيه بحرف العطف من " الفاء " التي لا يبتدأ بها الكلام ، فدل على أنه الاولى دون ما سواه ، لما ثبت من حكمته عليه وآله السلام وأراد به البيان ، إذ لو لم يرد ذلك وأراد ما عداه ، لكان مستأنفا لمقال لا تعلق له بالمتقدم جاعلا لحرف العطف حرف الاستيناف وهذا ما لا يقع الا من أحد نفسين : أحدهما : جاهل باللغة والكلام والآخر : قاصد إلى التعمية والالغاز . ورسول الله صلى الله عليه وآله يجل عن الوصفين ، وينزه عن النقص في الصفات . وشئ آخر : لا يخلو رسول الله صلى الله عليه وآله فيما يلفظ به من عبارة " مولى " من وجهين لا ثالث لهما على البيان : اما أن يكون مراده فيه المعنى الذي قرر به الانام ، من فرض الطاعة على ما ذكرناه . أو يكون أراد غيره من الاقسام . فان كان مراده من ذلك فرض طاعته على الانام، فهو الذي نذهب إليه وقد صحت الامامة لامير المؤمنين عليه السلام . وان كان مراده سواه من الاقسام، فقد عبر عن مراده بكلام يحتمل خلاف ما أراد، وليس في العقل دليل على ما أراد ، وهذا ما لا يقع إلا من جاهل ناقص عاجز عن البيان ، أو متعمد لاضلال المخاطبين عن الغرض، وعدوله عن الافهام . وقد أجل الله نبيه عن هذين القسمين وأشباههما من النقص عن الكمال . وشئ آخر وهو : إذا كان لفظ " مولى " ينقسم على عشرة أقسام ، ثم اعتبرنا ثمانية منها، فاخرج لنا الاعتبار أن النبي صلى الله عليه وآله لم يقصد إلى شئ منها، ولم يرده على وجه من الوجوه، ولا سبب من الاسباب ، ثبت أنه عليه وآله السلام أراد الخارج عنها من الاقسام، أو بعضه كائنا ما كان، لا محالة، إذ كان لا يخلو كلامه صلى الله عليه وآله من مراد ، وهذا مما لا شك فيه ولا ارتياب . فنظرنا في القسم الذي يلي الاول على ما رتبناه ، وهو " مالك الرق " فوجدناه مما لا يجوز ان يقصده النبي عليه وآله السلام ، لانه لم يكن علي مالكا لرق كل من ملك النبي صلى الله عليه وآله رقه ، فيكون بذلك مولى من كان مولاه . ونظرنا في الذي يليه ، وهو " المعتق " ، وكان القول فيه كالقول في "مالك الرق" سواء ، لان أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن معتقا لكل من أعتقه النبي صلى الله عليه وآله من الرق ، فيكون لذلك مولاه . ولا كان عليه السلام معتقا من رق ، ولا الرسول كذلك حاشاهما من ذلك . ولم يجز أن يعنى من كنت ابن عمه فعلي ابن عمه، لان هذا لغو من الكلام مع معرفة الجميع بان عليا عليه السلام ابن عم الرسول صلى الله عليه وآله، وعلمهم يقينا بالاضطرار بأن ابن عم الرجل هو ابن عم جميع بني عمه على كل حال . ولا يجوز أن يريد " الناصر " ، لان المسلمين كلهم أنصار من نصره النبي عليه وآله السلام ، فلا معنى لتخصيصه من الجماعة بما قد شاركته فيه على البيان ، لان هذا هو العبث في الفعل ، واللغو في الكلام . ولم يكن كل من تولى النبي عليه وآله السلام تولى علما ، ولا يجوز أن يخبر بذلك كله لتنافي الكلام ، ولا يجب أن يكون قد أوجبه لامرين : (الاول) : أنه خاطب الكافة ، ولم يكونوا بأسرهم أولياء على معنى الاعتزاء إليه بضمان الجرائر ، واستحقاق الميراث . (والثاني) : للاتفاق على أن ذلك لم يكن واجبا في شئ من الازمان . ولا يجوز أن يكون قصد معنى "الحليف" ، لانه لم يكن عليه السلام حليفا لجميع حلفاء النبي صلى الله عليه وآله . ولا معنى لارادته بلفظ مولى "الجار" ، لانه قد كان معروفا عند جميع من عرف منزلة علي عليه السلام أنه جار من جاوره النبي عليه وآله السلام في الدار ، بحلوله معه في المكان ، ولا إذا افترقا بالاسفار ، ولم يجب أن يكون علي عليه السلام جارا لجيران النبي عليه وآله السلام ، وكان الخبر عن ذلك كذبا من الاخبار . مع انه لو كان حقا لم يكن فيه فائدة توجب جمع الناس لها ، وتقريرهم على الطاعة وتعظيم الشأن . فلم يبق إلا أنه ( ما ) أراد بقوله : " من كنت مولاه فعلي مولاه " إلا الامامة التي يعبر عنها تارة بلفظ أولى ، ويعبر عنها بصريح فرض الطاعة ، فانه أحرى وهذا واضح البرهان . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1]- اشار العلامة الشيخ عبد الحسين الاميني قدس سره إلى جل هذه الطرق والاسانيد في كتابه الشهير " الغدير " فلاحظ .
اترك تعليق