• من البراهين على وجود الله: برهان النظم وهو يبتني على اربع مقدمات الأولى: إِنَّ وراء الذهن الإِنساني عالماً مليئاً بالموجودات، محتفاً بالظواهر الطبيعية. وإِنَّ ما يتصوره الإِنسان في ذهنه هو انعكاس للواقع الخارجي، وهذه المقدمة قد أطبق عليها الإِلهيّ والماديّ رافضَيْن كل فكرة قامت على نفي الواقعية ولجأت إلى المثالية، بمعنى نفي الحقائق الخارجية. إِنَّ كل إِنسان واقعي يعتقد بأَنَّ هناك قمراً وشمساً وبحراً ومحيطاً وغير ذلك. كما يعتقد بوجوده، وذهنه والصور المنعكسة فيه، وهذه هي الخطوة الأُولى في مضمار معرفة الله، وهي التصديق بالواقعيات. ويشترك فيها الفلاسفة الواقعيون، دون المثاليين بمعنى الخياليين... الثانية: إِنَّ عالم الطبيعة خاضع لنظام محدد، وإِنَّ كل ما في الكون لا ينفك عن النّظم والسنن التي كشفت العلوم الطبيعية عن بعضها، وكلما تطورت هذه العلوم خطا الإِنسان خطوات أُخرى في معرفة الكون والقوانين السائدة عليه. الثالثة: أصل العلية، والمراد منه أنَّ كل ما في الكون من سنن وقوانين لا ينفكّ عن علة توجده وأنَّ تكون الشيء بلا مكوّن وتحققه بلا علة، أمر محال لا يعترف به العقل، بالفطرة، وبالوجدان والبرهان. وعلى ذلك فكل الكون وما فيه من نظم وعلل نتيجة علة أوجدته وكونته. الرابعة: إِنَّ دلالة الأَثر تتجلى بصورتين: أ- وجود الأَثر يدل على وجود المؤثر، كدلالة المعلول على علّته، والآية على صاحبها، وقد نقل عن أَعرابي أَنَّه قال: "البعرة تدل على البعير، وأَثر الأقدام يدل على المسير"، إلى غير ذلك من الكلمات التي تقضي بها الفطرة. وهذه الدلالة مما لا يفترق فيها الماديّ والإِلهي، وإِنما المهمّ هو الصورة الثانية من الدَّلالة. ب- إِنَّ دلالة الأَثر لا تنحصر في الهداية إلى وجود المؤثر، بل لها دلالة أُخرى في طول الدلالة الأُولى، وهي الكشف عن خصوصيات المؤثر من عقله وعلمه وشعوره، أو تجرده من تلك الكمالات والصفات وغيرها. ولنوضح ذلك بمثال: إِنَّ كتاب "القانون" المؤلف في الطب، كما له الدَّلالة الأُولى وهي وجود المؤثر، له الدَّلالة الثانية وهي الكشف عن خصوصياته التي منها أَنَّه كان إنساناً خبيراً بأُصول الطب وقوانينه، مطّلعاً على الدَّاء والدَّواء، عارفاً بالأَعشاب الطبية، إلى غير ذلك من الخصوصيات...فالمهم في هذا الباب هو عدم الإِقتصار على الدلالة الأُولى بل التركيز على الدلالة الثانية بوجه علمي دقيق. وعلى ضوء هذه القاعدة يقف العقل على الخصوصيات الحافة بالعلة، و يستكشف الوضع السائد عليها، و يقضي بوضوح بأَنَّ الأَعمال التي تمتاز بالنظام و المحاسبة الدقيقة ، لا بد أَنْ تكون حصيلة فاعل عاقل، إستطاع بدقته أن يوجد أثره و عمله ، هذا. كما يقضي بأنَّ الأَعمال التي لا تُراعَى فيها الدّقة اللازمة والنظام الصحيح، تكون ناشئة عن عمل عامل غير عاقل، وفاعل بلا شعور ولا تفكير، فهذا ما يصل إليه العقل السليم بدرايته. ولتوضيح الحال نأتي بالمثال : لنفترض أَنَّ هنا مخزناً حاوياً لأطنان عدة من مواد البناء بما فيها الحجر والحديد والإِسمنت والجص والخشب والزجاج والأَسلاك والأنابيب و غيرها من لوازم البناء، ثم وضع نصف ما في هذا المخزن تحت تصرف أَحد المهندسين أَو المعماريين، لينشئ به عمارة ذات طوابق متعددة على أَرض منبسطة. وبعد فترة من الزمن جاء سيل جارف و جرف ما تبقى في المخزن من مواد الإِنشاء و تركها على شكل تل على وجه الأرض. إِنَّ العمل الأَول (العمارة) قد نتج عن عمل و إِرادة مهندس عالم. أَمَّا الثَّاني (التل) فقد حدث بالفعل الطبيعي للسيل من دون إِرادة و شعور. فالعقلاء بمختلف مراتبهم وقومياتهم وعصورهم يحكمون بعقلانية صانع العمارة، ومدى قوة إِبداعه في البناء، من وضعه الأعمدة في أَماكنها المناسبة وإِكسائه الجدران بالمرمر، و نصبه الأَبواب في مواضعها الخاصة، ومدّه الأَسلاك وأَنابيب المياه الحارة والباردة ووصلها بالحمامات والمغاسل، وغير ذلك مما يتبع هندسة خاصة و دقيقة. ولكن عندما نخرج إلى الصحراء كي نشاهد ما صنعه السيل ، فغاية ما نراه هو انعدام النَّظام والترتيب فالحجر والمرمر قد اندثر تحت الطين والتراب، والقضبان الحديدية قد طرحت إلى جانب، والأَسلاك تراها مقطعة بين قطعات الآجرّ، والأَبواب مرمية هنا وهناك، وغير ذلك من معالم الفوضى والتبعثر. وبشكل عام ، إِنَّ المعدوم من هذا الحشد هو النظام و المحاسبة ، إِذ لا هندسة و لا تدبّر. فالذي يُستنتج أنَّ المؤسس للبناء ذو عقل وحكمة، و المُحْدِث للتل فاقد لهما، فالمهندس ذو إِرادة والسيل فاقد لها، والأَول نتاج عقل وعلم ، والثاني نتاج تدفق الماء وحركته العمياء... وبعد ذكر الأَمثلة المتقدّمة يتَّضح لنا الفرق بين الأعمال التي تصدر عن إِرادة و تدبّر، و التي تحدث عن طريق الصدفة، إِذ لا إرادة فيها و لا تدبر. وهذه القاعدة التي يدركها العقل (لا بفضل التجربة بل في ضل التفكر والتعقل) هي روح برهان النَّظم الذي هو من أَوضح براهين الإِلهيين في إِثبات الصانع ورفض الإِلحاد والمادية، واشملها لجميع الطبقات. وملخص بيانهم في تطبيق هذه المقدمة على العالم ، هو أَنَّ العلم لم يزل يتقدم و يكشف عن الرموز و السنن الموجودة في عالم المادة و الطبيعة و العلوم كلها بشتى أَقسامها و أَصنافها و تشعبها و تفرعها تهدف إلى أمر واحد وهو أَنَّ العالم الذي نعيش فيه، من الذرة إلى المجرة عالم منسجم تسود عليه أَدق الأَنظمة والضوابط، فما هي تلك العِلَّة؟ أقول : إنها تتردد بين شيئين لا غير. الأول : إنَّ هناك موجوداً خارجاً عن إطار المادة عالماً قادراً واجداً للكمال والجمال ، قام بإيجاد المادة وتصويرها بأدق السنن، وتنظيمها بقوانين وضوابط دقيقة، فهو بفضل علمه الوسيع و قدرته اللامتناهية، أوجد العالم وأجرى فيه القوانين، وأضفى عليه السنن التي لم يزل العلم من بدء ظهوره إلى الآن جاهداً في كشفها، ومستغرقاً في تدوينها، وهذا المؤثر الجميل ذو العِلم و القدرة هو الله سبحانه. الثاني : إِنَّ المادة الصَّماء العمياء القديمة التي لم تزل موجودة، وليست مسبوقة بالعدم، قامت بنفسها بإِجراء القوانين الدقيقة، وأَضفت على نفسها السُّنن القويمة في ظل إِنفعالات غير متناهية حدثت في داخلها و انتهت على مر القرون والأَجيال إلى هذا النظام العظيم الذي أَدهش العقول وأبهر العيون. إِذا عرضنا هاتين النظريتين على المقدمة الرابعة لبرهان النظم، وهي قادرة على تمييز الصحيح من الزائف منهما، فلا شك أنها ستدعم أُولاهما وتبطل ثانيتهما لما عرفت من أنَّ الخصوصيات الكامنة في وجود المعلول والأَثر، تعرب عن الخصوصيات السائدة على المؤثر والعلّة، فالسّنن والنُّظم تكشف عن المحاسبة والدقة، و هي تلازم العِلْم والشعور في العلَّة، فكيف تكون المادة العمياء الصمَّاء الفاقدة لأي شعور هي التي أوجدت هذه السُّنن و النُّظم؟. وعلى ضوء ذلك فالسُّنن والنُّظم، التي لم يتوفق العلم إِلا لكشف أَقل القليل منها، تثبت النظرية الأولى وهي احتضان العلَّة واكتنافها للشعور والعِلْم وما يناسبهما، وتبطل النظرية الثانية وهي قيام المادة الصَّماء العمياء بإِضفاء السُّنن على نفسهابلا محاسبة ودقة بتخيل أَنَّ انفعالات كثيرة، حادثة في صميم المادة، انتهت إلى ذاك النظام المبهر تحت عنوان « الصدفة » أو غيرها من الصراعات الداخلية التي تلوكها أَلسنة الماركسيين. وعلى ذلك فكل علم من العلوم الكونية، التي تبحث عن المادة وخصوصياتها وتكشف عن سننها وقوانينها، كعملة واحدة لها وجهان، فمن جانب يعرّف المادة بخصوصياتها، ومن جانب آخر يعرّف موجدها وصانعها. فالعالم الطبيعي ينظر إلى واحد من الوجهين كما أَنَّ العارف ينظر إلى الجهة الأخرى والعالم الربّاني ينظر إلى كلتا الجهتين ويجعل الأُولى ذريعة للثانية. وبهذا نستنتج أنَّ العلوم الطبيعية كلها في رحاب إثبات المقدمة الرَّابعة لبرهان النظم، وأَنَّ اكتمال العلوم يعين ذلك البرهان بأوضح الوجوه وأدقّ الطرق، وأَنَّ الإِعتقاد بالصانع العالم القادر يصاحب العِلْم في جميع العصور والأَزمان. و في الختام نركز على نقطتين : الأُولى : إِنَّ القرآن الكريم ملي بلفظة « الآية » و« الآيات » ، فعندما يسرد نُظُم الطبيعة وسُنَنَها، ويعرض عجائب العالم و غرائبه ، يعقبه بقوله : ( إِنَّ في ذلِكَ لآية لِقَوْم يَتَفَكَّرُون ) أَو( يذَّكَّرون ) أَو( يعقلون ) إلى غير ذلك من الكلمات الحاثة على التفكر و التدبر ، و هذه الآيات تعرض برهان النَّظم بأوضح أشكاله على لسان الفطرة .. مشعرة بأَنَّ التفكر في هذه السنن اللاحبة والنظم المحيَّرة يكشف بوضوح عن أَنَّ جاعلها موجود، عالم قادر ، بصير ومن المحال أَنْ تقوم المادة الصمّاء العمياء بذلك. ولأجل أَنْ يقف القارئ الكريم على بعض هذه الآيات نشير إلى ما ورد في سورة النحل في هذا المضمار : 1 ـ قوله سبحانه : ( يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالاَْعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ ) (النحل : 11). 2 ـ قوله سبحانه : {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الاَْرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِّقَوْم يَذَّكَّرُونَ} (النحل : 13). 3 ـ قوله سبحانه : {وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِّقَوْم يَسْمَعُونَ} (النحل : 65). 4 ـ قوله سبحانه : {وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالاَْعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِّقَوْم يَعْقِلُونَ} (النحل : 67). 5 ـ قوله سبحانه : {ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ} (النحل : 69). الثانية : إِنَّ برهان النَّظم و إِنْ كان يعتمد على مقدمات أَربع غير أَنَّ الثلاثة الأُول مما اتفق فيه جميع العقلاء إلاّ شذّاذ الآفاق من المثاليين المنكرين للحقائق الخارجية. وإِنما المهم هو التركيز على توضيح المقدمة الرابعة باستعانة من العلوم الطبيعية والفلكية وغيرها التي تعد روحاً وأَساساً لتلك المقدمة. وفي هذا المضمار نجد كلمات بديعة لخبراء العلم من المخترعين والمكتشفين : يقول « كلودم هزاوي » مصمم العقل الإِلكتروني : طلب مني قبل عدة سنوات القيام بتصميم آلة حاسبة كهربائية، تستطيع أَنْ تحل الفرضيات والمعادلات المعقدة ذات البعدين، واستفدت لهذا الغرض من مئات الأدوات واللوازم الالكتروميكانيكية، وكان نتاج عملي وسعيي هذا هو «العقل الالكتروني». وبعد سنوات متمادية صرفتها لإنجاز هذا العمل، و تحمل شتّى المصاعب وأَنا أَسعى لصنع جهاز صغير، يصعب عليَّ أن أتقبل هذه الفكرة وهي أَنَّ الجهاز هذا، يمكن أَنْ يوجد من تلقاء نفسه دون حاجة إلى مصمم. إِنَّ عالمنا مملو بالأَجهزة المستقلة لذاتها والمتعلقة بغيرها في الوقت ذاته، وتعتبر كل واحدة منها أَعقد بكثير من العقل الإِلكتروني الذي صنعته، و إِذا استلزم أَنْ يكون للعقل الالكتروني هذا مصمم فكيف يمكننا إِذن أَنْ ننفي هذا القول بالنسبة إلى أجسامنا بما فيها من خواص حياتيّة وأعمال فيزيائية وتفاعلات كيميائية، فلا بد من وجود مصمّم حكيم خالق لهذا الكون والذي أنا جزء حقير منه (1). والعجب من الفرضية التي يعتمد عليها الماديون خلفاً عن سلف، ويقولون بأنّ الإِنفعالات اللامتناهية اللاشعورية انتهت صدفة إلى هذا النظام البديع. يقول البروفسور « أَدوين كونكلين » في حق هذه النظرية : إِنَّ هذا الإِفتراض لا يختلف عن قولنا : « اِنَّ قاموساً لغوياً ضخماً أَنتجته المطبعة إِثْر انفجار فيها ». إِنَّ نظام الكون الدقيق يجعل العلماء يتنبأون بحركة السيارات والأَقمار الفلكية، و التعبير عن الظواهر الطبيعية بمعادلات رياضية. إِنَّ وجود هذا النظام في الكون بدلا من الفوضى، لدليل واضح على أَنَّ هذه الحوادث تجري وفق قواعد وأسس معينة وأنّ هناك قوة عاقلة، مهيمنة عليه، ولا يستطيع كل من أوتي حظاً من العقل أَنْ يعتقد بأَنَّ هذه المادَّة الجامدة الفاقدة للحس والشعور وفي إِثْر الصدفة العمياء ـ قد منحت نفسها النظام، و بقيت و لا تزال محافظة عليه (2). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ـ العلم يدعو للإِيمان ، ص 159. 2 ـ المصدر السابق نفسه. المصدر : ينظر : الإلهيات/آية الله جعفر السبحاني. [ج 1.ص33-42] .
اترك تعليق