لكل شيء موسم وربيع، فما هو موسم القرآن وربيعه؟
إنه شهر رمضان المبارك، شهر فيه ليلة القدر التي أنزل فيها القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
فحينما يصوم الصائم في هذا الشهر الكريم، فكأنه يشحذ ذهنه لاستقبال كلمات الله؛ الله الذي إذا اقترب العبد منه شبراً اقترب هو إليه ميلاً.
وغالبا ما تخوض قلوب المؤمنين خلال شهر رمضان في عملية تطهير وتنقية وابتعاد عن شوائب الدنيا والعلاقات المادية، حيث تستقبل النور والهدى، ولذلك كانت تلاوة القرآن فيه أفضل من سائر الشهور.
ولقد رأينا من سلفنا الصالح من المؤمنين والعلماء من يختم القرآن ثلاثين أو أربعين مرة، حيث كانوا يتلون آياته في الليل والنهار، فكانوا -بذلك- يعيشون مهرجان الحب والإيمان في رحاب الرب الرؤوف الرحيم.
وأعلم أنه ليس المطلوب المؤكد ان تكون مثل أولئك العلماء، ولكن لتحرص على تلاوة كتاب الله ما استطعت في هذا الشهر الفضيل، ولتختر أفضل الساعات للتلاوته، ولاسيما في ساعات السحر والفجر، حيث يحين موعد إلتقاء ملائكة الله الكرام؛ الهابطين والصاعدين بين الأرض والسماء، ولتجهد نفسك في تذكيرها بآيات الله وجزيل ثوابه وعظيم عقابه.
القرآن محراب العبادة :
رغم أننا فقدنا الأنبياء والرسل والأوصياء كأبدان، فإن القرآن الكريم ـ وهو خاتم الرسالات وكلمات الوحي ـ لا يزال بيننا. فإذا أردنا أن نكون مؤمنين وإلهيين ومحمدين وعلويين، فعلينا بقراءة القرآن والسير في آفاقه اللامحدودة. فالقرآن سياحة المؤمن وروضة قلبه، وهو معراج الإنسان الذي يحب الله ويريده. وبكلمة: هو محراب عبادة الإنسان الحقيقي، وقربان لكل من أراد العروج إلى الله سبحانه وتعالى.
وعلى هذا الأساس، لنا ان نتساءل عن سبل التدرج عبر القرآن إلى درجات الوعي والتقوى الأخرى؟
إنما الإجابة عن ذلك تكمن في نقطتين:
الأولى؛ إن من آداب قراءة القرآن إظهار الاحترام القلبي له؛ بمعنى ضرورة معرفة من يتحدث إلينا، وهو رب العزة والعظمة. إذن فليس من الصحيح قراءة كتاب الله مالم يتحسس القارئ حالة الإقبال والخشوع والخضوع والتوجه إلى الله سبحانه في نفسه، وآنذاك ليفتح قلبه على القرآن.
ولكن البعض من الناس يسمعون آيات الله عبر المذياع -مثلاً- غير أنهم يهتمون بالإنشغال بأمور أخرى. وهذا خطأ كبير، لأن الواجب على الإنسان المسلم هو الاستماع إلى القرآن والإقبال عليه والتدبر في كلماته المباركة، وذلك لأن هذه الكلمات هي كلمات الله وليست كلمات البشر التي قد لا ينبغي التوجه إليها في أحيان معنية. وعموما فإنه ينبغي لنا احترام كتاب الله بمختلف ألوان الاحترام والاعتزاز والتكريم، لأنه هدية الله التي تفضل بها علينا.
أما النقطة الثانية؛ فهي ضرورة معالجة أنفسنا بآيات ربنا. فإذا قرأنا آية من القرآن الكريم وكان فيها إشارة إلى خلق فاضل أو خلق سيء أو إلى عمل صالح أو طالح، فلنسائل أنفسنا عن وجود هذا الخلق الصالح والعمل الرفيع أو عدم وجوده فينا، فإن كان موجوداً فرحنا، وإن لم يكن سعينا إلى تكريسه في أنفسنا.
وهكذا يكون كتاب الله ووسيلة رحمته العظيمة معراجاً لنا، إذا أردنا الاستفادة منه عبر إحترامه بشتى الوسائل وعبر معالجة أنفسنا بآياته المباركات.
لنتلوا القرآن :
{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي اُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } (البقرة/185)
كان ربيع القرآن وميلاده شهر رمضان؛ الشهر الكريم الذي يضاعف الله سبحانه وتعالى فيه عمل الإنسان أضعافاً كثيرة، ولا سيما قراءة القرآن المجيد. فما أروع أن يتحدث الله مع عبده الصائم، فيعيش هذا الأخير الأجواء الروحية الرمضانية التي مَنّ الله بها عليه ؟
فيا ترى هل يعلم الإنسان كيف يصبح جليس ربه، فيكون محدَّثه؟
عليه أن يعرف إن وسيلة ذلك هي قراءة القرآن؛ قراءةً لا يكون محورها التخلص منها والوصول الى نهايتها، وإنما ينبغي أن يقرأ الآيات القرآنية، فيكون همّه الاستماع بأذنه وبقلبه وبروحه وبعقله.. فيثار العقل وتطهر الروح ويصفو القلب وتعي الأُذن.
ولكن؛ كان ديدن الناس البحث عن كيفية تنمية أموالهم وأولادهم وسمعتهم في المجتمع، فينسون بين هذا وذاك تنمية أنفسهم، وهي العلّة الأولى التي من أجلها خُلقوا. وهذا يعني ويتضمن هجرتهم للقرآن الكريم الذي من فوائده الأساسية تنمية وتنزيه النفوس والسمو بها إلى أعلى عليين..
أقول: لقد كان لزاماً على الإنسان المسلم أن يتدبر آيات الكتاب المجيد، ويتمعّن في كلماتها، فالله قد تجلى لعبده البصير ذي العقل، والمفكر والمتذكر دون غيره..
إن شهر رمضان الذي مدحه القرآن ورفع من درجة أيامه، لأنها الأيام التي أنزله الله فيها، وهو القائل عز أسمه: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي اُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْانُ } ففيه الهدى لمن يعيش العمى، وفيه البينات من الهدى لمن يرغب في إحراز اليقين والبصيرة والعلم والفهم والعمق والقرب من المعنويات والشهود والحقيقة، فيكون كأنه فيها ومنها وعليها.
فإذا قرأ المرء كتاب ربه الجليل انطلاقاً من هذه البصيرة، كان له فرقاناً يميز له الحق عن الباطل، والصح عن الخطأ، والخير عن الشر، وما ينفع عن ما يضر.. فيكون بذلك فوق الآخرين، لأنه ملك الميزان، فأصبح دليلاً لغيره على الطريق الصحيح. وهذه بالذات بغية الإنسان المتطلع إلى النور دوماً.
إذن؛ فشهر رمضان فرصة ثمينة جداً في إطار التقرب من القرآن ومن منُزله؛ الله العلي القدير، فلنسعَ إلى أن نكون معه، ونأنس به، ونقرأه بحب ومعرفة وتأمل..
أحاديث رمضانية / سماحة السيد محمد تقي المدرسي
اترك تعليق