يُحكى أن فتىً سأل أباه عن فائدة المواضبة على قراءة القرآن إذا كان لا يتلمّس تأثيرَ ذلك على نفسه. فلم يجبه أبوه بشيء بل طلب منه أن يحملَ سلةَ الخوص التي يستعملها في نقل الفحم ويجلبَ به ماءً من الحوض. تناول الصبيُ السلةَ وهو غيرُ مصدق وأدخلها في الحوض وجاء بها إلى أبيه مستغرباً وكانت السلة خالية تماماً من الماء. واستغرب أكثرَ عندما طلب منه أبوه أن يُعيدَ المحاولةَ فأعادها مراتٍ ومراتٍ ولكنه لم يوصل شيئاً من الماء لأبيه. فوقف في المرة الأخيرة مستفهِماً فقال له أبوه: انظر إلى السلة نفسِها، هل لازال سوادُ الفحم عالقاً بها؟ قال الفتى: كلا يا أبي. قال الأب: كذلك القرآن، يقرأه الإنسان مراتٍ ومراتٍ ويُخيَّل إليه أنه لا يؤثر فيه، والواقعُ أنه يؤثر في أعماقِه من حيثُ لا يشعر.
قبلَ فترة تعالت صيحة أو صيحتان تدعوان إلى عدم المبالغة في التعاطي مع القرآن تلاوة وحفظاً وترديداً مستندتين في دعوتهما إلى قوله تعالى ((فاقرؤوا ما تيسّرَ منه)) وإلى أنه لم ترِدْ دعوةٌ قرآنيةٌ صريحةٌ إلى حفظِ القرآن. وتبريراً لهذه الدعوة شرح أصحابُها أن الالتزامَ بتعاليم القرآن خيرٌ من صرف الهمة والوقت والجهد في حفظِ آياتِه بلا تدبّرٍ ولا عمل.
ظاهرُ الكلام جميلٌ لا مراءَ فيه ولا يمكن أن يعترضَ عليه عاقل. ولكنّ هذا الكلامَ الجميلَ يمثل وجهاً واحداً فقط من وجهي الحقيقة. أما الوجه الثاني، وهو الأقربُ إلى الواقع، فيتمثلُ في أخذِ الواقع الأخلاقي والديني للمجتمعات البشرية المسلمة وغير المسلمة بنظر الاعتبار. إن النظرة الواقعية للوضع الأخلاقي والديني لعموم البشر تدفع المهتمين إلى عدم التفريط بأيةِ وسيلةٍ مهما كانت ضئيلة لإنقاذِ ما يمكن إنقاذه في الخراب المتسارع الذي يجتاح البشر، فكيف إذا كانت هذه الوسيلة الانصرافَ إلى القرآن تلاوة وحفظاً وتفسيراً وما إلى ذلك؟
نعم، المطلوب قراءةُ القرآن قراءةَ تدبّر متأنيةً متفحصة. والمطلوبُ، فوق ذلك، الالتزامُ الحرفيُ بما جاء به القرآن والعملُ بمبادئه والتقيدُ بتعاليمه. هذا مطلوبٌ حتماً وهو ما يوصي به القرآن نفسُه ويوصي به حملة القرآن المعصومون عليهم السلام. ولكن هل هذا يعني أن على من لا يُدرك حقيقة التدبّر في القرآن وصحة العمل به أن يُعرض عنه؟ هل معنى هذا أنك إما أن تكون مثالياً في التعاطي مع القرآن أو تتركه وراءَ ظهرك؟
هذا جانب، وثم جانبٌ آخر لا يَقِلّ أهميةً عنه إن لم يفقه أهمية وهو أنه مما لا يختلف عليه علماء النفس والتربية أن الترديدَ ولقلقةَ اللسانِ لهما دورٌ كبيرٌ في صاحبِهما. لذا نجدُ التعليمَ في مراحلِه الابتدائيةِ لا يقومُ على مخاطبةِ العقلِ بقدْرِ قيامِه على الترديد وزرع المعرفة في الطفل من خلال تكرار مقاطعَ لفظيةٍ قد لا يفهم منها شيئاً.
وإذا كان "من شبّ على شيءٍ شاب عليه" فهل أحلى وأنقى من القرآن ما ينبغي أن يشب عليه المرء ثم يشيب عليه؟ هذا والحياة زاخرة بشواهدَ من أشخاص أعادهم إدمانُ قراءة القرآن في الصغر إلى جادة الهدى بعد أن انحرف بهم طيشُ الشباب عنها. ثم إنه إذا كان التربويون والمثقفون ينصحون بتحفيظ الأطفال الشعرَ والنثرَ الأدبيَ والأغاني والأناشيدَ والألحانَ الموسيقيةَ في وقتٍ مبكرٍ ليتركَ (التحفيظ) أثرَه في أعماقِهم ثم يظهر بمظاهرَ إيجابيةٍ على سلوكِهم، فلماذا لا يكون لحفظ القرآن والإدمان على قراءته دورٌ في تنشئةِ الأطفال والتمهيدِ لبناءِ شخصياتِهم؟
وإدمانُ التعاطي مع القرآن، ولو باللقلقةِ وحدَها، يمثل قيداً على صاحبِه إذا اشتُهر به وإلزاماً له بالتحلي بمكارمِ الأخلاق ولو في الظاهر فقط. لذا يقالُ في التربية الدينية بأن لا يُتركَ الذكرُ ولو باللسان وحدَه بدون حضور القلب لأن أيسرَ ما ينتج عنه أنه يشغلك عن الغيبة وعن اللغو في الحديث. وإذا استمر الإنسان على ذلك تكونت عنده ملكة الإكثار من الذكر واستهجان اللغو. ولاشك أنه في مستقبل الأيام سيتغلغل الذكرُ اللسانيُ إلى القلب والروح ويتحول إلى ذكرٍ حقيقيٍ يستجلب الصلاح.
الكاتب / كاظم الجابري
اترك تعليق