تكرار القصّة في القرآن الكريم

من ظواهر القصّة في القرآن الكريم هي ظاهرة تكرار القصّة الواحدة في مواضع مختلفة من القرآن، وقد أُثيرت بعض المشاكل حول هذه الظاهرة حيث يُقال: إنّ هذا التكرار قد يشكّل نقطة ضعفٍ في القرآن الكريم؛ لأنّ القصّة بعد أن تُذكر في القرآن مرّةً واحدةً تستنفد أغراضها الدينية والتربوية والتأريخية، وقد أُثيرت هذه المشكلة في زمنٍ متقدّمٍ من البحث العلمي؛ لذا نجد الإشارة في مفردات الراغب الأصفهاني، وفي مقدّمة تفسير التبيان للشيخ الطوسي(1) ، والطوسي وإن كان يبدو أنّه لم يعالج المشكلة بشكلٍ رئيسٍ، ولكنّه يدلّ على الأقل أنّ المشكلة قد طُرحت على صعيد البحث القرآني.

ونحن هنا نذكر بعض الوجوه التي يمكن أن تكون تفسيراً لتكرار القصّة الواحدة في القرآن الكريم:

-الأوّل:

إنّ التكرار إنّما يكون بسب تعدّد الغرض الديني الذي يترتّب على القصّة الواحدة، (2) و أنّ أهداف القصّة متعدّدة، فقد تجيء القصّة في موضعٍ لأداء غرضٍ معيّنٍ وتأتي في موضعٍ آخر لأداء غرضٍ آخر وهكذا.

-الثاني:

إنّ القرآن الكريم اتخذ من القصّة أُسلوباً لتأكيد بعض المفاهيم الإسلامية لدى الأُمّة المسلمة، وذلك عن طريق ملاحظة الوقائع الخارجيّة التي كانت تعيشها الأُمّة، وربطها بواقع القصّة من حيث وحدة الهدف والمضمون.

وهذا الربط بين المفهوم الإسلامي في القصّة والواقعة الخارجيّة المعاشة للمسلمين، قد يؤدّي إلى فهمٍ خاطئٍ للمفهوم المراد إعطاؤه للأُمّة ؛ فيُفهم انحصاره في نطاق الواقعة التي عاشتها القصّة ، وظروفها الخاصّة، فتأتي القصّة الواحدة في القرآن الكريم مكرّرةً من أجل تفادي هذا الحصر والتضييق في المفهوم من أجل تأكيد شموله واتساعه لكلّ الوقائع والأحداث المتشابهة؛ ليتّخذ صفة القانون الأخلاقي أو التاريخي الذي ينطبق على كلّ الوقائع والأحداث... إضافةً إلى فاعليّته كمنبّهٍ للأُمّة على علاقة القضيّة الخارجية التي تواجهها ـ في عصر النزول أو بعده ـ بالمفهوم الإسلامي لتستمدّ منه روحه ومنهجه.

ولعلّ هذا السبب هو ما يمكن أن نلاحظه في تكرار قصّة (موسى) والفرق بين روحها العامّة في القصص المكّي وروحها في القصص المدني، فإنّها تؤكّد في القصص المكّية منها العلاقة العامّة بين (موسى) من جانب، وفرعون وملئه من جانبٍ آخر، دون أن تُذكر أوضاع بني إسرائيل تجاه (موسى) نفسه، إلاّ في موردين يذكر فيهما انحراف بني إسرائيل عن العقيدة الإلهيّة بشكلٍ عام؛ وهذا بخلاف الروح العامّة لقصّة (موسى) في السِوَر المدنيّة، فإنّها تتحدّث عن علاقة (موسى) مع بني إسرائيل، وتتحدّث عن هذه العلاقة وارتباطها بالمشاكل الاجتماعية والسياسية.

وهذا قد يدلّنا على أنّ هذا التكرار للقصّة في السِوَر المكّيّة إنّما كان يعني نزول القصّة لمعالجة روحيّةٍ تتعلّق بحوادث مختلفة كانت تواجه النبيَّ والمسلمين، ومن أهداف هذه المعالجة توسعة نطاق المفهوم العام الذي تعطيه قصّة (موسى) في العلاقة بين النبي والجبّارين من قومه أو القوانين التي تحكم هذه العلاقة، وأنّ هذه العلاقة مع نهايتها لا تختلف فيها حادثةٌ عن حادثة، أو موقفٌ عن موقف.

ولعلّ إلى هذا التفسير تُشير الآيات الكريمة التي جاءت في سورة الفرقان:

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً * الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً}[ الفرقان: 32 ـ 35].

فإنّ من المُلاحَظ في هذه الآيات أنّ القرآن يذكر أنّ السبب في التدرّج والترتيل في القرآن الكريم هو : التثبيت للنبي من ناحية، والإتيان بالحق والتفسير الأفضل للوقائع والأحداث والأمثال من ناحيةٍ أُخرى، ثمّ يأتي بهذا التفسير الأحسن من قصّة موسى (عليه السلام).

-الثالث:

إنّ الدعوة الإسلامية مرّت بمراحل متعدّدة في سيرها الطويل، وقد كان القرآن الكريم يواكب هذه المراحل ويماشيها في عطائه وطبيعة أُسلوبه، وهذا كان يفرض أن تُعرض القصّة الواحدة بأساليب متفاوتة في الطول والقِصَر؛ نظراً لطبيعة الدعوة ، وطريقة بيان المفاهيم والعبر فيها، كما نجد ذلك في قصص الأنبياء حين تُعرض في السورة القصيرة المكّيّة، ثمّ يتطوّر العَرْض بعد ذلك إلى شكلٍ أكثر تفصيلاً في السِوَر المكّيّة المتأخّرة أو السِوَر المدنيّة.

-الرابع:

إنّ تكرار القصّة لم يأتِ في القرآن الكريم بشكلٍ يتطابق فيه نصّ القصّة مع نصٍّ آخر لها، وإنّما تختلف الموارد في بعض التفاصيل وطريقة العرض، وطريقة عرض القصّة القرآنية قد تستبطن مفهوماً دينيّاً يختلف عن المفهوم الديني الآخر الذي تستبطنه طريقة عرضٍ أُخرى، هذا الأمر الذي نسمّيه بالسياق القرآني، وهذا يقتضي التكرار أيضاً؛ لتحقيق هذا الغرض السياقي الذي يختلف عن الغرض السياقي الآخر لنفس القصّة، وستتّضح معالم هذه النقاط بشكلٍ أكثر عند دراستنا التطبيقيّة التالية لقصّة موسى في القرآن الكريم.

من كتاب : علوم القرآن / للمؤلف : محمد باقر الحكيم .

____________________

(1) التبيان، مقدمّة المؤلِّف 1: 14.

(2) لزيادة الإيضاح، راجع: التصوير الفنّي في القرآن 128 ـ 134.