القرآن الكريم كتاب القرون والأجيال

  يشير ابن عباس بقوله: إنّ القرآن يفسره الزمان. وهذه حكمة بالغة نطق بها حبر الأُمّة تلميذ الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ ، وأثبتتها التجارب على مرّ الزمان.

  والحقّ يقال: انّ السير التكاملي للعلوم على مرّ الزمان لم يمنع علماء الطبيعة فحسب من إمكانية استنباط حقائق هامة وجديدة من القرآن في حقول العلوم الطبيعية، بل وأتاح للمفسرين أيضاً إمكانية استخراج حقائق قرآنية هامة لم تكن معروفة من ذي قبل، و ذلك بفضل تطور المناهج العلمية المتداولة.

  إنّ القرآن الكريم صدر من لدن حكيم خبير لا يحد ولا يتناهى، ومقتضى السنخية بين الفاعل والفعل أن يكون في فعله أثر من ذاته، فإذا كانت ذاته لا متناهية ولا أوّل لها ولا آخر، فاللازم أن ينعكس شيء من كمالات الذات على الفعل أيضاً، وإلى ذلك يشير رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله ـ في كلامه إذ يتحدّث حول أبعاد القرآن و أغواره، فيقول:

  (فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فانّه شافع مشفّع، وماحل مصدَّق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم، وباطنه علم، ظاهره أنيق، وباطنه عميق، له نجوم، وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى و منار الحكمة، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة، فليجل جال بصره، وليبلغ الصفة نظره، ينج من عطب، ويتخلّص من نشب، فانّ التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور).(1)

  كما أشار أمير المؤمنين علي ـ عليه السَّلام ـ إلى هذه الأبعاد اللا متناهية، وقال في معرض كلامه عن القرآن: (ثمّ أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقّده، وبحراً لا يدرك قعره، فهو ينابيع العلم وبحوره، وبحراً لا ينزفه المستنزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون) إنّ هذه الميزة (البعد اللا متناهي للقرآن) لم تكن أمراً خفياً على بلغاء العرب في صدر الرسالة، وهذا هو الوليد بن المغيرة ريحانة العرب، يشيد بالقرآن ويصفه بقوله:

  واللّه لقد سمعت من محمد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وانّ له لحلاوة، وانّ عليه لطلاوة، وانّ أعلاه لمثمر، وانّ أسفله لمغدق، وانّه ليعلو وما يعلى عليه.(2)

  إنّه سبحانه خصَّ نبيّه بتلك المعجزة الخالدة، وما هذا إلاّ لأنّ الدين الخالد يستدعي معجزة خالدة، ودليلاً وبرهاناً أبدياً لا يختص بعصر دون عصر، والنبي _ صلَّى الله عليه وآله _ وإن جاء بمعاجز ودلائل باهرة لم ترها عيون الأجيال المتعاقبة ولكن عوضهم اللّه سبحانه بمعجزة هي كشجرة مثمرة تعطي أُكلها كلّ حين بإذن ربّها، وينتفع كلّ جيل من ثمارها حسب حاجاته، وإلى هذا يشير الإمام علي بن موسى الرضا (عليمها السَّلام) حين سأله السائل، وقال: ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدرس إلاّ غضاضة؟ فقال الإمام: (إنّ اللّه تعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كلّ زمان جديد، وعند كلّ قوم غضٌّ إلى يوم القيامة).(3)

  اهتمام المسلمين بالكتاب العزيز:

  ارتحل النبي ـ صلَّى الله عليه وآله ـ وترك بين الأُمة تركتين ثمينتين ، إحداهما: الكتاب، والأُخرى: العترة.

  وقد أكبّ المسلمون بعد رحيله على قراءة القرآن وتجويده وكتابته ونشره بين الأُمم.وأسّسوا علوماً كثيرة خدموا بها القرآن الكريم، كما أنّهم وراء ذلك اهتموا بتفسير غريب القرآن و تبيين مفرداته، ومجازاته وتفسير جمله وتراكيبه، وردّ متشابهه إلى محكماته، وتمييز ناسخه عن منسوخه، وتفسير آيات أحكامه، وإيضاح قصصه وحكاياته، وأمثاله وأقسامه، واحتجاجاته ومناظراته، إضافة إلى بيان أسباب نزوله، وكلّ ذلك يعرب عن الأهمية الفائقة التي يحظى بها القرآن الكريم.

  وفي ظل هذه الجهود المضنية ظهرت تفاسير في كلّ قرن وعصر لو جمعت في مكان واحد لشكلت مكتبة ضخمة لا يستهان بها(4).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1-النواة في حقل الحياة،مفتي الموصل الشيخ العبيدين2-مجمع البيان:5/387، طبع صيدا، وقد سقط عن النسخة لفظة «عليه» من قوله: (وما يعلى).3-.البرهان في تفسير القرآن ، للسيد البحراني: 1/284-مفاهيم القران، جعفر الهادي.