التدبر : هو أخْذ الشيء بعد الشيء وهو الوقوف عند الآيات والتعمّق بها وأخذ العبرة للعمل بها، فهو في الواقع ناتج عن التفسير والتأويل الصحيحين.
إن القران الكريم يدعو دعوة صريحة إلى التدبر في آياته:
حيث يؤكد أن الهدف من نزوله هو أن يتدبر الناس فيه، فيقول: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) ذلك لأن من الطبيعي أن يعتبر التدبر الهدف المبدئي لنزول القرآن.
وفي سبيل الوصول إلى هذه الغاية جعل الله القرآن كتاباً ميسراً للفهم، وفي هذا المجال يقول القرآن:
(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) ولأهمية هذا الأمر يكرر القرآن هذه الآية الكريمة في سورة القمر أربع مرات. ويقول أيضاً: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ويقول: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا).
والقرآن ليس فقط يدعو الناس إلى التدبر في آياته، وإنما يطلب منهم أن يمارسوا التدبر العميق أيضاً، كما نفهم من قوله سبحانه: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا)، قال العلامة الطباطبائي في الميزان: الآيةُ تحضيضٌ في صورة الاستفهام.
والتدبر هو أخْذ الشيء بعد الشيء، وهو في مورد الآية: التأمل في الآية عقيب الآية، أو التأمل بعد التأمل في الآية الواحدة.
فالمراد ترغيبهم أن يتدبروا في الآيات القرآنية، ويراجعوا في كل حكم نازل أو حكمة مبينة أو قصة أو عظة أو غير ذلك في جميع الآيات المرتبطة به مما نزلت مكيتها ومدنيتها ومحكمها ومتشابهها، ويضموا البعض إلى البعض حتى يظهر لهم أنه لا اختلاف بينها.
فالآيات يصدق قديمها حديثها، ويشهد بعضها على بعض، من غير أن يكون بينها أي اختلاف مفروض لا اختلاف التناقض: بأن ينفي بعضها بعضاً أو يتدافعا، ولا اختلاف التفاوت: بأن تتفاوت الآيتان من حيث تشابه البيان أو متانة المعاني والمقاصد. فارتفاع هذه الاختلافات من القرآن يهديهم إلى أنه كتاب منزل من الله، وليس من عند غيره. وإذا لاحظنا:
أ. أن هذه الآية نزلت في المنافقين والمترددين، كما يظهر من الآيات السابقة.
ب. أنها تدعو هؤلاء إلى التدبر في القرآن حتى يطمئنوا بأنه من عند الله، ويزول بذلك نفاقهم وترددهم.
ج. أن كشف عدم الاختلاف وعدم التناقض بين الآيات القرآنية المختلفة يحتاج إلى تدبر عميق، وتأمل كبير.
إذا لاحظنا ذلك لوجدنا أن القرآن يفتح للناس أبواب "التدبر الذاتي" في قضايا عميقة من القضايا القرآنية، وليس هذا فقط، بل وأنه يدعوهم إلى ذلك.
ثم يؤكد القرآن: أن هناك "أقفالا" معينة تغلق قلوب البشر، وتصرفهم عن التدبر في آياته، ويقول: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا). ولكن ما هي هذه القلوب؟ إنها أقفال الجهل والهوى والتهرب من المسؤوليات الثقيلة. وكما كانت هذه الأقفال قديماً، فهي موجودة حديثاً، ولكن بصور حديثة، وأشخاص جدد، وشعارات جديدة. وعلينا أن نحطم هذه الأقفال، ونفتح قلوبنا أمام نور الله المضيء عن طريق التدبر في الآيات القرآنية الكريمة.
وعندما نعود إلى الروايات نجدها تؤكد المعنى ذاته:
1- فهي تأمر بالتأمل بالقرآن الكريم، من أجل استخراج معارفه وكنوزه الدفينة. ففي الحديث المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله): "أعربوا القرآن (أي أحكموا إعراب الكلمات والجمل) والتمسوا غرائبه (أي تأملوا فيه، وتفهموا معانيه الغريبة)." وفي الكافي عن علي بن الحسين (عليهما السلام) أنه قال: "آيات القرآن خزائن، فكلما فتحت خزينة ينبغي لك أن تنظر ما فيها".
2- ومن أجل ذلك ورد الأمر بترتيل القرآن لأنه أقرب إلى التركيز والتأمل، فقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا): "بينه تبيينا ولا تهذه هذ الشعر، ولا تنثره نثر الرمل، ولكن أفزعوا قلوبكم القاسية، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة. فالهذر سرعة القراءة، ونثر الرمل هو التباطؤ فيها بحيث لا ترتبط كلماتها، والتدبر في كلمات القراءة هو التأمل في الآيات، والتدبر في كلمات الله. وعن الإمام الصادق (عليه السلام): "(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) قف عند وعده ووعيده، وتفكر في أمثاله ومواعظه."
3- وتعطينا الروايات نماذج عملية في هذا المجال، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): "كان أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) يقرأ أحدهم القرآن في شهر واحد أو اقل، إنَّ القرآن لا يُقرأ هذرمة، ولكن يرتل ترتيلا، فإذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فقف عندها واسأل الله الجنة، وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها وتعوذ بالله من النار." وفي حديث آخر أن الإمام الرضا (عليه السلام) كان يقرأ القرآن في فترة غير قصيرة، وعندما سُئل عن ذلك أجاب: "ما مررت بسورة إلا فكرت في مكيتها ومدنيتها وعامّها وخاصها وناسخها ومنسوخها…" الخ.
4- ونجد في بعض الروايات دعوة ضمنية إلى التدبر في آيات القرآن، واستنباط الأحكام والقيم الإسلامية منها من كان من أهله. فعن الكافي والتهذيب والاستبصار، عن عبد مولى آل سام، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):" عثرت، فانقطع ظفري، فجعلت على إصبعي مرارة، فكيف أصنع بالوضوء؟" قال (عليه السلام): "يُعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل. قال الله عز وجل (مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) امسح عليه." والمفهوم من قول الإمام "يُعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل" هو أن الأمر لا يحتاج إلى السؤال، علماً بأن الحكم يحتاج إلى تأمل، ذلك لأن الآية الكريمة تدل على عدم وجوب مسح الرجل مباشرة لأنه حرج، فيدور الأمر - في النظرة الأولية - بين: سقوط المسح رأساً، وبين بقائه، ولكن مع سقوط شرط (مباشرة الماسح للممسوح).
إذن، فالآية بظاهرها لا تدل على لزوم المسح على المرارة، ولكن التأمل الدقيق يقضي بأن المسح (بما هو مسح) لا حرج فيه، إنما الموجب للحرج هو اشتراط المباشرة في المسح.
إذن، فالمنفي في الآية الكريمة هو المسح المباشر وليس أصل المسح، ولذلك فالمفروض في هذه الحالة المسح على الإصبع المغطاة.
وهنا يجدر بنا أن نشير إلى كلمة "وأشباهه" في قول الإمام: "يُعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل،" فالإمام (عليه السلام) لم يقصر الحكم على هذه الآية الكريمة، وإنما سحب الحكم إلى كافة الآيات القرآنية المشابهة، وهكذا نجد أن الإمام (عليه السلام) يدعو أصحابه إلى التأمل في الآيات القرآنية، واستنباط المفاهيم والأحكام الدقيقة منها. فالتدبر في هذه الآيات يكون وقفاً على المجتهدين بالطبع، أما التدبر في الآيات الأخرى فهو أمر مفتوح لغيرهم أيضاً.
اترك تعليق