تنبثق اهمية القضاء في النظام الاجتماعي من النظر لحقيقتين في غاية الاهمية ، وهما : اولا : الاشراف على سلوك الافراد لمنع اي تعارض محتمل بين حق الفرد الشخصي وحقوق الاخرين ، عن طريق بسل السلوك المنحرف عن السلوك المتفق عليه اجتماعياً ودينياً .
ثانياً : انزال عقوبة المقاطعة الاجتماعية ، او القصاص ، او النفي بحق المنحرفين . وهذان العاملان يحددان دور القضاء في المجتمع الانساني .
فالقضاء بمعاقبته للمنحرف عن الخط الاجتماعي العام يدعم ـ بالدرجة الاولى ـ المصلحة الاجتماعية العليا ، و ـ بالدرجة الثانية ـ مصلحة الافراد باعتباراتهم الشخصية.
ولاريب ان اهم ما يميز النظام القضائي الاسلامي عن مثيله في الانظمة الاجتماعية الاخرى ، هو انشاؤه وتصميمه من قبل الخالق عز وجل لتحقيق العدالة الجنائية والحقوقية بين الافراد ، كما جاء في قوله تعالى : (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) ، (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) ، ويتمثل ذلك بتقديم منصة القضاء للعارف باحكام الله ، المجتهد العادل الامين الثقة الذي يستطيع استرجاع الحق المغصوب من الظالم ، او انزال القصاص العادل بالجاني ، او اجبار المعتدي على تعويض الضحية مالياً .
وفي كل ذلك يكون الجهاز القضائي ميزاناً للحق ، ووسيلة رادعة وفعالة لحفظ النظام الاجتماعي . فالقضاء لا يحل التنازع الشخصي بين المتخاصمين فحسب ، بل يؤثر في قراراته على النظام التجاري والاقتصادي والسياسي للدولة ، وعلى الحياة العائلية ، وعلى نقل الملكية ، والارث ، وتحصيل العلوم ، وعلى كل انواع العلاقات التي تعارف الاجتماع الانساني على الاقرار بها.
واذا كانت النظرية الرأسمالية الغربية ، لا تزال الى حد اليوم ، منقسمة على ذاتها في تشخيص من الذي يحدد الانحراف والمنحرفين ؛ حيث يذهب الجناح اليساري الى القول بان الطبقة الرأسمالية الغنية هي التي وضعت القوانين الجنائية لحماية مصالحها ضد الفقراء ، ويذهب الجناح اليميني الى القول بان الارتكاز العقلائي في النظام الاجتماعي هو الذي وضع القوانين لحماية المصلحة الاجتماعية العليا .
في جو هذا الاضطراب الفكري الرأسمالي يقف الاسلام ونظامه القضائي شامخاً في تحديد الانحراف وتعريف المنحرف على اصول وقواعد شرعية ثابتة ؛ حيث تصرح القواعد الدينية بان الخالق سبحانه وتعالى هو الذي يحدد الانحراف ، وهو الذي يعاقب عليه ، وهو الذي يضع لكل واقعة حكماً يؤخذ من خلاله حق المظلوم ؛ ذلك انه ارسل الرسل والانبياء (ع) لهداية الناس الى تعيين ميزان القضاء العادل ، كما يقول تعالى في كتابه المجيد : (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) .
فالقضاء الاسلامي لا يضمن حقوق الافراد الشخصية فحسب ، بل يربط الجهاز القضائي بما فيه من قضاة ، وشهود ، ودعاوى ومن يرتبط بها ، بالله سبحانه وتعالى ؛ لانه هو مصدر كل الاحكام الشرعية التي يتعامل بها القاضي مع المدعي والمدعى عليه والشهود . فاصبح القضاء الاسلامي وسيلة من وسائل التعبد لله عز وجل ، وليس وسيلة من وسائل الاثراء وجمع المال والسيطرة السياسية كما هو المعمول به في النظام الرأسمالي.
واذا كان من مهمة القضاء وضع الخط الفاصل بين الاعتدال والانحراف ، والتمييز بين السلوك الطبيعي والجنائي ، فان الاسلام باعتباره دين العدالة والمساواة اعتبر القضاء جزءًا من رسالته الكلية التي تمتد مع امتداد تطلعات الانسان ، ونظرته الشمولية حول الكون والحياة .
فلا يحتاج الفرد في النظام الاسلامي الى خبراء يصممون له قوانين قضائية ، لتجعله اشد تماسكاً مع بقية الافراد في النظام الاجتماعي ؛ فإن ذلك قد ترك للرسالة الاسلامية بأبعادها المختلفة لتعمل عملها بتغيير نفسية الفرد ، وتشكيله من جديد على اساس حب الخير والتعاون والتآزر مع النظام الاجتماعي ؛ بمعنى ان الجريمة اذا وقعت في المجتمع الاسلامي ، فانها لا تعتبر عاملاً من عوامل تماسك المجتمع ، بل لابد من استئصالها بانزال اقصى العقوبات التي شرعها الخالق عز وجل ، وهي عقوبات القصاص والحد والدية ونحوها .
وهذا الرأي معاكس تماماً لرأي النظرية الرأسمالية ، التي ترى على ضوء افكار ( اميلي ديركهايم ) ، بأن الجريمة ضرورية لتماسك المجتمعات الانسانية ، لانها تعرف حدود السلوك المقبول . وهذه الفكرة الرأسمالية الغربية يرفضها الاسلام رفضاً قاطعاً ، لأن هذه الرسالة السماوية حددت ابعاد السلوك المقبول اجتماعياً عبر النصوص الشرعية المتمثلة بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، دون ضرورة الرجوع الى تشجيع الجريمة في النظام الاجتماعي .
فاذا كانت عقوبة جناية القتل واضحة للافراد وهي القصاص في حكم الله ، فكيف يكون وقوع هذه الجناية سبباً لتماسك النظام الاجتماعي ؟ الا تكفي جدية النظام الاجتماعي في انزال العقوبة بالمخالفين نظريا ، سببا في الردع والتماسك الاجتماعي ؟ واذا كانت ابعاد السلوك المقبول معرفة في الرسالة التي يؤمن بها افراد النظام الاجتماعي ، فكيف يكون ارتكاب الجريمة تعريفاً لحدود السلوك المقبول ؟ اليس هذا دليلاً على ضعف النظام الاجتماعي الذي لا يتماسك افراده الا بمشاهدة الجريمة والتماس العقوبة التي تلحقها ؟
ومع ان الرسالة السماوية العظيمة ، قد حددت وعرفت السلوك المقبول شرعياً ، وعلى اساسه وضعت مباني الثواب والعقاب ، الا انها مع ذلك ، صممت نظاماً قضائياً فريداً لم تشهد له البشرية مثيلاً في تاريخها الطويل ؛ فوضعت شروطاً للقاضي ، والمدعي ، والمدعى عليه ، والشهود . اوجبت ، وأكدت وجوبها مراراً على اجتهاد وعدالة القاضي ، لان المظلوم يرى فيه صوت الحق ونور العدالة الالهية . واوجبت في المدعي العقل والبلوغ والرشد والاصالة والجزم . وفي المدعى عليه البلوغ والتعيين . وفي المدعى به المعلومية والشرعية . ووضعت اصولاً للاثبات كالاقرار ، والكتابة ، والقرائن الشرعية والموضوعية ، والشهادة ، والبينة ، واليمين ، واليد ، والعلم والاستفاضة . واوجبت في الشهادة الوضوح والمطابقة ، والعلم ، وعدم النفي . واوجبت في الشاهد العقل ، والبلوغ ، والاسلام ، والعدالة ، والضبط . وشجعت على الصلح بين المتخاصمين اذا كان لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً . ونظاماً كهذا لابد له من تحقيق العدالة القضائية التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من العدالة الاجتماعية بصورتها الشمولية الواسعة . ولاشك ان الاسلام سعى بكل جد لتحقيق تلك العدالة الاجتماعية ، منذ ان ارعبت كلماته الصاعقة بطون مكة ونظامها الجاهلي الظالم.
منتدى الوارث من العتبة الحسينية المقدسة.
اترك تعليق