إنّ المراد من الذكر في كلا الموردين هو القرآن الكريم بقرينة (نُزِّلَ) و(نَزَّلْنا) والضمير في (لَهُ) يرجع إلى القرآن، وقد أورد المشركون اعتراضات ثلاثة على النبي، أشار إليها القرآن مع نقدها، وهي 1- أنّ محمّداً ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ يتلقّى القرآن من لدن شخص مجهول. ويشير إلى هذا الاعتراض قولهم يا أَيُّهَا الّذي نزّلَ عَلَيْهِ الذِكْر) بصيغة المجهول.
2- انّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ مختل الحواس لا اعتبار بما يتلقّاه من القرآن . وينقله، فلا نُؤمن من تصرّف مخيّلته وعقليّته في القرآن. 3- لو صحّ قوله: بأنّه ينزل عليه الملك ويأتي بالوحي فـلَوما تَأْتِينا بِالمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقين). ظهر عدم تمامية بعض الاحتمالات في تفسير الحفظ حيث قالوا المراد حفظه من قدح القادحين.
2. حفظه في اللوح المحفوظ.
3. حفظه في صدر النبي والإمام بعده فإنّ قدح القادحين ليس مطروحاً في الآية حتى تجيب عنه الآية، كما أنّ حفظه في اللوح المحفوظ أو في صدر النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ لا يرتبط باعتراض المشركين، فإنّ اعتراضهم كان مبنيّاً على اتهام النبي بالجنون الذي لا ينفك عن الخلط في إبلاغ الوحي، فالإجابة بأنّه محفوظ في اللوح المحفوظ أو ما أشبهه لا يكون قالعاً للإشكال، فالحقّ الذي لا ريب فيه انّه سبحانه يخبر عن تعهده بحفظ القرآن وصيانته في عامّة المراحل، فالقول بالنقصان يضاد مع تعهده سبحانه. فإن قلت: إنّ مدّعي التحريف يدّعي التحريف في نفس هذه الآية، لأنّها بعض القرآن، فلا يكون الاستدلال بها صحيحاً، لاستلزامه الدور الواضح. قلت: إنّ مصبّ التحريف ـ على فرض طروئه ـ عبارة عن الآيات الراجعة إلى الخلافة والزعامة لأئمّة أهل البيت، أو ما يرجع إلى آيات الأحكام، كآية الرجم، وآية الرضعات، وأمثالهما; وأمّا هذه الآية ونحوها فلم يتطرّق التحريف إليها باتّفاق المسلمين.
آية نفي الباطل يصف سبحانه كتابه بأنّه المقتدر الذي لا يُغْلَب ولا يأتيه الباطل من أي جانب، قائلا:{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } . فصلت: 41, 42. ودلالة الآية رهن بيان أُمور الأوّل: المراد من الذكر هو القرآن، ويشهد عليه قوله:( وَإِنّهُ لَكتابٌ عَزيز) مضافاً إلى إطلاقه على القرآن في غير واحد من الآيات، قال سبحانه يا أَيُّهَا الّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُون). الحجر:6.وقال سبحانه (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَومِكَ وَسَوفَ تُسْئَلُونَ). الزخرف: 44 .
الثاني: انّ خبر (انّ) محذوف مقدّر وهو: سوف نجزيهم وما شابهه.
الثالث: الباطل يقابل الحق، فالحق ثابت لا يُغْلب; والباطل له جولة، لكنّه سوف يُغلب، مثلهما كمثل الماء والزبد، فالماء يمكث في الأرض والزبد يذهب جفاء، قال سبحانه:{ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} . الرعد:17. فالقرآن حقّ في مداليله ومفاهيمه، وأحكامه خالدة، ومعارفه وأُصوله مطابقة للفطرة، وأخباره الغيبية حق لا زيغ فيه، كما أنّه نزيه عن التناقض بين دساتيره وأخباره {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} النساء:82. فكما أنّه حقّ من حيث المادة والمعنى، حقّ من حيث الصورة واللفظ أيضاً، فلا يتطرّق إليه التحريف، ونعم ما قاله الطبرسي: لا تناقض في ألفاظه، ولا كذب في أخباره، ولا يعارض، ولا يزداد، ولا ينقص. مجمع البيان:9/15، ط صيدا.
ويؤيّده قوله قبل هذه الآيات :{ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (36)فصلت. ولعلّه إشارة إلى ما كان يدخله في نفسه من إمكان إبطال شريعته بعد مماته، فأمره بالاستعاذة باللّه السميع العليم.
و الحاصل أنّ تخصيص مفاد الآية (نفي الباطل) بطروء التناقض في أحكامه وتكاذب أخباره لا وجه له، فالقرآن مصون عن أيّ باطل يبطله، أو فاسد يفسده، بل هو غضّ طريّ لا يُبْلى وَلا يُفنى ،آية الجمع رُوي أنّه إذا نزل القرآن، عجل النبي بقراءته، حرصاً منه على ضبطه، فوافاه الوحي ونهاه عنه، وقائلا:{ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (*) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (*) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (*) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}. القيامة:16ـ 19. فعلى اللّه سبحانه الجمع والحفظ والبيان كما ضمن في آية أُخرى عدم نسيانه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ القرآن وقال:{ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (*) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}. الأعلى:6ـ 7.
هذا بعض ما يمكن أن يستدلّ به، على صيانة القرآن من التحريف بالقرآن، والاستثناء في الآية الأخيرة نظير الاستثناء في قوله:{ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} هود: 108.
و من المعلوم انّ أهل السعادة محكومون بالخلود في الجنة ويشهد له ذيل الآية، أعني: قوله: (عَطاءً غَيْرَمَجْذُوذ) أي غير مقطوع، ومع ذلك فليس التقدير على وجه يخرج الأمر من يده سبحانه، فهو في كلّ حين قادر على نقض الخلود.
وأمّا الروايات الدالّة على كونه مصوناً منه أي من التحريف، فنقتصر منها بما يلي: 1. أخبار العرض قد تضافرت الروايات عن الأئمّة ـ عليهم السَّلام ـ بعرض الروايات على القرآن والأخذ بموافقه ورد مخالفه، وقد جمعها الشيخ الحر العاملي في الباب التاسع من أبواب صفات القاضي. روى الكليني عن السكوني، عن أبي عبد اللّه ـ عليه السَّلام ـ قال: «قال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ :إنّ على كلّ حقّ حقيقة، وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، وما خالف كتاب اللّه فدعوه». الوسائل: الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10. وروى أيّوب بن راشد، عن أبي عبد اللّه ـ عليه السَّلام ـ قال: «ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف»الوسائل:الجزء18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح 12، 15 وغيرها. وفي رواية أيوب بن الحر، قال: سمعت أبا عبد اللّه ـ عليه السَّلام ـ يقول: «كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنّة، وكلّ حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف)
2. وقال ـ عليه السَّلام ـ : «وكتاب اللّه بين أظهركم ناطق لا يعيا لسانه، وبيت لا تهدم أركانه، وعزٌّ لا تهزم أعوانه» نهج البلاغة: الخطبة وقال ـ عليه السَّلام ـ : «كأنّهم أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم» نهج البلاغة: الخطبة: 147.وفي رسالة الإمام الجواد إلى سعد الخير من أولاد عمر بن عبد العزيز، وقد بكى عند أبي جعفر الجواد لاعتقاده انّه من الشجرة الملعونة في القرآن، فقال الإمام ـ عليه السَّلام ـ له: «لست منهم وأنت منّا، أما سمعت قوله تعالى فَمَنْ تَبعَني فَهُوَ مِنّي) . (لاحظ قاموس الرجال:5/35) ومنه يعلم وجه تسميته بالخير.: «وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه، وحرّفوا حدوده» الكافي: 8/53 ح16 هو. وفي هذا تصريح ببقاء القرآن بلفظه، وانّ التحريف في تطبيقه على الحياة حيث لم يطبقوا أحكامه في حياتهم، ومن أوضح مظاهره منع بنت المصطفى ـ عليها السَّلام ـ من إرث والدها مع أنّه سبحانه يقول: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَولادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ) النساء: 11.
وقال سبحانه: (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داود) النمل:16. وقال سبحانه عن لسان زكريا: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً* يَرِثُني وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوب) مريم: 6. ولعلّ فيما ذكرنا كفاية، فلنستعرض كلمات علمائنا إنّ التتبع في كلمات علمائنا الكبار الذين كانوا هم القدوة والأُسوة في جميع الأجيال، يعرب عن أنّهم كانوا يتبرّأون من القول بالتحريف، وينسبون فكرة التحريف إلى روايات الآحاد، ولا يمكننا نقل كلمات علمائنا عبر القرون، بل نشير إلى كلمات بعضهم 1. قال الشيخ الأجل الفضل بن شاذان الأزدي النيسابوري (المتوفّى 260هـ) ـ في ضمن نقده مذهب أهل السنّة ـ: إنّ عمر بن الخطاب قال: إنّي أخاف أن يقال زاد عمر في القرآن ثبتَ هذه الآية، فانّا كنّا نقرؤها على عهد رسول اللّه: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة بما قضيا من الشهوة نكالاً من اللّه واللّه عزيز حكيم. الإيضاح:. روى البخاري آية الرجم في صحيحه: 8/208 باب رجم الحبلى فلو كان التحريف من عقائد الشيعة، لما كان له التحامل على السنّة بالقول بالتحريف لاشتراكهما في ذلك القول 2. قال أبو جعفر الصدوق (المتوفّى381هـ): اعتقادنا أنّه كلام اللّه ووحيه تنزيلاً، وقوله في كتابه إِنَّهُ لَكتابٌ عَزيزٌ* لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكيم حَميد) وانّه القصص الحق، وانّه لحقّ فصل، وما هو بالهزل، وانّ اللّه تبارك و تعالى مُحْدثه ومنزله وربّه وحافظه والمتكلّم به.(1) اعتقادات الصدوق:93 . قال الشيخ المفيد (المتوفّى413هـ): وقد قال جماعة من أهل الإمامة انّه لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة، ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ من تأويل وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله، وذلك كان ثابتاً منزلاً، وإن لم يكن من جملة كلام اللّه الذي هو القرآن المعجز، وقد يسمّى تأويل القرآن قرآناً، وعندي انّ هذا القول أشبه بالحقّ من مقال من ادّعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل وإليه أميل.(2) أوائل المقالات:53ـ54.
وقال أيضاً في أجوبة «المسائل السروية» في جواب من احتج على التحريف بالروايات الواردة حيث ورد فيها «كنتم خير أئمّة أُخرجت للناس» مكان (أُمّة)، وورد كذلك «جعلناكم أئمة وسطاً» مكان ( أُمّة) وورد «يسألونك الأنفال» مكان (يسألونك عن الأنفال) ، فأجاب : انّ الأخبار التي جاءت بذلك أخبار آحاد لا يقطع على اللّه تعالى بصحتها، فلذلك وقفنا فيها، ولم نعدل عمّا في المصحف الظاهر.(3) مجموعة الرسائل للمفيد:366 4. قال الشريف المرتضى (المتوفّى436هـ): مضافاً إلى من نقلنا عنه في الدليل الأوّل، انّ جماعة من الصحابة، مثل عبد اللّه بن مسعود و أُبّي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي عدّة ختمات، وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعاً مرتباً غير مستور ولا مبثوث.(1) المرتضى
5. قال الشيخ الطوسي (المتوفّى460هـ):أمّا الكلام في زيادة القرآن ونقصه فما لا يليق به أيضاً، لأنّ الزيادة مجمع على بطلانها، وأمّا النقصان فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا، وهو الذي نصره المرتضى، وهو الظاهر من الرواية، ثم ّوصف الروايات المخالفة بالآحاد.
6. قال أبو علي الطبرسي (المتوفّى 548هـ) الكلام في زيادة القرآن ونقصانه; أمّا الزيادة فيه فمجمع على بطلانها، وأمّا النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامة انّ في القرآن تغييراً أو نقصاناً، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه.(2) مجمع البيان:1/10.
7. قال السيد علي بن طاووس الحلّي (المتوفّى664هـ): إنّ رأي الإمامية هو عدم التحريف.(3) سعد السعود:144
8. قال العلاّمة الحلّي (المتوفّى726هـ) في جواب السيد الجليل المهنّا: الحق انّه لا تبديل ولا تأخير ولا تقديم، وانّه لم يزد ولم يُنْقَص، ونعوذ باللّه من أن يعتقد مثل ذلك وأمثال ذلك، فإنّه يوجب تطرّق الشك إلى معجزة الرسول المنقولة بالتواتر.(4) أجوبة المسائل المهنائية:121
ــــــــــــــــــــــــ (1)- المحجة البيضاء في تهيب الاحياء،ص424،كتاب اداب تلاوة القران.
اترك تعليق