بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى. لا يختص القرآن الكريم في موضوعاته بأمة من الأمم كالأمة العربية مثلا، كما لا يختص بطائفة من الطوائف كالمسلمين بل يوجه خطابه إلى غير المسلمين كما يتكلم مع المسلمين.
ودليلنا على هذا الخطابات الكثيرة الموجهة في القرآن الكريم إلى الكفار والمشركين وأهل الكتاب واليهود وبني اسرائيل والنصارى. وقد احتج مع كل طائفة من هذه الطوائف ودعاهم إلى معارفه الحقة.
القرآن احتج مع كل هذه الطوائف ودعاهم إلى الدين من دون أن يقيد الخطاب بالعرب، فقال لعباد الأصنام: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(2)، وقال لأهل الكتاب: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)(3).
كما نرى لم يقل القرآن «فان تاب مشركو العرب» أو «يا أهل الكتاب من العرب» وأمثال هذه الخطابات.نعم في بدء الاسلام حيث لم تنتشر بعد الدعوة الاسلامية ولم تخرج من اطار الجزيرة العربية كانت الخطابات موجهة إلى العرب، أما من السنة السادسة من الهجرة حيث انتشرت الدعوة وتجاوزت الجزيرة فلم يبق مجال لتوجيه الخطاب إلى أمة خاصة.
وبالإضافة إلى الآيات السابقة هناك آيات أخرى تدل على عموم الدعوة، كقوله تعالى: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)(4).وقوله: (وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ)(5). وقوله: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ)(6)وقوله: (إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (*) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ)( 7).).
ومن الوجهة التاريخية نرى أن كثيرا من عبدة الأصنام واليهود والنصارى أسلموا، كما أسلم ايضا جماعة من قوميات غير عربية كسلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي وأحزابهم. إن القرآن الكريم كتاب كامل: وهو يحتوي على الغاية الأسمى التي تهدف اليها الانسانية ويبينها بأتم الوجوه، لأن الوصول إلى الغاية الأسمى لا يمكن الا بالنظرات الواقعية للكون والعمل بالأصول الأخلاقية والقوانين العملية، وهذا ما يتولى شرحه القرآن بصورة كاملة حيث يقول: (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ)(8). ويقول في موضع آخر بعد ذكر التوراة والانجيل: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا)(9).
وبيانا لاشتماله على حقيقة شرائع الأنبياء يقول: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى)(10). وفي احتوائه على سائر الأشياء يقول: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ)(11 ) ،وفيه كل ما يحتاج اليه البشر في سيره التكاملي نحو السعادة من أسس العقائد والأصول العملية.
أن القرآن الكريم كتاب دائم ومتجدد، وذلك لأن كلاما ما لو صح وتم بصورة مطلقة لا يحد بوقت من الأوقات أو زمان من الأزمنة، والقرآن ينص على تمامية كلامه وكماله، فيقول: (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (*) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ)(12). وهكذا تكون المعارف الحقة، حقيقة خالصة وواقع محض، والأصول الأخلاقية والقوانين العملية التي بينها القرآن هي نتيجة تلك الحقائق الثابتة، ولا يتطرق اليها البطلان ولا تنسخ بمضي الأعوام والقرون، يقول تعالى: (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ)(13). ويقول: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (*) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ)(14).
ولا يخفى أن أبحاثا كثيرة كتبت حول أحكام القرآن وأنها دائمة لا تختص بوقت من الأوقات، الا أنها خارجة عن موضوع بحثنا الذي نحاول فيه معرفة مكانة القرآن عند المسلمين كما يدل عليها القرآن نفسه.
القرآن مستقل في دلالته: القرآن الكريم كلام كسائر ما يتكلم به الناس، ويدل دلالة واضحة على معانيه المقصودة وليس فيه خفاء على المستمعين. ولم نجد دليلا على أنه يقصد من كلماته غير المعاني التي ندركها من ألفاظه وجمله.
أما وضوحه في دلالته على معانيه فلأن أي انسان عارف باللغة العربية بإمكانه أن يدرك معنى الآيات الكريمة كما يدرك معنى كل قول عربي. وبالاضافة إلى هذا نجد في كثير من الآيات يخاطب طائفة خاصة كبني اسرائيل والمؤمنين والكفار، وفي آيات منه يخاطب عامة الناس(15) و يحاججهم ويتحداهم ليأتوا بمثله لو كانوا في شك أنه من عند الله تعالى. وبديهي أنه لا يصح التكلم مع الناس بما لا مفهوم واضح له، كما لا يصح التحدي بما لا يفهم معناه . قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)( 16).
ويقول تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)( 17). تدل الآية على ضرورة التدبر في القرآن الذي هو بمعنى التفهم والتدبر يرفع ما يتراءى بالنظرة الأولى من الاختلاف بين الآيات ومن البديهي الواضح أن الآيات لو لم تكن لها دلالة ظاهرة على معانيها لما كان معنى للتدبر والتأمل، كما لم يبق مجال لحل الاختلافات الصورية بين الآيات بواسطة التدبر والتأمل.
وأما ما ذكرنا من انه لا دليل خارجي على نفي حجية ظواهر القرآن، فلأننا لم نجد هكذا دليل لذلك الا ما ادعاه بعض من أننا في فهم مرادات القرآن يجب أن نرجع إلى ما أثر عن الرسول (صلى الله عليه و آله) أو ما أثر عنه وعن أهل بيته المعصومين (عليهم السلام). ولكن هذا ادعاء لا يمكن قبوله، لأن حجية قول الرسول والأئمة (عليهم السلام) يجب أن تفهم من القرآن الكريم، فكيف يتصور توقف حجية ظواهره على أقوالهم (عليهم السلام). بل نزيد على هذا ونقول: ان اثبات أصل النبوة يجب أن نتشبث فيه بذيل القرآن الذي هو سند النبوة كما ذكرنا سابقا. وهذا الذي ذكرناه لا ينافي كون الرسول والأئمة (عليهم السلام) عليهم بيان جزئيات القوانين وتفاصيل أحكام الشريعة التي لم نجدها في ظواهر القرآن، وأن يكونوا مرشدين إلى معارف الكتاب الكريم كما يظهر من الآيات التالية: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(18) (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(19) (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)(20) (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)(12).
يفهم من هذه الآيات أن النبي (صلى الله عليه و آله) هو الذي يبين جزئيات وتفاصيل الشريعة وهو المعلم الالهي للقرآن المجيد وحسب ما جاء في حديث الثقلين الأئمة (عليهم السلام) هم خلفاء الرسول في ذلك، وهذا لا ينافي أن يدرك مراد القرآن من ظواهر آياته بعض من تتلمذ على المعلمين الحقيقيين وكان له ذوق في فهمه.
للقرآن ظاهر وباطن: يقول الله تعالى في كلامه المجيد: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)(22). ظاهر هذه الآية الكريمة أنها تنهى عن عبادة الأصنام ,وكما جاء في قوله تعالى (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ)(23)، ولكن بعد التأمل والتحليل يظهر أن العلة في المنع من عبادة الأصنام أنها خضوع لغير الله تعالى، وهذا لا يختص بعبادة الاصنام بل عبر عز شأنه عن اطاعة الشيطان أيضا بالعبادة حيث قال: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ)(24).
ومن جهة أخرى يتبين أنه لافرق في الطاعة الممقوتة بين أن تكون للغير او للانسان نفسه، فان اطاعة شهوات النفس أيضا عبادة من دون الله تعالى كما يشير اليه في قوله: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)(25). وبتحليل أدق نرى أنه لابد من عدم التوجه إلى غير الله تعالى، لأن التوجه الى غيره معناه الاعتراف باستقلاله والخضوع له، وهذا هو العبادة والطاعة بعينها، يقول تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) إلى قوله (أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)(26).
عند التدبر في هذه الآيات الكريمة نرى بالنظرة البدائية في قوله (وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) أنه تعالى ينهي عن عبادة الأصنام وعندما نتوسع بعض التوسع نرى النهي عن عبادة غير الله من دون أذنه، ولو توسعنا اكثر من هذا لنرى النهي عن عبادة الانسان نفسه باتباع شهواتها، أما لو ذهبنا إلى توسع اكثر فنرى النهي عن الغفلة عن الله والتوجه إلى غيره. ان هذا التدرج ونعني به ظهور معنى بدائي من الآية ثم ظهور معنى أوسع وهكذا جار في كل من الآيات الكريمة بلا استثناء. وبالتأمل في هذا الموضوع يظهر معنى ماروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) في كتب الحديث والتفسير من قوله: (ان للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطنا إلى سبعة أبطن)(27). وعلى هذا للقرآن ظاهر وباطن أو ظهر وبطن، وكلا المعنيين يرادان من الآيات الكريمة، الا أنهما واقعا في الطول لا في العرض، فان ارادة الظاهر لا تنفي ارادة الباطن وارادة الباطن لا تزاحم ارادة الظاهر.
المصدر / منتدى الوارث للعتبة الحسينية المقدسة.
_____________________________ (1) وردت هذه الخطابات والاحتجاجات في آيات كثيرة جدا لانرانا بحاجة إلى سردها هنا. (2) سورة التوبة: 11. (3) سورة آل عمران: 64. (4) سورة الأنعام: 19. (5) سورة القلم: 52. (6) سورة ص: 87. (7) سورة المدثر: 35، 36. (8) سورة الأحقاف: 30. (9) سورة المائدة: 48. (10) سورة الشورى: 13. (11) سورة النمل: 89. (12) سورة الطارق: 14 15. (13) سورة يونس آية رقم 32 (14) سورة السجدة: 42. (15) أمثال يا أيها الذين كفروا» و«يا أهل الكتاب» و«يابني اسرائيل» و«يا أيها الناس». (16) سورة محمد: 24. (17) سورة النساء: 82. (18) سورة النحل: 44. (19) سورة الحشر:7. (20) سورة النساء: 64. (21) سورة الجمعة: 2. (22) سورة النساء: 36، (23) سورة الحج: 30. (24) سورة يس: 60. (25) سورة الجاثية: 23. (26) سورة الأعراف: 179. (27) الصافي المقدمة الثانة، وسفينة البحار «بطن».
اترك تعليق