أهمية التمييز بين تفسير اللفظ وتفسير المعنى التمييز بين تفسير اللفظ على صعيد المفاهيم، وتفسير المعنى بتجسده في صورة محددة على صعيد المصاديق... يعتبر نقطة جوهرية جداً في تفسير القرآن الكريم. وأداة لحل التناقض الظاهري الذي يبدو بين حقيقتين قرآنيتين وهما: الحقيقة الأولى: ان القران كتاب هداية. وقد وصف نفسه بأنه {هُدًى لِّلنَّاسِ} (سورة البقرة، آية: 185) و{نور مبين} (سورة المائدة، آية: 15) و {تبياناً لكل شيء} (سورة النحل، آية: 89) وهذه الحقيقة تفرض أن يجيء القرآن ميسر الفهم وأن يتاح للإنسان استخراح معانيه منه، إذ لا يحتاج للقرآن أن يحقق أهدافه ويؤدي رسالته لو لم يكن مفهوماً من قبل الناس. والحقيقة الأخرى: أن كثيراً من المواضيع التي يستعرض القران أو يشير إليها لا يمكن فهمها بسهولة بل قد تستعصي على الذهن البشري ويتيه في مجال التفكير فيها لدقتها وابتعادها عن مجالات الحس والحياة الاعتيادية التي يعيشها الإنسان. وذلك نظير ما يتعلق من القرآن باللوح، والقلم، والعرش، والموازين، والملك، والشيطان وإنزال الحديد، ورجوع البشرية إلى اللّه، والخزائن، وملكوت السماء والأرض.. وما إلى ذلك من مواضيع. إذن فحقيقة أهداف القرآن الكريم ورسالته تفرض أن يكون ميسر الفهم وواقع بعض مواضيعه يستعصي على الفهم ويتيه فيها الذهن البشري. وحل التناقض الظاهري بين هاتين الحقيقتين إنما يكون بالتمييز بين تفسير اللفظ وتفسير المعنى، لأن الحقيقة الأولى وحقيقة أهداف القرآن ورسالته إنما تفرض أن يكون القرآن ميسر الفهم بوصفه كلاماً دالاً على معنى أي بحسب تفسير اللفظ. وهو بهذا الوصف ميسر الفهم سهل على الناس استخراج معانيه. وإنما الصعوبة في تحديد الصور الواقعية لمعانيه ومفاهيمه. فكل الآيات التي استعرضت تلك المواضيع التي أشرنا إليها في الحقيقة الثانية تعتبر مفهومة من ناحية لغوية، ولا صعوبة في التفسير اللفظي لها، وإنما الصعوبة تكمن في تفسير معنى اللفظ لا تفسير اللفظ نفسه، لأن تلك الموضوعات ترتبط بعوالم أرقى من عالم الحس الذي يعيشه الإنسان. فيكون من الطبيعي أن يواجه الإنسان صعوبات كبيرة إذا حاول تحديد المعنى في مصداق معين، وتجسيد المفهوم في ذهن ضمن واقع خاص. وقد يتساءل هنا عن الضرورة التي دعت القرآن الكريم إلى أن يتعرض لمثل هذه المعاني التي يستعصي تفسيرها على الذهن البشري، فيخلق بذلك صعوبات ومشاكل هو في غنى عنها. ولكن الواقع أن القرآن الكريم لم يكن بإمكانه أن يتفادى هذه الصعوبات والمشاكل، لأن القرآن بوصفه كتاب دين يستهدف بصورة رئيسية ربط البشرية بعالم الغيب، وتنمية غريزة الإيمان بالغيب فيها. ولا يتحقق ذلك إلا عن طريق تلك المواضيع التي تنبه الإنسان إلى صلته بعالم أكبر من العالم المنظور، وإن كان غير قادر على الإحاطة بجميع أسراره وخصوصياته. التفسير بوصفه علماً وأما التفسير بوصفه علماً فهو علم يبحث فيه عن القرآن الكريم بوصفه كلاماً للّه تعالى (1). وتوضيح ذلك: إن القرآن الكريم له عدة اعتبارات: فهو تارة يلحظ بوصفه حروفاً كتابية ترسم على الورق وأخرى يلحظ بوصفه أصواتاً نقرأها ونرددها بلساننا وثالثة يلحظ باعتباره كلاماً للّه تعالى. والقرآن الملحوظ بأي واحد من هذه الاعتبارات يقع موضوعاً لعلم يتكون من بحوث خاصة به. فالقرآن من حيث إنه حروف تكتب موضوع لعلم الرسم القرآني الذي يشرح قواعد كتابة النص القرآني. والقرآن من حيث أنه يقرأ موضوع لعلم القراءة وعلم التجويد والقرآن من حيث أنه كلام اللّه يقع موضوعاً لعلم التفسير. فعلم التفسير يشتمل على جميع البحوث المتعلقة بالقرآن بوصفه كلام اللّه. ولا يدخل في نطاقه البحث في طريقة كتابة الحرف، أو طريقة النطق بصوته، لأن الكتابة والنطق ليسا من صفات نص القرآن بوصفه كلاماً للّه. إذ ليس كونه كلاماً للّه دخلاً في كيفية كتابته أو قراءته. وإنما يدخل في علم التفسير على ضوء ما ذكرناه من تعرضه للبحوث الآتية: أولاً: البحث عن مدلول كل لفظ أو جملة في القرآن الكريم، لأن كون هذا المعنى أو ذاك مدلولاً للفظ القرآني من صفات القرآن بوصفه كلاماً للّه وليس من صفات الحروف أو أصواتها بما هي حروف أو أصوات. ثانياً: البحث عن إعجاز القرآن والكشف عن مناحي الإعجاز المختلفة فيه فإن الإعجاز من أوصاف القرآن باعتباره كلاماً دالاً على المراد. ثالثاً: البحث عن أسباب النزول، لأن الآية حين ندرس سبب نزولها نلاحظها بما هي كلام، أي بما هي لفظ مفيد دال على معنى لأن ما لا يكون كلاماً ولا يدل على معنى، لا يرتبط بحادثة معينة لتكون سبباً لنزولها الآية. رابعاً: البحث عن الناسخ والمنسوخ والخاص والعام والمقيد والمطلق. فإن كل ذلك يتناول النص القرآني بوصفه كلاماً دالاً على معنى. خامساً: البحث عن أثر القرآن في التاريخ ودوره في بناء الإنسانية وهدايتها، فإن أثر القرآن ودوره مردهما إلى فعالية القرآن بوصفه كلاماً للّه لا بوصفه مجرد حروف تكتب أو صوت أو أصوات تقرأ. إلى غير ذلك من البحوث التي ترتبط بالقرآن باعتباره كلاماً للّه تعالى. ومن خلال تعريف علم التفسير نحدد موضوعه أيضاً وهو (القرآن) من حيث كونه كلاماً للّه تعالى. وعلى هذا الضوء نعرف أن إطلاق اسم علم (الناسخ والمنسوخ) أو علم (اعجاز القرآن): على البحوث المتعلقة بهذه المواضيع، يعني عدم إمكان اندراجها جميعاً في نطاق علم واحد باسم علم: (التفسير) فهي في الحقيقة جوانب من هذا العلم لوحظ في كل جانب منها تحقيق هدف خاص يتعلق بالبحوث في ناحية خاصة من كلام اللّه ففي علم (اعجاز القرآن) كلام اللّه في القرآن مقارناً بالنتاج البشري أو بالإمكانات وهو معنى الإعجاز. وفي علم (أسباب النزول) يدرس كلام اللّه في القرآن من حيث ارتباطه بالأحداث والوقائع التي لابست نزوله. وهكذا الأمر في سائر الجوانب الأخرى. المصدر : علوم القرآن / السيد محمد باقر الحكيم ـــــــــــــــــــــــــــــــ 1- قارن هذا التعريف بما ذكره الزركشي في البرهان وما نقله الذهبي عن بعضهم في التفسير والمفسرون وما ذكره الزرقاني في مناهل العرافان.
اترك تعليق