المجتمع النظيف المتماسك الذي أقامه المنهج القرآني في المدينة وزاول بناءه على أرض الواقع والحركة رسول الله عليه الصلاة والسلام ومعه أصحابه الكرام الذين آمنوا به وصدقوه واتبعوا النور الذي أنزل معه.. هذا المجتمع ما كان ليكون كذلك لولا تلك الهدية الربانية في رد العمل والسلوك إلى الإيمان الذي من مقتضاه إحكام البنية الأخلاقية، والحيلولة دون أن تتحكم في السلوك العملي والأخلاقي مصالح قريبة قد تسيء إلى الآخرين، أو هوىً متَّبع يعمي صاحبه عن مراعاة حق الأخوة، ومقتضيات الإيمان، وما تعنيه رحلة البناء ضمن الجماعة المسلمة التي تهدف – فيما تهدف إليه على هدي الرسالة الخاتمة – إلى أن تقيم المجتمع الأمثل المعافى في بُناه الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها والذي يحمل قابلية النمو والتطور إلى ما هو الأفضل. وأقول إلى ما هو الأفضل، لأنّه ليس كل تطور يكون سليماً، وأخذ كلمة التطور على إطلاقها كما يعنُّ للمأخوذين ببهرج الغزو الفكري أن يأخذوها، دون النظر المتبصِّر فيما يراد منها، وتاريخ وجودها عند غيرنا نتيجة ملابسات معينة، ليس أقلَّها فصل الدين عن الدولة، وما كان موقف الكنيسة من العلم. ثمّ الدعوة إلى أن يكون الأخذ بها عنوان التقدم والرقي، والانعتاق من ربقة التخلف، ويعنون بذلك الإيمان بوحي السماء والغيب وما إلى ذلك. وقل مثل ذلك في الدعوة إلى ما يسمونه "التحديث" على إطلاقه؛ لأنّه يجمع بينهما جنوح مشبوه إلى التحلل من الثوابت في الكتاب والسنة، ومحاولة تفسير التاريخ والوقائع تفسيراً مجافياً للحقائق التي يشهد لها الوحي. والمسلم مدعو إلى أن يطوِّر أساليب العمل والحركة، وأن يأخذ بالوسائل التي هي من ثمار العلم – والتي يصل – بعون الله – من طريقها إلى التمكين للإسلام وأهله في الأرض، بما لا يتعارض مع شيء من الكتاب والسنة ومفهوم أئمة الهدى والعلم منهما – لأنّ الحق من عند الله لا يعتيريه شك في نفس المؤمن، والإسلام دين الله، والكون والإنسان والحياة من خلق الله. وذلكم – دائماً – هو الطريق السليمة في مزاولة عملية البناء الكبرى بتعدد ميادينها والحاجات المتجددة الطارئة في المجتمع، بحيث يستفاد من التجربة ومن النتائج التي يصل إليها العلم التجريبي وغيره، دونما عدوان على الأصالة وحقيقة الانتماء إلى الرسالة الخاتمة التي جعلت – كما أراد الله تعالى – من أُمّة الإسلام خير أُمّة أخرجت للناس، وهداها الله إلى عمارة الأرض وبناء الحضارة الإنسانية في ظل العبودية الحقة له، وسخر لها ما في الكون جميعاً، بمنهج شامل كامل متوازن مبرأ من تلك الثغرات – وما أكثرها – التي تعاني منها الحضارة المادية الراهنة في المنهج الذي قامت عليه. أقول هذا – والحديث موصول – بعطاء الآية الحادية عشرة من سورة الحجرات التي يحسن تجديد الذكرى بها، وهي قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات/ 11). وقد سبق أن أشرت إلى دلالة الآية – بالنهي القاطع – عن السخرية بالآخرين وازدرائهم، سواء كان ذلك على صعيد الأفراد أو الجماعات. ولا يرتاب منصف في أن تنزه المجتمع المؤمن عن هذه الخصلة الذميمة مدعاة إلى الصفاء النفسي والتماسك والتآزر، والإفادة من الطاقات الفاعلة، في إطار من التعاون المثمر بين أفراد المجتمع على اختلاف الطاقات والقدرات، وتآزرهم على كل ما فيه سلامة هذا المجتمع وتنمية فاعليته لتحقيق رسالة الإسلام، وتسامي القدرة الذاتية عند الجماعة، والسير بها نحو بنية حضارية لا يعوزها انتقاء والشمول. ثمّ جاء النهي الجازم في الآية أيضاً عن أن يلمز بعض المسلمين بعضاً بالتنقُّص والالتماس للبرءاء العيب. وعندما يطعن بعض المسلمين ببعض، فقد طعنوا أنفسهم لأنهم إخوة، وهذا من أسوأ عوامل التخلخل والضعف، وقد يرتدُّ على ذلك البعض، طعنه لأنّ العيب فيه وليس في إخوانه. وتقرير هذه الحقيقة حقيقة أنّ الأخوة الإيمانية تجعل من إيذاء الأخ لأخيه إيذاءً لنفسه لأنّ المؤمنين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر – كما جاء في الحديث الصحيح – هذه الحقيقة تنوّعَ في القرآن التعبير عنها في عدد من المواطن؛ من مثل قول الله جلّ ثناؤه: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) (النساء/ 29). (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) (البقرة/ 188). حيث جاء الخطاب بردِّ الضمير إلى الجماعة، فقتل المسلم المسلم – لا سمح الله – قتلٌ لنفسه بالمآل، وأكل المسلم مال المسلم بالباطل اعتداء على ماله هو.. وهكذا.. ولذلك قال تعالى: (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) وإن كان للمعنى وجه ٌآخر – كما ذكرت آنفاً – ولا تعارض. والحق أن بناء المسلم على هذه الحقيقة يُشعر بمزيد من المسؤولية عن حراسة القيم التي تحكم المجتمع، وتضمن قابليته للعطاء، بعيداً عما يُعكِّر صفو العلاقة بين الأخ وأخيه أو بين جماعة وجماعة أخرى من المسلمين وهم يعملون لتحقيق غاية كريمة واحدة. ذلك بأن ذلك يُشعر الجماعة بوحدتها، وإشعار الجماعة بوحدتها – وأعني بذلك جماعة المسلمين – ينمي في نفس المُسلم أيضاً إدراك أن إيذاء الفرد إيذاء للجماعة، فلمز الفرد والطعن عليه لمز للجميع، وأكل ماله بالباطل عدوان على الجميع، ناهيك عن العدوان بالقتل أو غير والمعاذ الله!!.
اترك تعليق