- أوّلاً: الهدف من خلق الإنسان: ثلاثةُ أهداف أساسية يمكن أن نلاحظها في القرآن الكريم من وراء خلق الإنسان على كوكب الأرض، هي: 1- (الخلافة): (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة/ 30). 2- (العبادة): (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذّاريات/ 56). 3- (العمل): (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا...) (المُلك/ 2). التطبيق الحياتي: هذه الأهداف الثلاثة لا تنفكّ عن بعضها البعض، فلابدّ لخليفة الله تعالى من العبادة والعمل، وإلاّ كانت خلافته تشريفيّة، في حين أنّ الخليفة وكيلٌ مكلّفٌ أنيطت به مهام ومسؤوليّات يتعيّن عليه القيام بها. ومفهوم العبادة أوسع من طقوس وشعائر، ومفهوم العمل أشمل وأعمّ من عمل اليد، هو عمل القلب واللِّسان والسمع والبصر والوجه والعقل، هو عمل الفرد وعمل الجماعة، عمل الدّنيا وعمل الآخرة. تأمّل في هذه التفسيرات العمليّة لهدف أوعلّة خلقك على الأرض: يقول الإمام علي (ع): "بتقوى الله أُمِرتُم، وللإحسانِ والطاعةِ خُلِقْتُم". وقال الإمام الصادق (ع): "خُلِقْتُم للأمر والنهي والتّكليف"، أي ليختبركم بالأمر والنهي. إنّه لم يخلقك (عبثاً) ولم يتركك (سُدى).. كلّفك طاعته وأوجب لك بذلك رضوانه، فكان أجره أكبر من عملك.. الآن وأنت في الدنيا هل ترفض عرضاً كهذا: تعمل واحداً لتأخذ بدله عشرةً وزيادة؟! لقد خُلِقْنا للبقاء، فما الدنيا إلا محطّة (ترانزيت) عبور.. والمقصد (الخلود) إمّا في (نعيم) وإمّا في (جحيم). إننا منتقلون من بيتٍ مؤقّتٍ إلى نعيمٍ مؤبّد، شريطة أن نُحسِن العمل، وأن نُجيد العبادة فيما هو نفع الحياة والعباد، لنكون الخلفاء الصّلحاء.. والخلاصة: "قيمةُ كلِّ امرئ ما يُحْسِنُه". لم يقل تعالى في مقام التفضيل: أيّكم أكثر عملاً، بل (أحسنكُم) عملاً، أي: (أصوبكم) عملاً.. والعمل الصّائب: نيّة صادقة، واستقامة في طريق الله، ونفع لعباد الله. هل أنت مستوصٍ (تقبل الوصيّة) ومستنصح (تقبل النّصيحة): "إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنّة، فلا تبيعوها إلاّ بها"! بهذا الثمن، وإلا تكون قد ظلمتها! - ثانياً: أنتَ في أجمل صورة: قال تعالى: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) (غافر/ 64). التطبيق الحياتي: خلقنا الله تعالى في أحسن تقويم؛ فما من شيءٍ نحتاجه في مهمّة الخلافة وإعمار الأرض إلاّ وأودعه سبحانه فينا، فلسنا حيوانات ناطقة فقط، بل نحن كائنات عاقلة ومريدة وتركيبتنا الجسمانيّة في أفضل شكل وأكمل هيئة، ونحن قابلون للتطور والكمال، ونحن مبدعون فيما نحرِّك من قوانا ومواهبنا. لقد رُوي عن رسول الله (صلى الله عليه واله) أنّه قال: "ابتغوا الخيرَ عند حسان الوجوه"، يُفسِّر لنا (صلى الله عليه واله) الوجه الحَسِن بأنّه الوجه الطّليق الهاشّ الباشّ المبتسم دائماً، فيقول: "فإن قضى حاجتكَ قضاها بوجهٍ طَليقٍ، وإن ردّك ردّك بوجهٍ طّليق"! الحسنُ في داخلك، وليس في المرآة، تأكّد أنّ يوسف (ع) وهو أجمل مَن خلقَ الله لم يستخدم جماله في موقفٍ واحدٍ إطلاقاً، لقد كان معتزاً بجماله الباطنيّ: علاقة قوّية بالله، اعتصام به، عفّة ونزاهة، علمٌ مُسخّرٌ في خدمة الناس، أمانة على ما يُعهَد إليه. ببساطة شديدة، الحُسْنُ الخارجي يشيخ ويبلى، أمّا المحاسن الأخرى، فهي تزداد على الزّمان شباباً. ولذلك كان الجمال – من وجهة نظر الإسلإم – هو جمال العقل والمنطق، والحِلم، والوَقار، والورع، والطاعة، والعِلم، والعمل الصالح.. وفوقهنّ كلّهنّ التواضع. - هل نترك حالنا كما هو؟ - أعوذُ بالله، مَن قال ذلك؟ إنّ دعوة الإسلام إلى (التزيّن) و(التجمّل) تنطلق من تقدير لانعكاس صورتك في مرايا الآخرين (أعيُنهم).. فمَن كان جميلاً ليُبدي أثر نعمة الله عليه بأن يعتني بمظهره وهندامه ورائحته ليزداد جمالاً.. ومَن ظنّ أنّه ليس بجميل، فليتجمّل، وإذا فاتني نصيبٌ من جمال القَسمات، فإنّ ابتسامةً مشرقةً تشعُّ على ربوع وجهي لهي خليقةٌ بأن تُظهرني في أعينِ الناسِ جميلاً، وإذا رافقَ تلك الابتسامة، أدبٌ وخلقٌ وعناية بالناس، فلن يلتفت الناظرُ بعدها إليَّ كيف (خَلقي) بل إليَّ كيف (خُلُقي)! المهمّ.. أنّ الله تعالى وهو الجميل الذي يحبّ الجمال، لا ينظر إلى صُوَرِنا، بل إلى قلوبنا. - ثالثاً: طِباعُكَ ليست قَدْراً: قال تعالى: (خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) (الأنبياء/ 37). وقال عزّ وجلّ: (خُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا) (النساء/ 28). وقال سبحانه: (إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا) (المعارج/ 19). التطبيق الحياتي: خلقني ضعيفاً في قلّة صبري، نعم، وخلقني ضعيفاً تستميلني الأهواء والشّهوات، نعم، وخلقني ضعيفاً تثيرني المخاوِف والأحزان، نعم، خلقني ضعيفاً أنهارُ أحياناً أمام المصاعب والمشكلات، نعم.. لكنّه أمدّني بأسباب القوّة لأستعلي على ضعفي، وأتقوّى بها على ما ينتابني من المخاوِف والمشاكل والصعوبات والأحزان. أكان (أيّوب) بشراً أم ملاكاً؟ كيف قهرَ ضعف مرضه؟ أكان (يوسف) إنساناً أم مخلوقاً فوق البشر؟ كيف تغلّب على شهوته؟ هل كانت (آسية بنت مُزاحم) زوجة فرعون، إمرأة أسيرة ضعفها البشري، أم قاومته بإيمانها بالله تعالى وبالثِّقة بما عنده وبُحسنِ الظنِّ به؟ الشّجعان في التأريخ، بقطع النّظر عن انتماءاتهم الدِّينية، وإن كان للدِّين دخلٌ كبيرٌ في شجاعة الإنسان، هل خُلِقوا من طينةٍ غير طينتنا؟! ما نريد قوله: إنّ الضّعف ليس قَدَراً، هو ليس كَلَون البشرة والعينين والشّعر، هو أمرٌ أشبه بالمعدن الخام المُستخرَج معه شوائبه، فإذا نُقِّيَ، وهو قابل للتنقية، تجلّى نفيساً. يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11). فأنا لا أستطيع التحكّم بطولي أو بشكل جسمي، لكنّني قادر على تغيير أيّ طبعٍ من طباعي حتّى ولو كان صفةً أو طبعاً بشريّاً عامّاً. إنّ ميزة المميِّزين من البشر هي هذه، أنّهم لم يستسلموا لضعفٍ في الخلقة، أو عجلةٍ في الطّبع، وإلاّ لما وجدنا الأقوياء الشجّعان، ولعدمنا الحلماء الصّابرين. ثمّ إنّ الله سبحانه وتعالى، وهو يُقرِّر بعض الطباع السّلبيّة فينا، يستثني الذين عملوا على تنقية معادنهم من شوائبها لتبدو ذهباً مُصفّى. يقول سبحانه: (إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا)، أي: شديد الحرص، جزوعاً عن الشر، منّاعاً عند الخير. (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) (المعارج/ 20-21)، فلو سكت هنا، لكانت الصورة قاتمة، سلبية جدّاً ولكنّه استثنى: (إِلا الْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ. وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ. وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ. وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ . إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ . إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ. أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) (المعارج/ 22-35). إنّ الآيات التالية للآيات الثلاث الأولى تقول أنتَ يمكن أن تكون كالأرض المهملة يمكن أن تتكاثر فيها الأدغال، والأعشاب الضارّة، والأشواك والحشرات والدِّيدان، بل والقاذورات أيضاً. نفسُ هذه الأرض، إن وجدت اليد الأمينة التي تهتمّ بها، وترعاها، وتنظِّفها، وتحرثها، وتزرعها، وتسقيها، أنبتت نباتاً حَسَناً مختلفاً، وأعطَت ثماراً نافعة كثيرة، وبدت خضراء جميلة تسرُّ الناظرين. تلك هي قصّةُ الإنسان مع طباعه، ومع قدرته على تغييرها. - رابعاً: خيري صناعتي وشرِّي صناعتي: قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) (فصلت/ 46). التطبيق الحياتي: فعلُكَ خيراً كان أم شرّاً، لمن نسبته؟ لك أنتَ الفاعل؟ أم لله تعالى الذي ملّككَ أمرك؟ يقول العلماء: "إنّ نسبة أي فعلٍ من أفعال الإنسان إلى الله لا يمنع من نسبته إلى الإنسان، تماماً كما أنّ نسبة الظواهر الطبيعية، من حرٍّ وبردٍ واختلاف الليل والنهار، إلى الله، لا يمنع من نسبتها إلى أسبابها الطبيعية الخاضعة المودَعة في الكون". وينتهون إلى الحقيقة التالية: وهي أنّ الإنسان مُختارٌ ولا جبر عليه، لأنّ الخيط الأوّل مربوط بيده وهو (حرِّية الإرادة)، ولا تفويضَ له تفويضاً مطلقاً، لأنّ الخيط الثاني، وهو (وسائل القدرة) بيدِ الله، فهو القادر أن يُبقيها حيث يشاء، وأن يُزيلها حيث يريد. وعلى ضوء هذا، لا يوافقون على الفكرة التي تقول: إنّ الله قد خلقَ الشر والخير، كونه خالقاً لكل شيء، فهو خلق العبد لكنه لم يخلق فعله، نعم خلق إرادته التي يتصرّف بها في فعل الخير أو فعل الشر. أما ترى لو أنّ أفعالنا مخلوقة، لكنّا نمطاً واحداً، إمّا أخيار أو أشرار؟ ثمّ ما معنى الجنّة وما معنى النّار، إذا لم نكن نحمل حرِّية الاختيار؟! هل عرفتَ الآن أنك أنتَ الذّي تصنع جنّتك بيدِك، أنتَ الذي تصنع ناركَ بيدِك؟ وأنّ خيرك الذي تنعم به وينعم به غيرك، هو منتوجٌ ذاتي، كما أنّ شرّكَ – أعاذك الله من جميع الشرور – هو صناعة محلِّيّة. ألا تتذكّر كيف أنّ رسول الله (صلى الله عليه واله) طلب إلى أصحابه ذات يوم وهم في الصحراء أن يجمعوا له حطباً، فاستغربوا طلبه، ثمّ ما لبثَ أن اجتمع بين يديه (صلى الله عليه واله) حطب كثير من قشّةٍ هنا، وخشبةٍ هناك، وعيدان هنا وهناك، وإذا به يُلفت الأنظار إلى أنّ نار جهنّهم تجتمع أو تُصنع هكذا. فإذا أردنا أن نعكس الصورة، نقول إنّ بيتنا في الجنة هو بناؤنا أيضاً: طابوقة من هنا، ولبنة من هنا، وعمود من هنا وآخر من هناك. فاختَر أين تبني مستقبلك؟ إنّ المصيبة أو الهزيمة التي حلّت بالمسلمين في معركة أُحُد هي من عند أنفسهم، خالفوا أوامر القيادة فدفعوا ضريبة المخالفة. وهكذا في كل معركةٍ حياتيّة، فليس معنى أن تكون مؤمناً، هو أن تُخالف القوانين والسُنن، وتتوقّع النصر أو الرِّبح أو النجاح! أنتَ تخسر وتنكسر وتنهزم بمقدار ما تُخالف القانون.. وتربح وتنجح وتنتصر بمقدار ما تلتزم القانون. وفي كلا الحالين.. هنا وهناك، أنتَ مَن (يختار) و(يُقرِّر)، لذا كان (مَدَد إلهيّ) أو (توفيق رباني) فهو الخطوة الثانية أو التالية للقرار والإختيار.
اترك تعليق