النهضة الحسينية والعناصر الحيويّة للإبداع والتأثير في الأمّة

تمهيد

لكلّ دين من الأديان ـ التي نزلت من قِبل السماء، والتي أخبرنا بنزولها القرآن الكريم، أو أخبرنا بها التاريخ على مرّ العصور من خلال كتاباته، أو من خلال معتنقي هذه الأديان، الذين لا زالوا يمارسون طقوس تلك الديانات ـ ميزات اختصّ بها عن الأديان الأُخرى، كاختصاص بعضها برقعة جغرافية محدودة، أو نزولها إلى مجموعة من البشر محدودة العدد (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ)[1]، أو متّحدة الثقافة والتوجّه، كما في قوم لوط. وغيرها من الميزات التي اختصّت بها بعض هذه الديانات.

وأهمّ ما يميّز الدين الإسلامي عن غيره من القوانين هي شموليته لواقع الحياة على كلّ المستويات، فهو لا يعالج المشكلة القائمة على فسحة الواقع من زاوية واحدة، أو ينظر إليها بعين حولاء لا ترى ما يواجهها، إلّا من الزاوية التي تستطيع الإبصار فيها، وهذا اللون من النظر تتفرّد به الرؤى الوضعية (النظريات الوضعية)، التي تتفجّر من بحبوحة الأرض بين الحين والآخر، ثمّ يظهر العجز عليها؛ لعدم استنادها إلى ما يؤيّدها من قيم عناصر الارتباط بالسماء، وهذا الأمر له أدلّته الكثيرة التي ذُكرت في محلّها، والتي لم نُشر إليها رعايةً للاختصار.

 إنّ هذه الشمولية لهذا الدين واستيعابه للواقع بكلّ أصعدته؛ ينتج عنها الخلود لهذا الدين وصلاحية منهجه لكلّ زمانٍ ومكان، ولكن بعد أن يتوفّر الشرط الأساس له، وهو توفّر المساحة التطبيقية، والنموذج الصالح، الذي سيمارس عملية التطبيق في الخارج (على أرض الواقع)، وبهذا الشرط المذكور يمكن لهذه الشريعة أن تُفرغ نظرياتها المتعدّدة على مساحة التطبيق، والارتقاء بالمجتمع إلى أقصى غاياته التكاملية.

وهذا الشرط نفسه متوقف في تحققه على عدم توفّر النقيض الذي يقف أمام وقوعه في الخارج؛ لأنّ النقيض سيكون المانع من استمرار التطبيق المذكور، ومقيّداً لأيدي النموذج الصالح، ومعرقلاً ثقيلاً في وجه الحركة التكاملية المطلوبة، والتي بها يتمّ اختصار الزمان وتوفير الملائمة للمكان.

والنقيض المذكور هو ابتلاء الشريعة بالنموذج الكَلّ على عاتقها، بممارساته الاستبدادية والنفعية، التي تؤول بها أوضاع الأمّة إلى التصحّر والجمود والتشويه، والذي يزيد من حجم التخريب في مساحاتها؛ ممّا يشوّه صورتها في نظر القاصي فضلاً عن الداني الذي دبّ اليأس في بقعة نفسه، وأوجد للشريعة فيها صورة ناقصة الملامح مشوّهة المعالم، يجعلها في مصافّ الأديان والأُطروحات الوضعية السائدة في العالم.

من هنا؛ برزت الحاجة إلى تأسيس منهجية فكرية صحيحة، لتحصين الواقع الفكري للأُمّة والذود عنه بكل ما أُوتينا من قوّة، ولا بدّ من دراسة التاريخ دراسة موضوعية؛ لإبراز الصورة اللامعة له، والأهمّ من ذلك كله هو إيجاد نماذج نقيّة تُبرز للعالم صورة الدين الحيّة القابلة إلى تصدير رؤاه الفكرية، والقابلة للثبات والصمود في وجه الثقافات والنُّظم التي تعتمد في واقعها على سياسة (ثقافة) الإلغاء والتهميش، وإرساء المرموزات الدينية العظيمة للأجيال القادمة؛ لأنّها تشكّل مصدراً من مصادر القوة والانتماء في حاضر الأُمّة ومستقبلها.

إنّ ازدياد رقعة التخريب في مساحة الأُمّة جعل من يطلب الإصلاح في ذلك يواجه أمراً في غاية الصعوبة؛ بحيث يتطلّب اهتزازات قويّة جداً في تلك المساحات المخرَّبة في واقع الأُمّة؛ لتعيد للشريعة حيويتها وتصحّح مسار التطبيق في مكوناتها، كما يتطلّب أيضاً إحداث نوع من عمليات العصف اللازمة في الأذهان؛ تجعلها قادرة على العطاء من أجل الأُمّة؛ وبالتالي تساهم في إكمال مسيرة التكامل الذي لا يحصل إلّا بتطبيق قيم السماء كمنهجية صالحة للامتداد، ولكن بواسطة المناخات الملائمة التي يجب أن تتوفّر لكي يتحقّق الإبداع المنشود، ويكتمل الوعي لدى الأُمّة.

فكانت النهضة الحسينية ـ بما اشتملت عليه من عناصر حيوية، أكسبتها القدرة على الإبداع والتأثيرـ هي القوّة الصالحة والمؤثرة لإيجاد الاهتزازات، وعمليات العصف اللازمة لإعادة الأُمّة إلى وعيها، وبثّ الثقة في نفوس أبنائها، وإصلاح ما يمكن إصلاحه من أمر الأُمّة؛ لتكون النواة التي تعتمد عليها عملية الإصلاح المستقبلية، طبقاً لثوابت الشريعة ذات القيم المستمدة من السماء، ومن هذه العناصر:

النهضة الحسينية وامتدادية النموذج النقي

كنّا قد أشرنا إلى صلاحية الدين الإسلامي للامتداد والشمول، وهنا نحاول الربط بين الاستمرارية المذكورة وبين النموذج النقي من زاوية نسأل من خلالها: هل يشترط أن يتكون لدينا مجتمع يحتوي على نموذج نقي مستمر؛ لكي يتلاءم مع استمرارية المنهج وشموليته، أم تكفي صلاحية المنهج للاستمرار فقط دون نموذجه؟

فلو قلنا بعدم الملازمة؛ فهذا القول يستلزم عدم التوازن في الكفّة؛ إذ كيف يتلاءم المنهج القابل للاستمرار في استمراريته بدون النموذج النقي.

إذاً؛ فلا بدّ من القول بالملازمة وعدم الانفكاك بين الطرفين؛ لكي نضمن الاستمرارية بكلّ أبعادها؛ ولكي نتقصّى من حالة الشكّ في استمرارية المنهج، ورفع النقض الوارد في المقام.

وبناءً على هذا؛ فلا بدّ من امتدادية النموذج النقي، وهو هنا ـ وعلى نظرية المذهب الإمامي ـ ممتدّ بوجود المعصوم الذي نصبه الله عز وجل لهداية البشر وحفظ شريعته بعد النبي علیها السلام، وكما قال الإمام الحسين علیه السلام: «إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم الله، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله. ولكن نُصبح وتُصبحون وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة»[2].

هذا المقطع من كلام الإمام الحسين علیه السلام يوضّح تفاصيل الامتداد للنموذج النقي، المعتمد في عملية الإصلاح في المساحة المخرَّبة من أرضية الأُمّة، على عمق الجذور المرتبطة بالسماء والمؤيّدة بها.

وقد أحسّ يزيد بهذا النموذج وأحسّ بخطره، كما أحسّت بطانته المنتفعة من قربها من أميرها الوهمي، وإنّ هذا النموذج يشكّل مصدراً للثورة، ويُهدّد المصالح المادّية لهم، ويعلّق مشروعهم التشويهي المعتمد على سياسة التزييف في بناء الأُمّة العَقَدي والتاريخي، وهذه الامتدادية تسعى إلى قلب الموازين التي تعتمد عليها آليات الاستعباد والاستبداد، وآليات مصادرة الحقوق والحرّيات، والتلاعب بمصائر الأُمّة.

وقد ساهمت في هذا الامتداد عوامل مختلفة على قمّة هرمها الوراثة، ذلك العامل المهم في سلّم الكمال، كما لمسناه في تركيبة الإمام الحسين علیه السلام الكمالية «إنّا أهل بيت النبوة» كمختصة لم يشاركه أحد فيها من الأغيار، كما أنّها في الوقت نفسه جلبت له هذا الكمّ الهائل من مشاعر الحقد والكراهية لدى ذوي النزعات المادية، المُختلّي التركيب وراثياً (التركيب النفسي).

وهذا الامتداد للنموذج مستمدّ من شعار إسلامي غاية في الخطورة على الآخرين (من هم بالاتجاه المعاكس)؛ لأنّه مهدِّد لهم بكل مفردة من مفرداته، ألا وهو شعار «أفضل الجهاد كلمة حقٍّ عند سلطانٍ جائر»[3].

 هذا الشعار هو اللائحة السياسية للمنهج الممتدّ، حمله وحكم به مفردات الحياة والدولة، وألزم الأُمّة المشاركة في صنع وتطبيق هذه اللائحة، التي ترفض مفهوم الاستبداد والعبثيّة بجميع صورها، وأيّاً كان مصدرها.

ولم يكن الإمام بغافل عمّا تمارسه السلطة الأُموية، بقيادة العبثي يزيد وهو يلاحق الرساليين، ويُحصي عليهم الأنفاس؛ استمراراً منه لمنهجية الطلقاء.

وكان الإمام يرى مقدار الخسف الحاصل في أرضية الأُمّة الإسلامية العقائدية والمبدئية، والتي إن استمرّ الوضع بها كذلك سوف لا يبقى لهذا المنهج الرسالي شيءٌ يُذكر، وسيسقط الإسلام ولن تقوم له قائمة.

فكان تشخيصاً دقيقاً وحاذقاً استدعى من الإمام الحسين علیه السلام أن يخطّط للثورة؛ لكي تستعيد الأُمّة عافيتها، ولكي يضع الأُمور في نصابها الصحيح، كما جسّدها النبي الأكرم علیها السلام؛ ولذا نرى أنّ الإمام علیه السلام اعتمد سلوكيات يعلم مُسبقاً أنّها ستكلّفه المزيد من التضحيات، فتارة نراه يقول: «ومثلي لا يبايع مثله». وأُخرى يقول: «وأنا أحقّ مَن غيَّر»[4]. ووفقاً لهذه السلوكيات وما سواها يُعلن أنّه النموذج المتّحد والأمثل لتطبيق النهج الرسالي.

وأحقّية الخلافة ليست حكراً وملكاً مادّياً كما يراه الاتجاه اليزيدي، حتّى يأتي دور الصراعات الشخصية هنا، بين مَن هو ملك وآخر يرى الأحقّية له بالخلافة، بل المسألة تتعلّق بروح المنهج السماوي المتكامل، حيث قطع سبل المنازعة في الموضوع، ونصَّ عليها في مواطن عدّة، وحْيَاً وحديثاً، ويعنينا مسألة عليها مئة وعشرون ألف شاهد، وقعت في بقعة اسمها خم، حدّدت بموجبها مواصفات الخليفة، ونصّ عليه، وقيل فيها: بخٍ بخٍ...

ومن التطبيق أنّ هذه المواصفات والعقلية المذكورة لا تنسجم مع روح المبدأ المادّي للتيارات المعاكسة؛ لأنّها ستُترجم إلى سلوكيات ونهج سياسة تبقى تحرّك الأجيال على مرّ العصور والأزمان، ملازمةً لاستمرارية المنهج وامتداده.

وهكذا تحرّك الإمام علیه السلام في الأُمّة المقهورة الضعيفة ليُعيدها إلى جادّة الصواب، بعد أن أوشكت على تقبّل الفكرة اليزيدية التي أخذت بالتجذّر والالتصاق، وفعلاً تحرّك الإمام علیه السلام.

 

الحتمية في التحرّك

عندما فشل الوليد في انتزاع البيعة من الإمام الحسين علیه السلام، صار لزاماً على الإمام علیه السلام ـ من حين خروجه من مجلس الوليد والي المدينة ـ أن يستعدّ للخروج من المدينة في جوف الليل، فخرج وهو يتلو قوله تعالى: (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )[5]. وسلك الطريق المعتاد حتّى طُلب منه أن يغيّر المسلك، فأبى قائلاً: «والله، لا أفارقه [الطريق الأعظم] حتّى يقضي الله ما هو قاضٍ»[6].

وقد كان السؤال هنا عن تغيير المسلك في سير الجادّة، إلا أن الجواب جاء بالنفي عن مفارقة الطريق الأعظم، على لسان البطل الثائر ذي الامتدادية، والأمثل في أحقّية الخلافة الشرعية لخصوصياته المتعدّدة المرتبطة بوحي السماء من جانب، ومن جانب آخر السلوك الأخلاقي العظيم الذي تهواه نفس العدو قبل الصديق.

إنّ الجواب يدلّ على حتميّة التحرك في الثورة، والتعبير المتقدم في جواب الإمام علیه السلام من ثوابت التحرّك والأسس التي لا يخالطها الشكّ في عملية الإصلاح، هذا الثابت نابع عن معرفية تامّة لأُمور الأُمّة آنذاك، كيف وهو الخبير ابن الوصي الذي يدرك ويعلم أنّ صلاح الأُمّة لا يتمّ إلّا بالثورة، ولكن أي ثورة، الثورة المدروسة الخُطى، ذات الثوابت العميقة، التي تمثّل المرتكز الذي يُعتمد عليه في عملية النهضة الحتمية الوقوع.

دخل مكّة 3 شعبان سنة60 للهجرة، فأقام فيها أربعة أشهر وأياماً، وهي أقدس مكان تهوى إليه القلوب من كلّ فجٍ عميق، فالتفّ حوله المسلمون وكعادة أهل العلم ـ لا يرون زكاته إلّا بتعليمه الناس ـ علّمهم من فيض علمه؛ لأنّه ابن الوصي كما وصف نفسه «ومهبط الوحي»، ولم يُتمّ حجّه في تلك السنة؛ الأمر الذي يبعث على كثرة التساؤلات وفي جوانب متعدّدة.

ويُجاب عنها ـ بمختصر الكلام ـ: أنّ شخصاً مثل الإمام الحسين علیه السلام يعي تماماً مسؤوليته في التحرّك الرافض، لا سيما وأنّ في خروجه من المدينة ودخوله مكّة ومكوثه فيها أربعة أشهر وأياماً، كلّه يصبّ في التخطيط السياسي الواعي الذي يعتمد على الأُمّة في التحريك، ويهيئ له الظروف الملائمة للانطلاق؛ فحلّ إحرامه ولم يكمل حجّه، وصرّح بعملية التحرك تاركاً المرحلة السرّية فيه، ومختصراً عنصر الزمن؛ لأنّ هذه المرحلة من حياة الأُمّة لا تتحمّل الانتظار؛ فلا بدّ من هزّة عنيفة تعبّر عن مكنون الأُمّة، فأعلن النداء: «ألا ومَن كان فينا باذلاً مهجته، موطّناً على لقاء الله نفسه؛ فليرحل معنا، فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى»[7]. وهي صرخة في واقع الأُمّة غاية في الصراحة والشفافية، خالية من نظرية المؤامرة، التي غالباً ما تُحاك خلف الكواليس، ودعوة طوعية لكلّ مَن يجد في نفسه توافر الشروط في البذل والتوطّن والاستعداد للرحيل بهذه الصورة المثالية، التي لم يشهد لها التاريخ من قبل، إنّها في غاية الصراحة والوضوح، خالية من كلّ الممارسات القسرية، وهذا نوع من المنهجية في التحرّك الواعي الذي يضمن للأُمّة كرامتها المهدورة، ويُعيد إليها حالة الوعي في الحركة.

إنّ روح الإمام الحسين علیه السلام روحٌ تجري العقيدة في عروقها، ولا يتحرّك إلّا حسب ما يُمليه عليه الواجب الشرعي في الحفاظ على عقيدة الأُمّة، التي تعرّضت للاهتزاز والانهيار لولا خروجه الذي صحّح المسار، مع علمه بأنّ خاتمة المطاف في التحرّك قتلٌ وسبي، لكنّ هذا لم يثنه عن عزمه في الحركة؛ ولذا نراه يخطّط للثورة؛ ابتداءً من رفض البيعة والخروج من المدينة، مروراً بالإقامة المؤقّتة في مكّة، وانتهاءً بحفر الخندق وتفقّد ساحة المعركة المقبلة، وهي عملية في غاية الدقّة، لا تدلّ إلّا على فكر القائد وشمولية النظرة القيادية عنده، وتدلّ على أنّ الهدف الذي يسعى إليه الإمام الحسين علیه السلام ـ روحي له الفداء ـ أسمى من كلّ الموازين المادّية؛ لأنّه نابعٌ من علم الإمام ابن الوصي الذي به فتح الله وبه يختم، ومثله لا يبايع مثل يزيد.

 

سمو الأهداف

 لقد شهدت الأُمّة الكثير من الثورات ذات الطابع الإصلاحي، ووقف خلفها الكثيرون، وروّجوا لها كحالات إصلاحية تهدف إلى تصحيح مسار الأُمّة المنحرف، ولكن سرعان ما خبا وهج تلك الثورات، وتعرّضت للتآكل، وبقيت مجرّد أحداث مرّ عليها الزمن، وجزءاً من تراث الأُمّة، وبقيت آثارها (السلبية الطابع) تنعكس على واقع الأُمّة؛ نتيجةً لردود الأفعال التي أحدثتها في الساحة (ساحة الأُمّة)، والمتقصّي لأسباب الانحسار عن مسرح الأحداث يجد أنّ مثل هذه الثورات تطلق شعارات إصلاحية الطابع، لكنّها تُخفي خلفها الأغراض الحقيقية لنفوس مدّعيها؛ الأمر الذي يدعو إلى ضبابية أهدافها، فتخلو تلك الأهداف من الاستناد التامّ إلى الدعامة التي تمنحها عنصر القوة والاستمرار، والمستمدّ من الاتّكاء على العقيدة التي تؤمّن الثبات والامتداد والمقبولية.

ولذا؛ نرى الإمام الحسين علیه السلام أعلن عن سموّ الهدف الذي من أجله خرج، وهو أمرٌ لم تألفه الأُمّة من قبل، فالإعلان عن الهدف قد يتيح للمتربّص أن ينقضّ على المشروع في مهده، والإعلان عن الهدف ـ ولاسيما من شخصٍ ورث الامتداد من بيت الوصي ـ أسمى ما في الثورة؛ حيث لم يترك للأُمّة خيار (إمّا أو)، ولا ثالث لهما: «إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت أطلب الإصلاح في أُمّة جدّي محمد علیها السلام، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»[8].

وهو شعار لا يختلط به غيره، مع علمه بما سيؤول إليه الأمر من قتلٍ وأسرٍ وسبي، لكنّه يدلّ على أعلائيّة الهدف وسموّه؛ ولذا صمّم على السير إلى كربلاء، وكلمة السير إلى كربلاء تستوقفنا للتأمّل، فالسفير أُرسل إلى الكوفة، العاصمة الحاضرة، وتقصّي السير إلى كربلاء، حيث (إلى) الغائية هنا يرجع بنا إلى خارطة الأحداث التي رسمها لنا النموذج المتصل بالسماء؛ حيث قال: «سيُقتل ولدي الحسين بأرضٍ يُقال لها: كربلاء»[9].

إنّ الأُمم السابقة (عدا النخبة الرسالية) اعتادت أن تنصب العداوة لمصلحيها؛ لأنّهم يشكّلون الخطر الذي سيطيح بتأسيساتهم المادّية ويحيلها إلى رماد؛ وإن النموذج النقي عالم بأنّ الأُمّة سيؤول أمرها إلى الخراب، بعد الهنات التي تعرّضت لها، وامتناع الأُمّة عن الإتيان بالدواة والكتف؛ ممّا عطّل عملية الكتابة التي لو حصلت في حينها لتمّ التطبيق للمنهج الرسالي، وهو أن تكون الأُمور بيد النموذج الأمثل القادر على إدارة عجلة الحياة بكافّة أصعدتها؛ نظراً لما يتمتّع به من خصوصيات أهّلته لهذا المنصب.

ولو تمّت الملازمة بين قابلية المنهج للاستمرار وبين صلاحية النموذج النقي للامتداد، تتمّ قواعد العملية الإصلاحية على أفضل صورة رسمتها السماء؛ لأنّ هناك فرقاً واضحاً بين وجود منهج رسالي مستمر وبين الواقع التطبيقي لهذا المنهج الرسالي، ولعلّ من أبرز الإشكاليات التي واجهت المنهج هي عدم إتاحة الفرصة المناسبة له بالنزول إلى حيّز التطبيق.

قال الإمام الحسين علیه السلام: «مَن رأى منكم سلطانا جائراً، مستحلاً لحرام الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسُنَّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيّر بفعل ولا قول؛ كان حقّاً على الله أن يُدخله مدخله»[10].

والإمام علیه السلام يعلن بهذا الخطاب المقدس دعوة صريحة لتشخيص هوية الأُمّة السياسية والقائمين عليها في إشراك الشريحة التي تسكت عن إبداء الرأي الآخر في الممارسات التي لا تنسجم مع روح المنهج، ووعدهم بالمؤاخذة والإدخال في نفس المدخل، وهو مبدأ اعتمده الإمام علیه السلام كخطّة لتخليص الساحة من الشوائب كشروط لجعلها نقيّة، وأغلقت الأبواب على مَن لم يخرج؛ ولذا نرى أن الذين صمدوا في الميدان هم الذين لم يختاروا على الخلود أمراً غيره؛ فاشتروا رضا الله بأغلى الأثمان: ( إِنَّ اللَّـهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)[11].

ومن المؤكّد أنّ النخبة الصالحة هي التي تأخذ على عاتقها مهمّة تقنين جوانب حياة الأُمّة باعتبارها صاحبة الوعي الرسالي والذهنية المتفتقة، والتي تستطيع من خلالها أن تمتلك القابلية اللازمة في الإدارة.

ومعلوم لذي كلِّ لُبّ، أنّ النخبة لم تصل إلى مرحلة النخبوية إلّا بعد أن مرّت بعمليات استجلاء وغربلة للنوايا، اجتازوا جميع مراحلها؛ فوصلوا إلى مرحلة توطين النفس على الموت، فكانت النتيجة: «والله، لقد بلوتهم، فما وجدت فيهم إلّا الأشوس الأقعس، يستأنسون بالمنيّة دوني استيناس الطفل بمحالب أُمّه»[12].

وهذه الخطّة في استجلاء نوايا القوم أثبتت مقدار إخلاصهم في الفداء والتضحية في سبيل العقيدة وكرامة الإنسان، وتبقى ثورة الإمام الحسين علیه السلام نبراساً لكلّ من يسعى للبحث عن عزّة النفس ومعنى الشرف والإنسانية.

 

شفافية التحرّك

إنّ الإعلان عن هدفية الثورة عند الإمام علیه السلام لم يكن منفصلاً عن التحرّك منذ البداية، مع العلم المسبق بما ستؤول إليه الأحداث فيما بعد التحرّك، وبما أنّ الإمام علیه السلام خاطب الأُمّة واستنهضها؛ لأجل إزالة التشويه الحاصل في ساحة العقيدة، لكنّه في الوقت نفسه مارس الدور القيادي الكامل في إدارة التحرّك؛ فمنذ أن وصلت إليه الكتب المتوالية من الأُمّة شكّلت عنده الخطاب الشرعي اللازم للتحرك نحو الثورة، فباشر التحرّك المدروس.

فعندما لقي عبد الله بن مطيع الإمام علیه السلام في طريق مكة، قال له: «جُعلت فداك، أين تريد؟ قال [الإمام علیه السلام]: أمّا الآن فمكة»[13].

ثمّ حذّره من الكوفة لشؤمها وخذلان أهلها لهم، ثمّ أشار عليه بملازمة الحرم المكي؛ ظنّاً منه أنّ السلطة آنذاك تأخذ حرمة الحرم بعين الاعتبار، وهو ظنٌّ يختلف عن ظنّ القيادة الحكيمة ومنهجيتها الرائدة في الإصلاح التي اتّبعها الإمام علیه السلام، ومع هذا؛ فإنّ المُستشفّ من قول ابن مطيع بعد طلبه المكوث في مكّة أن تُتّخذ مكّة كقاعدة للإمام بدليل قوله: «ويتداعى إليك الناس من كلّ جانب...»[14]. مع أنّ الواقع الحياتي الذي أُسندت قيادته إلى الإمام علیه السلام يتطلّب تنقية الأهداف الإصلاحية؛ لتتناسب مع إشكاليات الأُمّة المعرّضة للتشويه والاهتزاز في العقيدة.

ولو نظرنا إلى مكوّنات الساحة السياسيّة التي شكّلت عناصر التحرك للثورة، ابتداءً من التحرّك نحو الطف، وإرسال السفير الفدائي العظيم المخلص، صاحب الُمثل والمساحة الأخلاقية الرفيعة المستوى، وانتهاءً بكربلاء الدم والسيف والشهادة، وبهذا الشكل يتّضح مدى عمق العبقرية التي يمتلكها الإمام الحسين علیه السلام في الثورة، فنجح في استدامة روح الثورة عبر المواقف التي تعرّض لها في كلّ مراحل التحرّك، فمثلاً: الطرماح بن عدي الطائي يقترح عليه أن يحتمي بطيء، وأنّه يكفل له عشرين ألف طائي حتّى يتبيّن الأمر. فرفض الإمام علیه السلام هذا العرض الذي يبدو مغرياً لأوّل وهلة؛ فإنّ عملية الاحتماء لو أراد أن يمارسها الإمام علیه السلام يتمكّن منها قبل أن يتحرّك، أو قبل أن يصل إلى مشارف طيء، وعلماً منه أنّ هذه العملية ستلغي مشروع الثورة الحتمية الوقوع، سواءً احتمى أم لم يحتمِ.

كما أنّ المسألة ليست ذات طابع قَبَلي، حتّى يلجأ إلى الاستجارة بالقبائل الأُخرى لدفع القتل عن المستجير، بل هي ذات أبعاد أكبر من هذه التصورات، مسألة تعود إلى أنّ الإمام الحسين علیه السلام يمثّل الضمير الواعي للأُمّة، وثقافة لا يمكن مجاراتها؛ نظراً لامتداداتها المتشعّبة في المجتمع، وقرب نسبها وعهدها بالوحي السماوي؛ الذي أمدّها بكلّ قيم السماء، وكلّ هذه العناصر شكّلت الصلاحية المتكاملة للعنصر النقي، الذي يُمثّل تطلعات الأُمّة من خلال ممارسة عملية الوعي التام، وهذا ـ بمجموعه ـ شكّل بؤرة الخطر القادم على دنيا ذوي الاتجاهات المادّية؛ فهبّوا للانقضاض عليها، ولم يرضوا إلّا بانتزاع العلقة التي في الصدور، فالمسألة ليست محتملة لرؤيا تحليلية محدودة النظرة؛ ولذا قام الإمام الحسين علیه السلام في التحرّك بعملية يعلم أنّها معيدة للأُمّة رُشدها، وتنمّي الوعي لدى أبنائها؛ لكي تستمر عملية الثورة التي جاءت نتيجة الوعي الراقي، وفق المنهج الإسلامي(السماوي)، على أيدي نخبة مارست عملية إيقاظ الأُمة من خلال الإيمان بالمنهج، لا من خلال التكوين الطبوغرافي للمجتمع.

فهذا النوع من الوعي أفرز عنصراً مهمّاً في واقع الأُمّة النخبوي، وهو عنصر الثبات والاستماتة في سبيل المبدأ الذي انتهج من خلال العقيدة، التي ترسخت إلى حدٍّ يدفع المعتنق بذل أغلى ما يملك ـ وهي الحياة ـ في سبيل العقيدة، وهو الطريق الذي لا ثالث له (إمّا، أو)، إمّا النصر الذي هو إحدى الحسنين، أو الشهادة ومعناها الخلود الأُخروي الذي وعدت به السماء بقوله تعالى: ( إِنَّ اللَّـهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)[15].

 

دور الأُسوة في القيادة

لا شكّ في أنّ الدور القيادي الذي مثّله الإمام الحسين علیه السلام ولّد جانباً معنوياً، استمدّ منه الثوّار ضمانة نجاح أهداف الثورة الحسينية؛ لأنّ الإيمان الراسخ بسلامة التحرّك وخلوّه من الرؤى الدنيوية ـ التي غالباً ما تعمل على تحجّر الثورات وجمودها ـ هو الذي جعل النخبة واثقة الخطى قوية العزيمة، وهذا الإيمان أنتج بهم أسباب الإبداع الشخصي، الذي شكل بدوره العنصر الإبداعي المتكامل للثورة وقائدها وأصحابه؛ لأنّهم وجدوا الأُسوة المتكاملة، والشخصيّة الممتدة في العمق الرسالي، وهذه الأُسوة شكّلت الدافع المعنوي العالي الدقّة للنخبة الثائرة، وأعطتهم الزخومات اللازمة للاستمرار باتجاه الكمال.

فالأُسوة هي قيادة عميقة المسؤولية، ذات حكمة عالية وشجاعة فذّة، وتُثبِّت الوعي لدى الأُمّة سياسياً وتجعل النخبة تُؤثر الحتف على العيش المتّصف بالذلّة والخنوع.

ولذا نرى الأُسوة القائد (الإمام روحي له الفداء) يقول: «أُثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السرّاء والضرّاء، اللّهم إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآن، وفقّهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، فاجعلنا من الشاكرين»[16].

إذاً؛ مصدر القوّة هو الارتباط بالسماء من جهة، وأداء التكاليف المناطة بالمخلوقين من جهة أُخرى، وفي البين إلهاب وتوهّج للوعي؛ يجعله قابلاً لإعلان الرفض لكلّ أنواع الاستبداد أو الاستلاب الممارس في واقع الأُمّة سياسياً وفكريّاً.

وبهذه الدقّة التي امتازت بها الأُسوة المخططة للثورة والقائدة لها تستطيع الأُمّة التمييز بين الحقّ والباطل، وبين الخير والشر.

وهذا الارتباط السماوي الذي أشرنا إليه، والذي جُعل امتداداً لمنهج السماء في الأرض، يتمثّل في حقيقة النبوة وخليفتها الإمامة، التي نصّت السماء على اقتفاء أثرها؛ للخروج من الظلمات إلى النور، من خلال تقويم حركة التاريخ والواقع، وهذا النوع من الامتداد لا يعتريه أدنى ريب؛ وهو مساهم مساهمةً فعّالةً في رفع معنويات النخبة الواعية، وجعلها تستميت في سبيل المبادئ السامية، مع العلم القطعي بتلك النتيجة النهائية، التي وضعها لهم القائد الذي أخذ على عاتقه تهيئة كلّ مستلزمات الحرب؛ انطلاقاً من قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّـهِ وَعَدُوَّكُمْ )[17]، وانتهاءً بحفر الخندق خلف معسكر القيادة؛ وذلك لاستخدامه وفقاً لاستخدامات الحرب الوشيكة ـ بل الحتمية ـ الوقوع؛ ممّا جعل النخبة الرسالية تقطع بعدم التقصير في مسألة التابع للمتبوع؛ لذا نراهم يوم الواقعة كانوا على استعداد منقطع النظير، رابطي الجأش شديدي المراس، ممّا حقّق المراد في الآية الكريمة بإيجاد الرهبة في قلوب الأعداء بصنفيهم، أعداء الله وأعدائهم، أوجدوا الرهبة في قلوب الأعداء باعتمادهم الأسباب الطبيعية في المواجهة، بعد الاعتماد على عنصر الغيب الذي ضمن للجميع التكامل من الحقوق: (إِنَّ اللَّـهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)[18]، وزوّدهم بعناصر الاستماتة، وأعطاهم الآيات المناسبة لخوض غمار المعركة الرابحة في الميدان الكربلائي، الذي حوى الكون بأجمعه يوم التقى فيه صنفان من القوّة، مميّزان بخصائص ميّزت أحدهما عن الآخر، صنفٌ مثّل كلّ قِوى الخير في الكون، وآخر مثّل كلّ قوى الشرّ، المتمثّلة بالأنانيات القاتلة، التي أخلّت بمسيرة الإصلاح التي تبنّتها قوى الخير، المتمثّلة بأبطالها الشرعيين ذوي التأييد السماوي، الذين خاضوا المعركة بأخلاقية لا نظير لها في التاريخ، وابتعدوا فيها عن كلّ الممارسات الإلجائية إلى الطاعة، والانخراط في المعركة؛ إذ يقول القائد الذي أخذ على عاتقه تنفيذ أمر السماء: «شاء الله أن يراني قتيلاً»[19]. ويقول: «لا أُكرهكم؛ مَن أحبَّ أن يمضي معنا إلى العراق أوفينا كرائه، وأحسنّا صحبته، ومَن أحبَّ أن يفارقنا من مكانه هذا أعطيناه من الكراء على قدر ما قطع من الأرض»[20].

أراد أن يعلّم التاريخ ـ بجميع أجياله ـ المنهجية الصالحة للتعامل مع الجماهير الثائرة، للوصول بها إلى أفضل النتائج المرجوّة في عمليّة التغيير والإصلاح في مساحات الأُمّة المخرّبة، دون اللجوء إلى أساليب من شأنها أن تحقّق عمليات انتصار طوباوية، لا تلبث أن تفارق التاريخ وتتلاشى مع أوّل استيقاظات الأُمم، صرخات الحسين علیه السلام التي هتفت بها حناجر الموحّدين يوم المنازلة؛ فكان النصر حليفاً له ولأتباعه، بعد أن وقف منادياً أصحابه: «ألا وإنّي قد أذنت لكم؛ فانطلِقوا جميعاً في حلّ، ليس عليكم حرج منّي ولا ذمام، هذا الليل قد غشيكم، فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كلُّ رجلٍ منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي، وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم، حتّى يفرّج الله، فإنّ القوم إنّما يطلبونني، ولو أصابوني لهوا عن طلب غيري»[21].

هذه الروحية الخاصّة في الخطاب تناسب ـ تماماً ـ الإعداد العسكري الذي اتّبعه القائد في تخطيطه لقيادة النُّخبة الرسالية المؤمنة، التي اختارت الفناء معه على البقاء في ظلّ أجواء حرّة لم تعهدها الصراعات التي ذكرها لنا التاريخ، بعيدةً عن كلّ أجواء العنف والاستبداد والتفرّد المقيت، وهذه الأجواء جعلت الرسالي يدافع عن العقيدة بإبداع خلّده ورمّزه في ذاكرة الأجيال؛ لأنّ قائده كان معه بمنتهى الصدق والصراحة والنقاء، حتّى مع مَن هو في معسكر الندّ، كما في جوابه للوليد حاكم المدينة: «أيّها الأمير، إنّا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجلٌ فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله»[22].

 فهذه المنهجية الصريحة الصادقة نراها تُمارس مع الجميع بلا استثناء: «من أحبّ منكم الانصراف فلينصرف؛ ليس عليه منّا ذمام»[23]. وفعلاً كان الباقي هو النخبة التي حملت أعباء المرحلة الخطيرة في تاريخ الرسالة، التي بها أعادوا للدين رونقه وفعاليته التي أخمدتها الأهواء والأطماع والممالك الواهية ذات العُقد الدنيئة.

أخلاقية خاصّة مُورست مع الجميع، شملت حتّى القريب ممَّن كان معه قد شدّ الرحال نحو الحياة الأزلية؛ لذا نراه يخاطب النخبة لاستجلاء النوايا؛ ولكي يرتفع الغدر فيما بعد القول الصادق: «أخاف ألّا تعلموا ذلك، أو تعلموا ولا تنصرفوا للحياء منّي، ويحرم المكر والخديعة عندنا أهل البيت»[24].

فكانت الواقعة، وقد وصف القائد فيها أصحابه: «لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ و لا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي خيراً»[25].

وقد تمخّض عن قوله أروع النتائج في الدفاع عن العقيدة والمبدأ في أروع صور الاستقبال القتالي، متمثلاً بقول الأسدي للأنصار: «فإذا صار الصباح فأوّل مَن يبرز إلى القتال أنتم، نحن نقدمهم للقتال، ولا نرى هاشمياً مضرّجاً بدمه وفينا عرق يضرب؛ لئلّا يقول الناس: قدّموا ساداتهم للقتال وبخلوا عليهم بأنفسهم؟! فهزّوا سيوفهم، وقالوا: نحن على ما أنت عليه!!»[26].

وقد نقل لنا التاريخ أجمل المشاهد الإبداعية في الاستماتة والامتثال، تدلّ على نضوج الوعي لدى النخبة الواعية، شيخ كبير طاعن في السنّ، وامرأة عجوز، طفل رضيع، شباب بعمر الورود، الجميع أعطوا المبرّرات اللازمة لخلود الثورة وقائدها وأصحابه الأوفياء في سبيل إعلاء كلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله عليّ وليّ الله، وجعلها منهجاً صالحاً مستمراً قابلاً للشمول والامتداد.

 

النتائج الحتمية

مع أنّ عاشوراء الحسين علیه السلام تتضمّن المأساة والتحدّي، فقد أحدثت في المجتمع الذي رضي بالذلّ والهوان هزات عنيفة، أعادت له بعض وعيه المفقود وإرادته المسلوبة، وهذا اللون من الوعي لم يفهمه المشفق والمعارض حينما نصحه بالتأجيل أو بتغيير المسار، فقد ردّ عليهم بقوله المستمدّ من وحي النبوّة المرتبطة بالسماء: «والله، لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا سلّط الله عليهم مَن يذلّهم، حتّى يكونوا أذلّ من فرم الأمة» [27].

ولأنّه يعلم أنّ السنن التاريخية التي تحكم الحياة لا بدّ من تحريكها بواسطة إحداث هزّة في وجدان الأمة، وعصف في ضميرها، وإنتاج حالة الوعي لديها.

والغرض من عملية تحريك السنن لأجل إصلاح القيم وبناء ما هو صالح للحياة، مع أنّ البعض قد منّى الإمام بالأمان والمواصلة، وفتح صفحة جديدة تقوم على حسن المعاشرة والجوار، فأجابه الإمام بأن هذا لا يكون أبداً.

كما أنّ المشفق قد عرض على الإمام المشورة والنصح غير المستند إلى الجذر العلمي بمجريات الأُمور الحتميّة، فقال: «يا عبد الله، ليس يخفى عليَّ الرأي، ولكنّ الله تعالى لا يغلب على أمره»[28].

ومع هذا، فالإمام قاطع بحتمية الخروج؛ لأجل تصحيح المسارات الخاطئة في الشريعة والحياة، ولم يعر أهمية لما قد أُبدي له من المشفق والمعارض، فسار بوعيه السماوي ليحطّم أجهزة الحكم ومؤسساته الخاطئة، بطريقة حسينية معتمدة على الوعي والفهم الدقيق، وهو عصارة الفهم الحسيني لمجريات الأُمور؛ فحصلت عملية التغيير المتوخّاة في الخروج الحسيني، وتغيّرت بُنى الإنسان الداخلية، وخلقت الوعي لديه من خلال كشف وتحطيم الزيف، وكشف الممارسات الجاهلية التي لا تمتّ إلى الدين بصلة، وكذلك بثّت تلك النهضة في النفوس عقدة جلد الذات، وضرورة إماتة النفس التي لم تُشارك ولم تنصر في تلك النهضة.

كما فتحت الآفاق أمام أعين الناس، ممّا جعلها تميّز بين الغث والسمين، وإن كانت مغلوبة على أمرها ظاهراً.

هذا من جهة، ومن جهةٍ أُخرى نرى أنّ تلك النهضة مهّدت للعديد من الثورات، التي استمدّت روحها من واقعة كربلاء الشهادة، ومنها على سبيل المثال: ثورة المدينة، وثورة التوابين، وثورة المختار الثقفي، وثورة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث سنة 81ﻫ، وثورة زيد بن علي بن الحسين علیه السلام 121ﻫ.

 وهكذا بقيت ثورة الإمام الحسين علیه السلام المصباح الذي يستضيء به كلّ ثائر يروم الثورة في كلّ أنحاء العالم؛ ليعيد للإنسان الاعتبار المفقود، ولكي يكون مؤثّراً في إحداث هزّات مناسبة في سنن الكون؛ لأجل الإصلاح والتغيير.

 

طبيعة الصراع

لا يخفى على اللبيب أنّ العنصر الفاعل في الحياة هو الإنسان، صاحب الدور الريادي في مسيرة رسم حركة التاريخ، وتحقيق الهدف المنشود من خلقته: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ)[29]، وغالباً ما يتعرّض هذا العنصر الفعال إلى عملية هدم تشمل جميع بُناه الثقافية والفكرية، بل على جميع الأصعدة.

وهو كفرد مساهم ضمن جماعة يُطلق عليها المجتمع، كلاهما يتعرّض إلى عمليات الاستلاب والغزو المسبّبين عن عملية يُطلق عليها  الركون إلى الغير (الظالم)، تلك العملية نصّ عليها الكتاب الكريم بقوله تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ)[30].

وتلك العملية (الركون) تؤثّر في هدم البناء الديني لكلا الطرفين(فرد، مجتمع) وتسبّب لهما الإعاقة وتعطيل المسارات الإصلاحية عندهما؛ لأنّها تحدث فيهما الشلل التامّ، أو شبه التامّ؛ ممّا يجعلهما غير شاعرين بما ينويان له، أو على الأقلّ يجعلانهما يغضّان الطرف، فيؤثران الصمت على الكلام، والاستكانة على العمل.

وما جرى في كربلاء ـ وما سبقها من أحداث يندى له جبين الإنسانية جمعاء ـ هو عبارة عن صراع بين ثقافتين، إحداهما مستندة في جذرها إلى السماء، ومؤيّدة بها ومتغلغلة في أعماق الفطرة الإنسانية، والأُخرى سطحية خالية من القيم، وتفتقر في النشأة والتكوّن إلى ما يؤيّدها، لكنّها تستخدم الآليات المحرّمة ممّا لا تستخدمه الأُولى، فلغة الثقافة الأُولى نزاهتها وشعورها الدائم بضرورة المحافظة على القيم، والسعي الحثيث لعدم هدمها، بل هي القيم بذاتها، وأمّا لغة الثقافة الثانية، فهي تقدّم نفسها على أنّها الأمثل، ولو سمح لها بالتمدد لأتت على كلّ شيء؛ ولذا كان الإمام الحسين علیه السلام مصيباً على الدوام بقوله: «على الإسلام السلام؛ إذ قد بُليت الأُمّة براعٍ مثل يزيد»[31].

فالصراع لم يكن مجرّد خروج على حكم جائر، بل هو ثورة على القيم الفاسدة، التي طغت على المجتمع وأدّت إلى تلك الخرابية الواسعة، التي شملت وشلّت نظام القيم الصحيحة في الحياة، وإلّا لو كان الأمر كما يصوّره البعض لأمكن تسوية الأُمور، وإعطاء البيعة والعيش بوفور تقتضيه مفرداتها، فالإمام عند رفضه البيعة ليزيد ووصفه له: «شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلنٌ بالفسق»[32]، لم يكن رفضه مجرّداً عن الأسباب الداعية له، بل من أشدّه مواجهةً للانحراف الحاصل في ثوابت الشريعة ومبادئها؛ مما يجعل الإمام علیه السلام رافضاً أبداً لهكذا نوع من البيعة، واستمرّ الصراع حتّى حصلت المواجهة الكبرى (كربلاء)، فبان الصبح لذي عينين، وهو ليس صراعاً جديداً، بل له من سابقاته من النظائر، ممّا لا تختلف عنه بكثير، فمنذ بدء الدعوة الإسلامية أُعلنت ثقافة الضدّ، قريش وحلفاؤها ـ عرباً ويهوداً ـ أُعلنت الحرب منكرةً وحي السماء تارةً، ومشكّكةً به أُخرى.

ولا يخفى أنّ النصر دائماً وأبداً هو حليف الثقافة الأعمق جذراً، والممتدة والمعتمدة في جذرها إلى السماء؛ فانتصر الإسلام، وأصبحت كلمة لا إله إلا الله تصدح فوق المنابر والمآذن.

وكانت تلك أُولى بدايات الصراع بين ثقافتين على أرض واحدة، مع كامل الانقطاع عن الممالك المجاورة لهما، ومع قلّة مواردهما في العدّة والعدد.

والنظير الثاني ما آل إليه الأمر في صفّين والجمل، وكلا النظيرين جاء ليصحّح المسارات الخاطئة، وفضح الزمر المشوّهة للمفاهيم والقيم الصحيحة؛ ولذا عندما نقول: إنّ حقيقة الصراع هو بين ثقافتين أُولاهما إصلاحية، والثانية إفسادية. لا نكون مجحفين لو وصفنا الثانية بأنّها انتهازية مستهترة، غير مقيّدة بضوابط الدين والأخلاق.

وهكذا كان واقع الحياة، بل المستفاد من سيرة الأنبياء والمرسلين أنّهم عملوا على نشر القيم بدءاً بآدم علیه السلام، وختماً بنبوة الخاتم للرسل والرسالات محمد علیها السلام، مضافاً إلى ما ورد في التاريخ من العِبَر الخالدة، الدالّة على أولويّة تقدّم القيم على المفاسد.

ولذا؛ ورد التأكيد على أهمية حسن الخلق في المجتمعات، بقوله علیها السلام: «أفاضلكم أحاسنكم أخلاقاً، الموطّئون أكنافاً، الذين يألفون ويُؤلفون، وتوطأ رحالهم»[33].

ثمّ إنّ تأكيد المنهج السماوي على أهميّة القيم في الحياة، من خلال الجهاد والمجاهدة في سبيل الله: «إنّ الجهاد هو العروة، والأمر بالمعروف هو الوفاء، والنهي عن المنكر هو الحجة»[34].

وقد أبرزت الثقافة الأُولى (ثقافة الحسين علیه السلام) هذه الرؤية في الإصلاح في إطار الأخلاق داخل المجتمعات؛ لما لها من الأهمّية في إدارة الواقع الحياتي للمجتمعات؛ لذا نراه علیه السلام يقول: «وأنا أوْلى مَن قام بنصرة دين الله، وإعزاز شرعه، والجهاد في سبيله؛ لتكون كلمة الله هي العليا»[35].

ولا زال الصراع مستمراً إلى يومنا هذا، ولكلٍّ مسلكه الخاص به، وممارساته التي يتّبعها.

فهذا معاوية يخاطب أتباعه صراحةً: «ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا... ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم؟!»[36].

وهنا تكشف هذه الثقافة عن أخطر أوراقها، والأُمّة لا زالت تغطّ في السبات لا تحرّك ساكناً ولم تغيّر شيئاً و(إِنَّ اللَّـهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)[37]، وفي المقابل نرى الثقافة الرافضة تضع في المعادلة ما يرجّحها: «لا والله، لا أُعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أُقرّ إقرار العبيد»[38].

فكانت نتيجة الصراع هي الامتداد للمسار الذي رسمه الإمام علیه السلام على مرّ التاريخ، وهو ما يؤيّده الخطاب الإلهي: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا)[39].

وأيّ فتح ذلك المعبّر عنه، عندما خرج من مكّة: «من الحسين بن علي إلى بني هاشم، أمّا بعد، فإنّه مَن لحق بي استُشهد، ومَن تخلّف عنّى لم يبلغ الفتح، والسلام»[40].

وأيّ رسالة إلى بني هاشم سادة الأُمم وقادة الأخيار وأُمناء الرحمن، ليس فيها احتمال بالربح والخسارة في الدنيا، بل فيها قطع بالربح والفوز في الآخرة، وهو المراد والمبتغى.

وهذا المراد ناتج عن الخطاب الإلهي: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[41].

وبما أنّنا أثبتنا أنّ حقيقة الصراع هو بين ثقافتين، وأشرنا إلى بعض الخصوصيات التي تكتنفهما كليهما، والآن نودّ الإشارة إلى أنّ كلاً منهما لديه الآليات المناسبة لكي يوصل صوته إلى المجتمع، فالثقافة الأُولى تبتغي نشر القيم في الحياة، ولا بدّ أن تكون آلياتها تناسب ما تذهب إليه، وإلا لانخرم وعدها للمجتمعات، بأنّها ستكون ناشرة لقيم الحياة فيها، وبما أنّها الممدوحة على لسان ربها؛ حيث قال تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)[42]، فلا بدّ من أنّها ستقوم بنشر أجمل القول في الحياة.

ثمّ قال: (إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا )[43]، ولا شكّ في أنّ السبيل الموصل إلى الربّ هو سبيل القيم الصالحة لا الفاسدة.

ولو أنّنا نظرنا إلى ما ألقاه صاحب هذه الثقافة ـ في مختلف مراحل حركته نحو كربلاء ـ نجده يحرص كلّ الحرص على القيم مع الآخرين، فقد قال: «أيّها الناس، اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما يحقّ لكم عليَّ، وحتى أُعذر إليكم، فإن أعطيتموني النَّصف كنتم بذلك أسعد، وإن لم تعطوني النَّصف من أنفسكم، فأجمعوا رأيكم، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة، ثمّ اقضوا إليَّ ولا تنظرون، إنّ وليّي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولّى الصالحين»[44].

وما أجمله من إعلان وإعلام للناس! فإنّه خطاب بضرورة الاستماع وعدم العجلة والتأنّي حتّى تصدر النصيحة الحقّ، ثمّ يكون العذر له منهم، وما أجمل الدعوة إلى النَّصف للأنفس التي هي أحبّ شيء إلى الإنسان! فلا بدّ من إعطائها النَّصف، وعدم الإساءة إليها، وإقحامها فيما يسبّب لها المساءلة غداً (في الآخرة) أمام الله تعالى.

وما أجمله من صوت حقٍّ وصدقٍ وصراحة ملتزم بضوابط القيم والأخلاق، كما أنّ تلك الثقافة قد استعانت بآليات أُخرى؛ لأجل إيصال صوتها إلى الحياة، ولترفع الإبهام عن ذهن كلّ مستفهم بعدها عن كلّ ما يدور في خلده من عدم أحقّية الخروج؛ لأجل إعادة الأُمور إلى نصابها الصحيح، ومن أبرز تلك الآليات هم الأصحاب الذين رافقوه إلى آخر المحطات في العملية التغييرية، فهذا برير ينادي: «يا معشر الناس، إنّ الله بعث محمداً بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله وسراجاً منيراً... أفجزاء محمد هذا؟! يا قوم، إنّ ثقل محمد قد أصبح بين أظهُركم، وهؤلاء ذريته وعترته وبناته وحرمه، فهاتوا ما عندكم، وما الذي تريدون أن تفعلوه بهم»[45].

وقال الحرّ ابن يزيد الرياحي: «يا أهل الكوفة، لأُمّكم الهبل والعبر؛ إذ دعوتموه وأخذتم بكظمه وأحطتم به»[46].

وهكذا استمرّت تلك الثقافة بعرض ما عندها؛ لأجل إلقاء الحجّة على مَن لا يعلم، فكان الصوت المستمر لها يدوي ويصكّ الأسماع عن طريق سليل النبوة وعِقدها المنضود، الإمام علي بن الحسين علیه السلام في أكثر من موقف؛ ليوضح بجلاء أحقّية أهل البيت علیهم السلام، روّاد هذه الثقافة الأصيلة في إحداث عملية التغيير الإصلاحي للقيم في الكون والحياة.

وهذه أخته ممثّلة المرأة في العالم الحرّ، ورائدة الديمقراطية، والمدافعة عمّا تعتقد به من قيم ورثتها عن جدّها النبي الأعظم علیها السلام وأبيها الوصيّ علیه السلام.

 فقد روى المؤرخون أنّها أومأت إلى الناس فسكتوا، وراح صوتها الهادر يخترق الأسماع ويصكّها، فقالت: «الحمد لله والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار، أمّا بعد، يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر، أتبكون فلا رقأت الدمعة ولا هدأت الرنّة، إنّما مَثَلكم كمَثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم، ألا وهل فيكم إلّا الصلف النطف، والصدر الشنف، وملق الإماء وغمز الأعداء، أو كمرعى على دمنة أو كفضةٍ على ملحودة، ألا بئس ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون. أتبكون وتنتحبون؟! إي والله، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسلٍ بعدها أبداً، وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة، وملاذ حيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار حجّتكم، ومدرة سنّتكم؟! ألا ساء ما تزرون»[47].

فاندهش الجميع من هول ما سمعوا؛ فانتبهت القلوب والضمائر لما عرفت من عظيم الشأن والجناية.

تقول الدكتورة بنت الشاطئ: «لقد أفسدت زينب أخت الحسين على ابن زياد وبني أُمية لذّة النصر، وسكبت قطرات السم الزعاف في كؤوس الظافرين» [48]، إلى أن وصلت في آخر خطابها: «فكِد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فو الله، لا تمحو ذكرنا، ولا تُميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلّا فند، وأيّامك إلّا عدد، وجمعك إلّا بدد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين. والحمد لله ربِّ العالمين، الذي ختم لنا ولأوّلنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يُكمل لهم الثواب، ويُوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة، إنّه رحيمٌ ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل» [49].

فأخذت هذه الآلية من الخطاب مأخذها من ال