كان الجو معتدلاً حين قصدنا قرية "مكيشيفة" بمحافظة صلاح الدين شمال العراق للقيام بتغطية صحفية للعمليات العسكرية. في طريقنا الى هناك، سألت الضابط "أبو رقية" الذي نرافقه في رحلتنا هذه:
هل سيطرت داعش مجدداً على المنطقة؟لا، لكن وردتنا معلومات عن وجود أشخاص متعاونين معهم، وأدخلوا عدداً من مسلحي "داعش" إلى منازلهم لإيوائهم الليلة الماضية.وصلنا إلى الشارع العام، ظهرت أمامنا لافتة مكتوب عليها "مكيشيفة" بعدها دخلنا وسط القرية، كان هناك العديد من العجلات العسكرية تنتظر وصولنا. سلمنا على المقاتلين بحرارة، كنت أغبطهم على ما يحملون من حماسة وروح معنوية عالية رغم كل ما يمرون به يومياً.
توجهنا نحو البيوت المتناثرة في القرية التي كنا نقصدها، تأملت خلال مسيري الوجوه الموجودة في هذا المكان، إنها تعيش ببساطة.. لا توجد أي ملامح للخوف عليها، لكن هناك الكثير منها تطالعنا باستياء شديد!.
سألت الضابط:
لماذا هم مستاؤون إلى هذه الدرجة منا، بينما نجد من بينهم من يلوح لنا بإشارات النصر؟أجابني أبو رقية:
المتعاونون مع "داعش" لا يرغبون بوجودنا هنا .. أما الأشخاص الذي يلوحون بعلامات النصر؛ فهؤلاء هم الذين يرفضون وجود "داعش" ويرحبون بوجود القوات الأمنية والحشد الشعبي في هذه القرية.توقف قليلاً .. ثم نظر إلي وأردف قائلاً:
نحن لا نعتقل من هؤلاء إلا من تورط بسفك دماء الأبرياء. وأنهى الحديث معي.وصلنا مقصدنا.. البيوت التي تأوي عناصر "داعش" حيث يخيم عليها الهدوء.
فجأة.. شاهدنا أحدهم يركض قاصداً أحد الشوارع الفرعية في القرية.. هرع وراءه أحد الجنود كان يعدو بسرعة كبيرة.. بعدها اختفى الاثنان خلف جدران حجبتنا عنهم، ولم تمر إﻻ بضع دقائق، حتى خرج الجندي وهو يجر بأحد المتورطين بانتمائه لداعش كان يحاول الهروب بعد ان سمع بوجودنا في القرية.
طلب الضابط "أبو رقية" من جنوده أن ينتشروا حول البيوت المشتبه بها.. راحوا يبحثون عن مسلحي تنظيم "داعش". عندها قررت أن أكون مع أحد الجنود.. رافقناه أنا ومصوري الذي يلازمني خطوة بخطوة حتى وصلنا إلى احد البيوت.
وبحذر شديد دخلنا البيت.. أذهلني مشهد تلك العجوز التي احتضنت خمس فتيات صغيرات، كانت تصرخ بصوت يشوبه الرعب:
"الله يحفظ الدولة الإسلامية.. الله يحفظ الخليفة"!!!
طلب منا الجندي الذي كنا برفقته أن نغادر المكان، وبابتسامة لطيفة جداً حاول أن يهدئ من روعنا لذلك المشهد.
لا يزال صوت هذه المرأة العجوز يتكرر على مسامعي، دفعني الفضول أن أراقب من بعيد ما يمكن أن يحدث بعد هذا المشهد.. كنت أتساءل في نفسي، ياترى.. لماذا تمتدح هذه المرأة عصابات "داعش"؟
دخل جندي آخر إلى بيت العجوز، فتح باباً بعد آخر حتى وصل إليها.. كانت لا تزال تحتضن فتياتها الخمس الصغيرات، هتف الجندي:
لا تخافوا .. نحن معكم .. نحن هنا من أجل حمايتكم لسنا من مسلحي "داعش"!! ثم أغلق الباب واجهش ببكاء شديد!.. ضرب جبينه مرات عدة وراح يردد باستمرار "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".ما الذي يحدث؟.. سألت الجندي الذي بدأ يكفكف دموعه، لكنه لم يجب حتى بكلمة واحدة.
بعد ذلك علا صوت الضابط "أبو رقية" مطالباً الجميع بالانسحاب من المكان إلى العجلات.. هرول الجميع مسرعين نحو العجلات العسكرية. بعد ساعات من عودتنا مجدداً إلى المقر كان كل ما يهمني معرفة قصة هذه العجوز وما هو مصيرها مع صغيراتها الخمس.. طلبت من "أبو رقية" أن اتحدث مع الجندي الذي بقي متواجداً مع العجوز فأمر بإحضاره، سألته عن قصتها.. تنهد، ثم قال بحسرة وألم عميقين:
إنها والدة أحد الشهداء .. كان شرطياً، أعدمته عصابات "داعش" أمام أمه العجوز وبناته الخمس، عندها أصبحت تردد هذه العبارات كلما رأت "داعش" في القرية خوفاً من أن يكرر "داعش" المشهد مع إحدى حفيداتها.. حتى هذه اللحظة لم تبايع هذه العجوز وحفيداتها الصغيرات تنظيم "داعش" وكلما دخلوا القرية يأتون لإرعابها!.ثم نظر الي "أبو رقية" وهو يبتسم: "ﻻ تخاف خوية.. العجوز جبناها ويانة، وراح نسكنه بمكان آمن بسامراء!.
عمار الخزاعي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق