بعد ثلاثة عشرة عام من الفشل والاخفاقات المتكررة، ما الذي يتوقعه صناع القرار في العراق غير هذا الكم الهائل من "التراجع" الذي بدأت تجرفنا أمواجه إلى المجهول؟!
المؤكد.. أن جميع الأطراف والقوى السياسية "المعاندة" تعي جيداً أن خطورة المرحلة التي نعيشها، لكنهم لا يعون في الوقت ذاته حجم المسؤولية التي تقع على عاتقهم تجاه ما يجري، وهذا ما خشيناه عند قدوم هذه النخبة "العاجزة" أمام هذه التركة الثقيلة من التاريخ المشرّف للبلد.. ما خشيناه تحديداً أن يعيد هؤلاء عقارب الزمن إلى عصور التخلف والفقر، وهذه هي الكارثة التي بدأت "تلوّح" لنا من بعيد.
اللهجة التي تحدثت بها المرجعية الدينية العليا هذا الأسبوع على لسان ممثلها في كربلاء السيد احمد الصافي تكشف عن مدى عدم قدرة هؤلاء على تحمل أدنى درجات المسؤولية، وهي الاستماع إلى "النصائح" والتحذيرات المتكررة، ولأنها تستند في حديثها إلى رؤية واقعية؛ بدأت تظهر عليها هي الأخرى ملامح "الضجر" بوضوح.. "بُحّت اصواتنا بلا جدوى" قالها السيد الصافي بنبرة تغص بمزيد من الألم والحسرة، تذكرنا بنبرات الأنبياء والصالحين ومنهم علي بن أبي طالب عليه السلام الذي قال يوماً: " قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً" فهل لا أدركنا حجم إخفاقنا نحن أيضا؟! نعم.. نحن شركاء بالضرورة في صناعة شيء من هذا "الخراب" لأننا نحن من أنتجنا هذه النخبة السياسية الحاكمة.
وبكل شفافية أشارت المرجعية إلى أن هذه الحكومات كغيرها من الحكومات المستبدة التي مرت على العراقيين، لأنها أهدرت مواردنا المالية في الحروب والنزوات الوقتية، ربما أرادت أن تقول للجميع أنه لا يوجد فرق كبير بين شكل الحكم الموجود الآن عن شكل الحكومات السابقة وإن كانت منتخبة، لأنهم جميعاً يفكرون بعقلية "أنانية" لا تكاد تمل عن التكالب والتصارع فيما بينها للفوز بأكبر قدر ممكن من الفائدة الشخصية على حساب الجميع، وهذا هو السبب الذي جعل من الوضع في العراق ما يشبه بركة الماء الراكدة التي لا تتحرك!.
لقد بحت أصواتنا بلا جدوى من تكرار النصح والتوجيه!
في تفاصيل خطبة الجمعة ربما أرادت أن تؤكد المرجعية للجميع، لا سيما أولئك القابعين على رأس الحكم في العراق، أن الشعب العراقي لا يستحق منكم كل هذا الفشل.. لقد سقتموه إلى منزلق سحيق مليء بالمخاطر الأمنية والانتكاسات الاقتصادية والمالية، ولقد بحت أصواتنا بلا جدوى ونحن ندعوكم المرة تلو الأخرى إلى التعامل مع جميع هذه الملفات الحساسة بجدية، على رأسها رعاية السلم الأهلي، الذي يشهد هو الآخر تصدعاً فضيعاً بسبب خلافاتكم التي تحركها مصالحكم الشخصية وما تشتهيه رغباتكم التي لا تشبع.
لكن، هل يعني هذا أن المرجعية دخلت في مرحلة تصعيد الخطاب وستتخذ منهجاً جديداً آخراً غير تقديم الوصايا والحلول للمشاكل التي يعيشها البلد؟
إن اللهجة التي تحدث بيها السيد احمد الصافي تكشف عن حجم استياء المرجعية الكبير من صناع القرار، فعلى الرغم من عدم تقصير المرجعية في تقديم النصائح والوصايا والحلول والرؤى للحكومات؛ إلا أن الأخيرة لم تعط سمعها لتلك النصائح إلا بنسبة ضئيلة جداً. المرجعية العليا لا تعتبر نفسها صاحبة القرار في العراق، ولا تسعى إلى ذك أيضاً، لأنها وكما نعرف لم تعمل يوماً من أجل أن تملك أداة واحدة من أدوات الحكام التي من خلالها تسطيع أن تنفذ ولو جزء يسير من وصاياها ورؤاها، كل ما في الأمر أنها تعمل وفق مسؤوليتها الشرعية التي تدعوها إلى التحذير من الخطر القادم مرة بعد أخرى، وهذا يعني أنها لازالت متمسكة بمنهجها الإصلاحي في العراق أو المنطقة، وهذا أيضا ما شخصه نسبة كبيرة من المراقبين والمحللين السياسيين بعد قراءتهم لما وراء السطور التي جاءت في خطبة الجمعة الأخيرة.
ربما انتهت مرحلة النصح الكلامي!
إلى ذلك رأى الكاتب والصحفي حسن الفرطوسي أن "المرجعية الدينية العليا، المتمثلة بالسيد السيستاني، ما زالت متمسكة بفكرة الاصلاح عبر الحوار، اللغة، الصوت".
وقال في حديث للموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة، "أنا على يقين.. أن صوت الحكمة يبقى مسموعاً وفعّالاً وإن "بحّ"، أرى أن تصريح المرجعية هذا تنويهاً إلى نفاد الصبر وتلويحاً بغضب الحليم إزاء أحزاب فاسدة تسرق قوت المواطن وتحاول خداعه بأنها كيانات سياسية مباركة من قبل المرجعية".
فيما اعتبر الفرطوسي أن اللهجة التي تحدثت بها المرجعية الدينية هذا الأسبوع تحمل إشارة إلى إمكانية انتقال المرجعية من مرحلة النصح الكلامي إلى مرحلة التحرّك العملي لتخليص العراقيين من تلك الأحزاب وفسادها الذي لم يعد خافياً على أحد.
وقال "سيدركون لاحقاً أن صوت السيستاني حين "يبحّ" يغدو أكثر وضوحاً في تشخيص الفساد وأكثر حدّة في دفعه نحو القصاص".
رسائل واعية يجب أن تقرأ بحذر!
من جهته أعتبر الباحث الإسلامي الشيخ عقيل الحمداني أن خطاب المرجعية الأخير كان في غاية الوضوح والصراحة الشديدة في تشخيص اخفاقات الحكومات التي أساءت لواقع العراق.
وقال في تصريح خص به الموقع الرسمي إن "خطاب المرجعية الاخير ضم رسائل واعية لابد ان تقرأ بحذر من قبل اهل السياسة وان يراجعوا سياستهم تجاه هذا الشعب الكريم".
وأشار إلى أن المرجعية عمدت إلى هذا النوع من الخطاب لأنها تعي جيداً أن مستقبل البلاد ان بقي على هذا المنوال فانه يعصف بكارثة كبرى".
صفوة القول: عندما صرحت المرجعية العليا في وقت سابق بأن "المجرب لا يجرب" أعلنت بهاتين الكلمتين نهاية حقبة أنتجت جزءً كبيراً من الدمار والتراجع، وربما ترى اليوم أنه بات من الضروري جداً أن تصارح الجميع بأن النخبة الحاكمة اليوم لا تختلف كثيراً عن سابقاتها فنادت بوضوح "لقد بحت أصواتنا بلا جدوى" فاستعدوا لنهاية مشابهة!.
حسين الخشيمي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق