المراسيم الحسينية وفق الرؤية العلمانية والاستشراقية قراءة وتقييم

اختلفت العلمانيون في إيجاد التفسير المقنع في مسالة إقامة العزاء الحسيني بالبكاء والنياحة وإظهار المصيبة بالطريقة المعروفة لدى الشيعة الامامية فهنالك تفسيرات عدة لهذه الظاهرة: 

التفسير الأول: ظاهرة البكاء على الحسين وارتباطه بطقوس العهود القديمة 

  يرى بعض الباحثين من العلمانيين والمتأثرين بالفكر الاستشراقي بان ظاهرة البكاء على الامام الحسين عليه السلام واقامة العزاء والمناحة له ارتباط بالبكاء الجماعي على تموز واوزيريس الهة العهود القديمة قبل الإسلام وان ظاهرة العزاء الحسيني من مخلفات تلك العهود والعصور، وذلك بعد انشار ظاهرة البكاء على تموز بين الشعوب ثم انتقلت الى المسيحية ومن ثم الى الشيعة الامامية بعد ذلك عبر الحكم البويهي الذين كانوا يقومون بمسيرات معبرة عن فاجعة كربلاء على شكل تمثيل كما هو متعارف في واقعنا المعاصر.  

 قال فاضل الربيعي في مقاله نواح الأقنعة الفجيعة الجماعية من تموز حتى كربلاء ( إن التقاليد البويهية ـ الإيل خانية هي التي أحيت التعزية بالحسين في شكل مجالس شعبية طوال الأيام العشرة من محرم بحيث تختم بمشهديه تصور حادثة القتل الكربلائي مع ما يرافق هذا من نواح وبكاء وضرب على الوجوه والأجساد … ستستلم هذه المسرحية للقصة بصيغتها الراهنة متضمنة الشكل القديم الإيزيروسي والتموزي … ويبدو أن الفاطميين في مصر حوالي (549 هـ) قد أحيوا أيضا وعلى نطاق واسع هذا الشكل من المناحة الجماعية مستلهمين الأصل الإيزيروسي(1) . 

وقال فراس سواح الكاتب السوري بهذا الاتجاه في كتابه (لغز عشتار) والذي يفصل فيه الحديث عن حركة طقوس البكاء على تموز بين الشعوب ثم انتقالها إلى المسيحيين ثم إلى الشيعة قال: وبعد المسيحية تسللت مراثي الإله الميت إلى الإسلام في طقوس عاشوراء ذكرى مقتل سيدنا الحسين بن علي،وتبدو طقوس كربلاء لناظرها اليوم مشهدا لم تغير منه ألوف السنين شيئا وبينما يقوم المحتفلون بلطم خدودهم وشد شعورهم وضرب أنفسهم بسلاسل الحديد حزنا على الحسين الشهيد تلتقي صرخة التفجع التي يطلقونها في عنان السماء (يا فتى يا حسين) بصرخة عشتار النائحة وصرخة العذراء الثكلى(2) .

التفسير الثاني: ظاهرة العزاء والبكاء على الحسين وعلاقته بالتوابين

ويرى البعض الاخر ان منشأ إقامة المصيبة والعزاء على ابي عبد الله عليه السلام هو الندم الحاصل ما بعد واقعة الطف حيث ان الشيعة الذين لم يخرجوا لنصرة الحسين وتركوه وحيدا فريدا حتى قتل في ارض كربلاء ندموا على فعلهم هذا واخذوا يعاقبون أنفسهم بالبكاء والصراخ واللطم والحزن، وهذه هي ثقافة التوابين حيث كانت اول ظاهرة بكاء جماعي آنذاك، ثم تطورت بعد ذلك الى إقامة العزاء والمراثي في القرن الثامن عشر بعد العهد الصفوي وقد ذكر ذلك المستشرق الألماني هاينس في كتابه (الشيعة)(3) .

بل قد صرح ان أحد وجوه إقامة العزاء الحسيني بالطرق المتعارفة انما هو عبارة عن التكفير عن الذنب، فالشيعي الخاطئ يستحق الموت، والموت وحده قادر على تحريره من خطيئته، ففي الجلد تتحول التضحية بالذات المستحقة إلى طقسٍ؛ وبالتالي تصبح قابلة للتكرار، أي: غير مميتة. فبسفك دمه يكفِّر عن جزءٍ من ذنوبه، ويكتسب العيش سنة أُخرى حتى عاشوراء القادمة.

ومن هنا يتضح ان أصحاب هذا الرأي يرون أنّ أصل شعائر عاشوراء هي شعائر تكفير وحزن وشكوى ولوم الذات، الذي يرجع أصله الى حركة التوابين الجماعية في البكاء على الحسين، وما قام به البويهيون من مسيرات ومواكب للعزاء الحسيني آنذاك. 

ملاحظات حول التفسيرات العلمانية والاستشراقية

هنالك عدة ملاحظات على التفسيرات المتقدمة في مسالة إقامة العزاء الحسيني بالطرق المتعارفة وفق الرؤية الاستشراقية، والعلمانية واهم الملاحظات هو: 

الملاحظة الأولى: ان ارجاع مسالة العزاء الحسيني الى ما قبل الإسلام والى تطور ظاهرة البكاء على تموز هذا لا قيمة له في الواقع وذلك لأنه المهم في هكذا مسالة هو وجود دليل شرعي من القران الكريم والنصوص الشريفة، ان وجود ظاهرة مشابهة لاي حادثة ما لا مانع منه ان كانت تلك الظاهرة موافقة لمنهج الإسلام وللقران الكريم والسنة الشريفة، فكم من الظواهر والاحداث التي نعيشها في واقعنا او ما يتعلق منها في حركة البشرية وهي مشابهة للأحداث التي حدثت في العهود السابقة، وفي عصور الأنبياء السابقين. 

فإن المشابهة بين الاحداث المهم فيه هو ان لا تكون مخالفة للنصوص الدينية التي ترافق ذلك الحدث. 

فعلى سبيل المثال ظاهرة ان بكاء النبي آدم عليه السلام على ولده هابيل المقتول حسدا وظلما، وان كان مشابها لظواهر كثيرة حصلت في الإسلام الا ان هذا لا يعني ان الظواهر التي نراها في تاريخ الإسلام مستوردة من تلك، وانما الأساس في كل هذا هو ما يوافق منهج الإسلام المحمدي الأصيل. 

الملاحظة الثانية: اما مسالة ارتباط العزاء والبكاء على الحسين عليه السلام بظاهرة البكاء الجماعي للتوابين فهذا أيضا لا يصلح لان يكون منشأ حقيقي لظاهرة احياء امر الحسين عليه السلام وذلك لأنه لا يوجد نص واحد من قبل أئمة هذا المذهب وعلمائه الاعلام يؤيد هذه الفكرة سواء على المستوى النظري او العملي وانما هذه الشعائر والطقوس والممارسات منطلقة من مبدا قراني وروائي وسيرة عملية تبدأ من النبي صلى الله عليه واله الى عصور الائمة عليهم السلام كما سياتي توضيح ذلك فيما بعد. 

فلا يوجد امام من أئمة مذهب الامامية عليهم السلام ولا عالما شيعيا او تابعا لهم يقول ان حركة التوابين هي من أصول تأسيس الشعائر الحسينية، ومع كل الأسف نجد ان هذا التفسير يذكره البعض من العلمانيين والمستشرقين على انه حقيقة، ولا يقيمون دليلا واحدا يشير الى ذلك(4) . 

هذا من جهة، ومن جهة أخرى ان ربط العزاء والبكاء على ابي عبد الله الحسين عليه السلام بظاهرة البكاء الجماعي للتوابين يعني ارجاع هذه الظاهرة الى حادثة تاريخية فلماذا لا يتم ارجاع ظاهرة العزاء الحسيني الى ما قبل ذلك من النصوص التي تحث على البكاء وإقامة العزاء على ابي عبد الله عليه السلام من قبل النبي واهل البيت عليهم السلام على بل ان هذه المراسيم كانت سيرة أئمة هذا المذهب، فهل هذه ثقافة التوابين بل عندنا نصوص ثابتة عن اهل البيت عليهم السلام ان ادم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى كلهم بكوا الحسين عليه السلام.

الملاحظة الثالثة : ان المتتبع لكلمات العلمانيين والمستشرقين ومن تبعهم يجد انهم يركزون في مسالة الشعائر اما على ظاهرة البكاء او ضرب السلاسل والسيوف مع ان الطقوس الحسينية ، ومراسيم العزاء غير منحصرة بذلك، فلماذا مثلا لا يركز هؤلاء على ظاهرة الحركة العلمية والثقافية في العزاء الحسيني من خلال القاء الخطب والمحاضرات واقامة البرامج الثقافية والأدبية ، ورفع الشعارات القيمة التي احتوها النهضة الحسينية التي تعبر عن قلب الحركة الإسلامية ولماذا لا يركز هؤلاء على القيم الاجتماعية والأخلاقية في المراسيم الحسينية من العطاء والكرم والسخاء ، والبذل والإخلاص ، والتعاون بين المعزين ، بل ان مواكب العزاء عبارة عن دورات تربوية قيمة فيها من القيم النبيلة والاصيلة التي يحث عليها الإسلام ، ولماذا لا يركز هؤلاء على الجانب الروحي التي تحتويه هذه المراسيم الجياشة للعاطفة والمليئة بذكر الله تعالى والدعاء ، والمناجاة التي لا يوجد فيها تلك الوجه التي يصوروها البعض .  

ولكن في الحقيقة ان اغلب هؤلاء المستشكلين هم من أعداء الإسلام، ولم يلمسوا ذلك في الواقع لأنهم لم يشاركوا حقيقة في هذه المراسيم، وانما ينظرون اليها من جانب نظري لا اقل ولا أكثر. 

الهوامش:------

[1]  الناقد العدد 69/5-14.

[2] فراس سواح، لغز عشتار/309

[3] انظر الاستشراق سعيد ادوارد ص 257، الثورة الحسينية في الرواية التاريخية والقراءة الاستشراقية مجلة دراسات استشراقية العدد 2 ص 85، كتاب الشيعة هاينس ص 11 -12، 59 ،63، 65، 74، الى 77 ـ 

[4] مثل الباحث الاجتماعي العراقي الدكتور إبراهيم الحيدري في كتابه (تراجيديا كربلاء) والبروفيسور اللبناني محمود أيوب في كتابه (الألم الخلاصي في الإسلام). وكلا الباحثَين خريجي المدرسة الاستشراقية التي تتبنّى مثل هذه الأفكار.

: الشيخ وسام البغدادي