يرى بعض الخطباء أن من صور التمرد على مصادر التشريع أصالة: (العزة والكرامة والقوة والقاهرية) وأنه ليست هذه المفاهيم السامية مطلوبة في كل زمان، بل لا أصالة لها، واستشهد لذلك بمثالين: الأول صلح الحديبية، والثاني صلح الإمام الحسن (عليه السلام)، ويمكن مناقشة ذلك بعدة أمور:
الأمر الأوّل: إن التشكيك بأصالة تلك المفاهيم الأساسية ليس بصحيح؛ لأنها من منطلق القرآن الكريم هي الأصل في كل الظروف والحالات في حالة الانتصار والإنكسار معًا ونستعرض بعض الآيات في هذا المجال:
ـ قال تعالى في حرب أحد التي انكسر فيها المسلمون: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران: ١٣٩).
ـ قال تعالى عن المنافقين الذين كانوا يودون إنكسار المسلمين في الحروب: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّـهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} (المنافقون: ٨).
وجاء في بعض الأحاديث ما يعزز هذه الأصالة أيضًا نذكر هنا بعضها:
ـ عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): (إن الله عز وجل فوض إلى المؤمن أموره كلها، ولم يفوض إليه أن يذل نفسه، أما تسمع لقول الله عز وجل: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} فالمؤمن ينبغي أن يكون عزيزًا ولا يكون ذليلاً يعزه الله بالإيمان والإسلام) [وسائل الشيعة ج ١٦ ص ١٥٧].
ـ وعنه (عليه السلام) : (المؤمن يكون عزيزًا ولا يكون ذليلاً، ثم قال: إن المؤمن أعز من الجبل إن الجبل يستقل منه بالمعاول والمؤمن لا يستقل من دينه شيء) [الكافي ج ٥ ص ٦٣].
فالأصل في الإسلام أن يكون المؤمن عزيزًا ومن أبرز معاني العزة أن يكون قويًا ذو اليد العليا ولا سبيل للمشركين عليه، كما بحث الفقهاء هذا العنوان بقاعدة فقهية بعنوان: (نفي السبيل) والتي تعني: (نفي استيلاء الكفر على الإسلام ووجوب علو الإسلام وتفوقه على الكفر في جميع الجهات) [مباني الفقه الفعال ج ١ ص ٢٣٨].
الأمر الثاني: إن الصلح أو الهدنة التي جرت في الحديبية والآخر مع معاوية لا ينافي أصالة العزة؛ لأن النبي والإمام (عليهما وآلهما السلام) لم يقدما على هذه الخطوة من نقطة الضعف، بل من نقطة القوة كما هو الواضح لمن طالع تاريخ الواقعتين؛ لأن عدوهما لو شعر منهم الضعف لقضى عليهما ولم يمهلهما أبدًا.
تفصيل ذلك: أن المنافقين كانوا يخذلون المسلمين من الالتحاق برسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى مكة المكرمة، ومع ذلك ذهب المسلمون إليها في بضع آلاف وكان العدو أكبر منهم بكثير، ومع عدم المكافئة بين القوتين لم يكن يطمع المسلمين في أن ينزل المشركين إلى طلب الهدنة، ومن هنا اعتبر القرآن الكريم أن ذلك من الفتح الإلهي إليهم.
قال العلامة الطباطبائي عن الصلح المذكور: (لم يكن مطموعًا فيه ومتوقعًا منهم فسألوا النبي (صلى الله عليه وآله) أن يصالحهم على ترك القتال عشر سنين... وهذا من أوضح الفتح رزقه الله نبيه (صلى الله عليه وآله) وكان من أمس الأسباب بفتح مكة سنة ثمان من الهجرة فقد آمن جمع كثير من المشركين في السنتين بين الصلح وفتح مكة) [الميزان في تفسير القرآن ج ١٨ ص ٢٥٢].
وأما صلح الإمام الحسن (عليه السلام) فقد أوضح هو بنفسه بأنه انطلق من أصالة عزة المؤمنين، فقال: (ما أنا بمذل المؤمنين ولكني معز المؤمنين، إني لما رأيتكم ليس بكم عليهم قوة سلمت الأمر لأبقى أنا وأنتم بين أظهرهم، كما عاب العالم السفينة لتبقى لأصحابها وكذلك نفسي وأنتم لنبقى بينهم) [بحار الأنوار ج ٧٥ ص ٢٨٨].
وبذلك يعلم أنّه حتى الصلح والمهادنة لا بدّ أن تنطلق من موضع العزة والقوة التي تجبر المقابل على قبول هذا الخيار لا من منطلق الضعف والمهانة التي يراها العدو في المؤمن، ولهذا السبب ندم معاوية ندمًا شديدًا على الصلح لما اكتشف ضعف عسكر الإمام الحسن (عليه السلام) واقعًا، فينبغي أن يكون ظاهر المسلم عزيزًا ويخفي ضعفه عن العدو.
الأمر الثالث: لا يشترط في مصادر التشريع أن يكون المسلمين متساوين في القوة مع العدو وإلا فإنهم يرضخون له ويزول عنوان العزة والكرامة، بل بتأمل بسيط بآيات القرآن الكريم تجد العكس من ذلك، نستعرض هنا بعض الآيات في هذا الصدد:
ـ قال تعالى في قصة طالوت: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّـهِ وَاللَّـهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: ٢٤٩).
ـ قال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} (الأنفال: ٦٥).
وغيرها من الآيات العديدة التي لم تجعل تكافؤ القوة مانعًا من مواجهة العدو، ومن هذا المنطلق ذكر السيد الخوئي في باب الجهاد: (إذا كان الكفار المحاربون على ضعف من المسلمين، بأن يكون الواحد منهم يقابل اثنين من هؤلاء الكفار وجب عليهم أن يقاتلوهم) [منهاج الصالحين ج ٢ ص ٣٩٠].
النتيجة من ذلك: أن أصالة العزة والقوة والكرامة والقاهرية هي الأصل والأساس في الإسلام ولا يعارض هذا الأصل الهدنة ولا السلام ولا الصلح، بل الجميع ينبغي أن يكون المنطلق فيها هو أصالة العزة والكرامة.
اترك تعليق