خطيب جمعة كربلاء يرهن تحقيق السعادة والأمن النفسي والاجتماعي بقواعد المعاشرة الاجتماعية الحسنة

اعتبر خطيب جمعة كربلاء المقدسة سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي : " أن تحقيق السعادة والأمن النفسي والاجتماعي للفرد والمجتمع " ، عالق ومتعلق بقواعد المعاشرة الاجتماعية مستنيرا بما قاله الإمام زين العابدين عليه الصلاة والسلام .

الشيخ الكربلائي ، وفي سياق خطبته الدينية الأولى لصلاة الجمعة التي أقيمت في الصحن الحسيني الشريف يوم الجمعة 1 / جمادي الاخرة / 1437هـ الموافق 11 / آذار / 2016م ، اقتبس قبسات مما دعا به الإمام السجاد عليه الصلاة والسلام لجيرانه وأولياءه ، حيث تضمن دعاءه الشريف إلتماس بارئه بمنحه القدرة على مكافأة المسيء منهم بإحسانه ، والعرضة عن الظالم منهم وحسن الظن بهم جميعا (( واجعلني اللهم اجزي بالإحسان مسيئَهُم ، واعرض بالتجاوز عن ظالمهم ، واستعمل حسن الظن في كافتهم ، وأتولّى بالبر عامتهم، وأغض بصري عنهم عفة ..... )) .

وفي مورد حديثه عن مجازاة المحسن بالإحسان ، تطرق سماحته ـــ مستشهدا بمأثور الإمام علي بن الحسين السجاد عليهما السلام ـــ الى ان المرء منا معرّض للإساءة من الآخرين ، غيبة أم شتما أم غير ذلك ، وسواء كان بقصد أم بدونه ، وبالتالي فأننا مخيرون بين الرد عليها بمثلها وهو ما لا يصح البتة من مؤمن ، عدا انه ذلك سينمّي العداوة والبغضاء ويعقد المشكلة .

او أن الإعراض عن ذلك وغض الطرف عنه بالعفو والصفح والمسامحة وهو خلق إسلامي كريم ندب إليه مأثور أهل البيت عليهم الصلاة والسلام  لأن له اثر كريم في حفظ العلائق الطيبة مع الآخرين ، وهداية المخالفين والمعادين ، وسببية لعفو الله عن الذنوب ، كما ان ذلك مدعاة لإطالة عمر المؤمن وزيادة في عزته ووقايته من الأقدار ونجاته من النار .

او مقابلة الإساءة بإحسان وهي مرتبة أسمى من سابقتها علوا في سلم الكمالات النفسانية .

كما تطرق سماحته لرأي الشارع المقدس بسوء الظن ، معتبرا ذلك من الخصال الشنيعة والرذائل الأخلاقية بل وهو مرض أخلاقي فتّاك على الصعيد الفردي والمجتمعي ، عدا انه اعتداء معنوي على سمعة الناس وخدش لشخصياتهم وهدر لكرامتهم .

وفي ما يلي النص الكامل للخطبة :

الخطبة الأولى لصلاة الجمعة بإمامة الشيخ عبد المهدي الكربلائي في 1/جمادي الاخرة/1437هـ الموافق 11/3/2016م :

ما زلنا في دعاء الإمام السجاد عليه السلام لجيرانه وأوليائه والذي وضع فيه قواعد المعاشرة الاجتماعية التي تضمن للفرد والمجتمع السعادة والامن الاجتماعي..

من دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) لجيرانه واوليائه اذا ذكرهم :

(( واجعلني اللهم اجزي بالإحسان مسيئَهُم، واعرض بالتجاوز عن ظالمهم، واستعمل حسن الظن في كافتهم، وأتولّى بالبر عامتهم، وأغض بصري عنهم عفة..... )).

يتعرض الإمام السجاد (عليه السلام) في هذا المقطع لبيان مجموعة اخرى من قواعد المعاشرة الاجتماعية بين الانسان المؤمن مع اخوانه والتي تساهم في تحقيق السعادة والامن النفسي والاجتماعي للفرد والمجتمع  ، ومنها :

ـــ  مجازاة الإحسان بالإحسان او خلق التسامح والعفو ...

ان الإنسان معرّض للتجاوز والإساءة من الآخرين كاغتيابه وسبه وشتمه وصدور كلمات تؤلمه وتؤذيه وقد يكون ذلك بقصد من المسيء او بغير قصد كما لو حصل في حال انفعال وسرعة غضب وشدّ عصبي من المتجاوز والمسيء.. والموقف تجاه مثل هذه التجاوزات :

اولا ً :    إمّا برد الإساءة بإساءة مثلها ومقابلة الغيبة او السب او الشتم او الكلام البذيء بمثله وهذا لا يصح ان يصدر من المؤمن ابداً اضافة الى انه سينمّي العداوة والحقد والبغضاء ويفاقم المشكلة ويعقدها وربما يؤدي الى نتائج يصعب تدارك آثارها السلبية..

ثانياً :     او بالإعراض وغض النظر والعفو والصفح عن الإساءة أي بمسامحة المسيء والصفح عن خطأه وهذا هو الخلق الاسلامي الذي جاء مدحه في كثير من النصوص وأكدت حسنه الكثير من مواقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة من آله الاطهار ويعبر عن هذا الخلق بـ (التسامح) ، فالمؤمن لابد ان يحمل نفسه في حال حصول الإساءة والتجاوز من الآخرين على التساهل واللين وهو يعبر عن اتصاف المؤمن بالرحمة والعطف والحنان ، وهو يعكس قدرة الانسان على السيطرة على انفعالاته ومجاهدة نفسه في منعها من الانتقام من اخيه والتشفي منه بمقابلة إساءته بإساءة مثلها ، ومن ثمار التسامح والعفو :

ـــ  الحفاظ على العلاقة الطيبة مع المؤمنين وتماسكهم بعكس مقابلة الإساءة بالإساءة فانه يجعل من افراد المجتمع افراداً تسودهم العداوات والاحقاد وتنقطع الصلات فيما بينهم ويحرص الاسلام على قوة الاواصر بين افراد المجتمع واشاعة المحبة والوئام..

ـــ  ان خلق العفو سبب لهداية الكثير من الاشخاص المعادين للإسلام او المخالفين للمذهب وهذا ما دونته كتب سيرة المعصومين من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واله الاطهار..

ـــ  انه سبب لمغرفة الله تعالى لذنوب الشخص الذي يتصف بالتسامح ونحن بحاجة شديدة الى عفو الله تعالى عن ذنوبنا..

ـــ  طول العمر : عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : (مَنْ كثر عفوه مدّ في عمره).

ـــ  العزّة: عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " العفو لا يزيد العبد الاّ عزّاً، فاعفوا يعزكم الله".

ـــ  الوقاية من سواء الاقدار، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : "تجاوزوا عن عثرات الخاطئين يقيكم الله بذلك سوء الاقدار".

ـــ  النجاة من النار : عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : "تجاوزوا عن ذنوب الناس يدفع الله عنكم بذلك عذاب النار".

ثالثاً :     مقابلة الإساءة بالإحسان : والتي اشار اليها الامام (عليه السلام) وهي مرتبة اعلى من الثانية وهو من صفات المتقين وتعتبر من أشرف مكارم الاخلاق وسبب لدخول الجنة وتعبّر عن مرتبة عالية من الكمالات النفسانية كما اشارت لذلك عدد من الآيات القرآنية والاحاديث الشريفة ، وقوله (عليه السلام) : (واعرض بالتجاوز عن ظالمهم) ، أعرضت عن الشيء: أضربت ووليت عنه، أي : اعفو واتجاوز عن ظلم الظالمين منهم في حقي ، فقد يحصل بين المؤمنين سوء تفاهم وتجاوز وإساءة وقطيعة بينهم وتجاوز بعضهم على البعض الاخر والاسلام يأمر في مثل هذه المواضع بالتجاوز والصفح عن ظلم المؤمن لأخيه.. نعم .. في موارد غصب الحقوق يحق للمؤمن المطالبة بحقه ولكن بالأساليب الشرعية فان استنفذ ذلك يمكنه اللجوء الى الاساليب القانونية .

وقد حرص الائمة عليهم السلام على ازالة جميع الاسباب المؤدية الى الشحناء والبغضاء والتقاطع والتدابر والهجران بين المؤمنين..

وقوله (عليه السلام) : (واستعمل حسن الظن في كافتهم)

استعمل: أي اعمل بحسن الظن في جملتهم وقاطبتهم.. (أي جميعهم) ، لابد من الحديث اولا ً عن سوء الظن ليتمكن الانسان من معالجته ومن ثم الوصول الى الحالة الصحيحة وهي حسن الظن فنقول : المفهوم من سوء الظن انه اذا صدر من شخص فعل او كلام او سلوك او تصرف يحتمل الوجهين الصحيح والسقيم والحق والباطل فنحمله على المحمل الخطأ والسقيم ونفسره بالتفسير السيء او ان هناك حدث ما حصل ومجهول الشخص الذي فعله وهو حدث سيء فنتهم شخص معين به ونحمله على السوء من دون دليل على ذلك وهكذا..

فمثلا ً عندما يرى الشخص رجلا ً مع امرأة غريبة فيتصور ان هذه المرأة اجنبية وان للرجل نية سوء لديه تجاهها ويريد ارتكاب محرم معها في حين ان حسن الظن يقود الانسان الى القول بان هذه المرأة زوجته او احد محارمه..

وسوء الظن ومقابله حسن الظن لا يقتصر على المسائل العبادية بل يستوعب في مصاديقها ومواردهما المسائل الاجتماعية والاخلاقية والسياسية ايضاً..

رأي الشريعة الاسلامية في سوء الظن ..

سوء الظن من الخصال الشنيعة والرذائل الاخلاقية فهو مرض اخلاقي فتّاك في الافراد والمجتمعات وقد وردت الآية الكريمة التالية التي تنهى المؤمنين بصراحة وشدّة عن سوء الظن في تعاملهم الاجتماعي فيما بينهم :

قال تعالى : (َا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) – سورة الحجرات- .

وورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (ان الله حرم على المسلم دمه وماله وعرضه وان يظن به السوء).

فإساءة الظن بالآخرين كالاعتداء عليهم وسرقة اموالهم وهتك اعراضهم الا ان سوء الظن اعتداء معنوي وللاسف فان الاعتداء على سمعة الناس وخدش شخصياتهم وهدر كرامتهم اصبح امراً طبيعياً عندنا..

وقوله (عليه السلام) : (واتولى بالبر عامتهم)

البر – بكسر الباء- لغة : الاحسان..

البر هو العطف والصلة والخير والاتساع في الاحسان ..

أي واجعلني امدُّ واعين جملتهم متلبساً بالبر لهم والعطف عليهم والاحسان اليهم او اتولى امور عامتهم بالخير والصلة والشفقة والاتساع في الاحسان اليهم..

وهناك اصناف من البر مؤكدة الاستحباب واعتنى بها الاسلام كثيراً منها بر الوالدين بالإحسان اليهما والبر بالأرحام وبر ذرية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)..

والبر بالعلماء واهل الفضل والتقوى.. واعلى مراتب البر هو الشهادة في سبيل الله تعالى..

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات