الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين...
يُعدُّ المعجم العربي مصدراً مهماً في اللغة العربية، لما يحمل من غاية عظمى وهي حفظ اللغة العربية من الاندراس، ويبدو أنَّ هذه الغاية هي التي كانت مسيطرة على ذهن الخليل أثناء اعداده لمعجمه العين، وذلك من خلال النظام الذي اتَّبعه في ترتيب ألفاظه، وهو نظام التقليبات، أي تقليبات الأصل الواحد على وجوهه المختلفة المستعمل منها وغيره .
وقد اتَّبعت المعجمات في التأسيس لحفظ اللغة العربية على الكلام العربي الفصيح المنتمي لعصر الفصاحة، واتَّخذت منه الأساس في شرح الألفاظ المبهمة وإيضاحها، وكذلك بيان الصيح من غيره، وكان كلام الإمام علي (عليه السلام) حاضراً بشكل أساس في المعجمات جميعها على اختلاف مناهجها بوصفه إمام البلاغة ورئيس الفصاحة، ولذلك عمد أصحاب المعجمات إلى الاستشهاد بكلامه، وقد شكَّل اسمه حضوراً واسعاً فيها إذ نجده قد ورد في ((كتابِ العينِ(ثماني) مرَّاتٍ, وفي جمهرةِ اللُّغة(اثنتي عشرة) مرَّةً, وفي تهذيبِ اللُّغة(ستًا وثمانين) مرَّةً, وفي الصِّحاحِ(إحدى عشرة) مرَّةً, وفي المقاييسِ(عشر) مرَّاتٍ, وفي المُحكمِ والمُحيطِ الأعظمِ(أربعًا وأربعين) مرَّةً, وفي المُخصَّصِ(ستَّ) مرَّاتٍ, وفي أساسِ البلاغةِ(عشر) مرَّاتٍ, وفي النِّهايةِ في غريبِ الحديثِ والأثرِ(ستمائة) مرَّةٍ, وفي لسانِ العربِ(ثمانمائة وخمسين) مرَّةً, وفي المعجمِ الوَسيطِ(ستًا وعشرينَ) مرَّةً))([1]) .
ومن الأمثلة التي استشهد بها أصحاب المعاجم بكلام أمير المؤمنين علي (عليه السلام): قال ابن دريد الأزدي (المتوفى: 321هـ): النأنأة، الضعْف واستشهد على ذلك بكلام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لِسُلَيْمَان بن صرد في قوله: ((تنأنأت وتربصت فَكيف رَأَيْت الله فعل فِي حَدِيث يطول)) . ومن قول ابن دريد أيضاً في بيان دلالة (حفز) قال: ((الحفز: الإعجال حفزني عَن كَذَا وَكَذَا يحفزني حفزا أَي أعجلني وأزعجني. وَفِي كَلَام لأمير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام: لَا يحفزه البدار عَن مُطَالبَة الأوتار))([2]) .
أمَّا الأزهري (المتوفى: 370هـ) فكان ممَّا استشهد به قوله في شرح دلالة متماحل: ((وَرُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَالب [عليه السلام] أَنه قَالَ: إِن من وَرَائِكُمْ أموراً مُتَمَاحِلَةً أَرَادَ فِتَناً يطول أَيَّامُها ويَعْظُم خَطَرُها ويشتد كَلَبُها))([3]) .
ومن جملة ما ذكره بن فارس (المتوفى: 395هـ) من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في بيان لفظة (نصَّ): ((ونص كل شيء منتهاه، وفي حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) إذاً بلغ النساء نص الحقاق، يقول: إذا بلغن غاية الصغر وصرن في حد البلوغ والعقل))([4]) .
ومن جانبٍ آخر قد حفظت المعجمات العربية أقوالاً للإمام علي (عليه السلام) لم يُسبق فيها ولم تُسمع من غيره منها: ((وأوَّلُ من قال ماعَدا مِمَّا بَدَا, عليُّ بن أبي طالبٍ(رضي الله عنه)، وذلك أنَّه لمَّا قدمَ البصرةَ, قال لعبد الله بن عبَّاس: امضِ إلى الزُّبيرِ، ولا تأتِ طلحةَ, واقرأ عليه السَّلام, وقل له: يقولُ لك: عرفتني بالحجازِ وأنكرتني بالعراقِ, فما عَدَا مِمَّا بَدَا))([5]) .
ومن ذلك أيضاً لفظة المخيِّسُ، وهي من ((َخَاس بالعهد يخيس خيسانًا, إذا نَكثَ وغَدَرَ, وخيَّسْت الشَّيء تخييسًا فخاسَ يَخِيسُ إذا ليّنْته ومرَّنْته، وبه سُمِّي المخيِّسُ الَّذي يَخيسُ فيهِ بِكَسْر الياء لا غير، وكَانَ أوَّلَ من سَمَّى المُخَيسَ مُخَيسًا عَليُّ بن أبي طَالب [عليه السلام]))([6]).
هذا وقد سجَّلت له كتب الأمثال كثيراً من الأمثال التي سارت على ألسن الناس بعده، ومنه: ((لاَ رَأْيَ لِمَنْ لاَ يُطُاعُ))([7])، وقوله (عليه السلام): ((أَحْرَزَ امْرأً أَجْلُهُ))([8]) .
أمَّا ميدان حكمه (عليه السلام) فهو ميدان واسع متشعَّب قد سُطِّرت في شرحها الكتب، وهي مادَّة زاخرة بالعلم والمعرفة وخصوبة اللغة .
وختاماً كان كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) ميداناً رحباً واسعاً في فلك المعجمات العربية، إذ كان أصحابها يغرفون من معينه الصافي بلا ارتواء لما يحمل من قيمة عُليا في الفصاحة والبلاغة، فهو الإمام وكلامه إمام الكلام .
([1]) جمهرة اللغة، أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي (المتوفى: 321هـ)، تحقيق: رمزي منير بعلبكي، دار العلم للملايين – بيروت، الطبعة: الأولى، 1987م: 1/228.
([2]) جمهرة اللغة: 1/527.
([3]) تهذيب اللغة، محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي، أبو منصور (المتوفى: 370هـ)، تحقيق: محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الأولى، 2001م: 5/63.
([4]) مجمل اللغة لابن فارس، أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين (المتوفى: 395هـ)، دراسة وتحقيق: زهير عبد المحسن سلطان، مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة الثانية - 1406 هـ - 1986 م: 1/843.
([5]) الزاهر في معاني كلام الناس: 2/93.
([6]) المصدر نفسه(خيس): 1/600 - 601, وينظر: علوم نهج البلاغة: 278.
([7]) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد: 2/75.
([8]) نهج السعادة، للشيخ المحمودي: 1/311.
اترك تعليق