لا يخفى إن الدين الإسلامي قد فرضه الله تبارك وتعالى في الأرض بمعية محمد وآل محمد(صلوات الله عليهم أجمعين)، ولن يرتض الله تعالى ديناً بدون معيتهم، لذلك نما حبهم في النفوس بمرور الأيام والليالي مع حب الدين الحنيف، وأخذ عمقاً لا يجارى ولا يمكن محوه أبدا، فأصبح حبهم الجذر الأساسي الذي يبنى عليه الدين جنباً إلى جنب جذر التوحيد الإلهي، وقد أشارت مولاتنا زينب الكبرى(عليها السلام) إلى تلك الحقيقة بقولها لعمود من أعمدة تهديم الإسلام الحنيف[1]: ((... فكد كيدك واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا،...))[2]، فمحو الذكر الذي أشارت له عقيلة الطالبين الكبرى(عليها السلام) يجر إلى محو الوحي ثم محو الأمد، وهو في حقيقته محو لتجذر ذلك الحب، حب النبي وأهل البيت(صلوات الله عليهم أجمعين) في القلوب والعقول والنفوس، الذي أشار الله إليه في قوله تعالى: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}[3]، حيث كان هذا في السابق مطلب لأشخاص معدودين ومصالحهم الضيقة، ولكنه اليوم أصبح خطاً فكرياً تجذر عند البعض كعقيدة بشرية اُلبست ثوباً إسلامياً لدى الناس ما أنزل الله بها من سلطان، وبالتفكر في هذه العقيدة نجد أنها لا تفترق بين السابق واللاحق في أصل الفكرة، فهي واحدة، ومفادها: (إنهاء هذا التجذر القلبي والفكري والعقائدي لتنتصر المنافع والمصالح الشخصية الضيقة على المبادئ الحقة).
ولا يخفى أن صاحب أي غاية يسوق لأجل تحقيق غايته أهدافاً يحرص على نجاحها لتصب في تحقيق تلك الغاية، فعملية إنهاء تجذر النبي وأهل البيت(صلوات الله عليهم أجمعين) غاية أساسية لدى أصحاب هذه العقيدة في السابق واللاحق، وفكرة انهاء وجودهم يقوم عليها تفكر أصحاب تلك العقيدة الباطلة، وقد رفعوا لها شعاراً يسيروا وفقه سلوكياً ويعملون بحسب قواعده عملياً، وهو: (حسبنا كتاب الله)، وقد سعوا لتحقيق ذلك بشكل دؤوب دائم وبأساليب متعددة متجددة متفاوتة في خفائها وظهورها ووضوحها، كلها تستهدف النبي وأهل بيته(صلى الله عليه وآله)، وقد شمل سعيهم المحاور التالية، نذكرها كمثال على خطواتهم المتبعة في تحقيق غايتهم:
المحور الأول: وهو المحور القلبي وفك الارتباط الذاتي بين الناس وبين النبي وأهل بيته الطاهرين(صلوات الله عليهم أجمعين) الذي طوى الساعون كشحاً عنه لعدم جدواه، حيث لاحظوا أن التوغل في تنفيذه يوجب بغض الداعين إليه، ولم يزدد به النبي وأهل بيته الطاهرين(صلوات الله عليهم أجمعين) إلا توغلاً في القلوب وتعمقاً وتجذراً في النفوس، لأن القضية ليست بيد البشر، بل بيد الله(جلّ وعلا)، ومعنى ذلك أن إرادة الساعي لإنهائها تواجه الإرادة الإلهية، وبحسب ميزان القوة فإن إرادة الله(جلّ جلاله) أقوى من أي إرادة أخرى، لذا فإن السعي في هذا الأمر لا طائل منه ولا فائدة، يقول الله(جلّ وعلا): {وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[4]، ويقول أيضاً(جلّ وعلا): {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}[5].
المحور الثاني: هو المحور الفكري، بواسطة:
1- طرح الفكر البديل، أي: مقابلة الافكار بأفكار أخرى بديلة وتركيزها في الأذهان في مرحلة متقدمة من أجل محوها، على الرغم من إدراكهم بأنها أفكار أساسية يصعب محوها.
2- خلط الفكر الحق الناصع الطاهر بفكر فاسد لإنتاج الهجنة فيه، فتنتج جراء ذلك الأفكار الفاسدة التي يستند إليها التفكر المنتج للأفكار الثانوية، والتي تستند إليها سلوكيات الإنسان ليبتعد عن الهدف الأساسي الذي رسمه له الله(جلّ وعلا) وبلغ به النبي الأكرم محمد(صلى الله عليه وآله): ((إني تاركن فيكم الثقلين))، وغيرها من الأساليب الشيطانية التي نبهنا عنها القرآن الكريم في آياته، والتنبيهات هي:
أ- مثال خلط الأوراق: نجده في قوله تعالى {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[6].
ب- مثال زعزعة العقائد وهي الأصول المستند إليها في الأفكار والتفكر: نجده في قوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[7].
ت- مثال تنمية سياسة عدم القناعة: نجده في قوله تعالى { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[8].
ث- مثال إلقاء التهم القولية لزعزعة الثقة وتغيير الفكر والتفكر والأفكار: نجده في قوله تعالى {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}[9].
ج- مثال الاستهزاء وإسقاط العصمة: نجده في قوله تعالى { وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[10].
المحور الثالث: استخدام سياسة تفريغ المحتوى، باختلاق القصص والأحداث الكاذبة التي تعيب الفكر والأفكار والعقل والسلوكيات الإنسانية والشخصيات القيادية، وذلك بإظهارها بمظهر الذي لا يستحق الاتباع فيتفرق الناس عنهم لعدم جدواهم، كذلك الإقناع بتأويل النصوص والأحداث لتوليد القناعة المضادة للحقيقة والواقع فتسقط من الاعتبار، وذلك من أجل حرف الأفكار وتضعيف الدعم الجماهيري وطرح البديل وما شاكل من هذه الأمور التي تزلزل القناعة وتضعف الجذور وتستأصلها من القلوب والعقول والنفوس كنتائج مرجوة من هذه السياسة.
المحور الرابع: اغتيال الرمزية وقتلها وتغييبها عن مسرح الحياة فكرياً، وقد فعلوا ذلك بواسطة عدة أساليب منها:
1- تحجيم الفكر الأصيل وتغييبه بترك تداوله بسياسات متعددة منها سياسة الإلهاء، وسياسة الإبدال بأفكار وتفكر آخر.
2- تكثير الأفكار البديلة وتنميتها بالتداول والأفعال لتتجذر في المجتمعات باحتلالها أذهان الناس.
3- إحلال شخصيات بديلة عن الشخصيات الأصيلة.
4- قتل الشخصيات الأصيلة وتغييب فكرها ومنهجها معنوياً.
المحور الخامس: محو وانهاء الرموز من الوجود المادي وكل ما يدل عليها من آثار مادية ومعنوية، وقد تم ذلك بأكثر من أسلوب منها:
1- القتل وانهاء الوجود المادي.
2- التعدي على القدسية وتجاوزها وإسقاطها.
3- التقليل من الشأن وإسقاط الرمزية في حال الحياة أو بعد الممات، والأسلوب الغالب في كل ذلك هو طرح الإشكالات وتكثيرها الأفكار المسمومة حول الشخصيات الرئيسية الأساسية في دين الله تعالى، وذلك عبر النشاط الإعلامي بالدرجة الأولى، يقول الشاعر[11]:
((تَاللهِ إنْ كانت أُميَّةُ قَدْ أَتَتْ *** قَتْلَ ابنِ بِنْتِ نبيِّها مظلوما
فَلَقَدْ أَتَاهُ بنو أبيه بمِثْلِهِ *** هذا لَعَمْرُكَ قَبْرُهُ مهدوما
أَسِفُوا على أَنْ لا يكونوا شَارَكوا *** في قَتْلِهِ فَتَتَبَّعُوه رَمِيما))[12].
4- الجرأة وعدم الاحترام بالتجاوز على المقامات وعدم احترامها بأي صورة كانت قولية أو فعلية.
5- إنهاء كل ما يدل على تلك الرموز ومقاماتها ويشير إليها، كتهديم القبور والأضرحة المشتملة على أبدانهم الشريفة، أو البنايات الدالة على آثارهم ومقاماتهم.
ونحن اليوم نعيش هذا الاسلوب الرخيص كجزء من خطة إنهاء التجذر والاستئصال من القلوب والعقول والنفوس، والذي يبدأ بإزالة الصورة ومحوها من العيون والعقول ثم إزالة الآثار من النفوس، وهو أمر ينجح في حال أننا تخلينا عن قراءة عمقه الفكري ونظرنا فيه إلى سطحه، أي نفس البناء المهدم كبناء تم هدمه وتحطيمه دون النظر إلى نواياه، لنغوص بعد ذلك في أدلة الفعل هل جائزة أم لا؟ وبذلك نبتعد عن أصل الهدف من هذا الفعل.
والواقع يفرض علينا أن لا ننظر للقضية بمعزل عن الفائدة التي تحققها للأمة، فالدور الذي يؤديه ذلك البناء المقدس بقدسية(تنزيه) من حل فيه، المقدر بمكانة من حل فيه، له ركنيته ومكانته دينية واجتماعية على مدار التاريخ.
فهذه الأماكن المقدسة تؤدي دوراً كبيراً جداً في الدلالة على الله تبارك وتعالى، إذ يقول(جلً وعلا): {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}[13]، فهي إذا قصدتها تذكي فيك ذكر الله تبارك وتعالى وتركزه في نفسك وأفعالك، وقيمة هذا التركيز تكمن بتفعيل الجانب التطبيقي والعملي في الدين، إذ نشهد اليوم مثالاً حياً على ذلك لم نشهده في مراقد ومشاهد أئمة البقيع(عليهم السلام) لتهديمها ومحو بناياتها، ولكنا شهدناه في مرقد الإمام علي ابن أبي طالب(عليه السلام) والإمام الحسين بن علي(عليه السلام) وبقية مراقد الأئمة(عليه السلام) عند الشيعة الامامية الاثني عشرية، فإنها مناراً للتطبيقات العبادية شكلاً ومضموناً من صلاة التي هي عمود الدين، ودعاء الذي هو مخ العبادة، والتوسل الذي هو أصل من أصول القرآن الكريم الذي يقول في آياته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[14].
لذا فإن قصدها من دون غيرها هو لقرب أصحابها إلى الله دون غيرهم، وهي نية أفصح عنها القرآن الكريم قوله تعالى{أُولَئك الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}[15]، وقد أفصح عن هذه الحقيقة النص الآتي أيضاً: ((اللهم إني لو وجدت شفعاء أقرب إليك من محمد وأهل بيته الأخيار الأئمة الأبرار لجعلتهم شفعائي، فبحقهم الذي أوجبت لهم عليك أسألك أن تدخلني في جملة العارفين بهم وبحقهم...))[16]، إذ أن مرتادي هذه المراقد والمشاهد المقدسة يسلكون بهذا سلوك المسلمين الأوائل، الذين أخبر الله تعالى عنهم في كتابه الكريم بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}[17]، وهو هدف يطمع فيه كل إنسان غير معصوم، لأن غير المعصوم غير معصوم من المعاصي وهو بأشد الحاجة لقبول توبته قبل فوات الأوان.
ونظراً لأهمية المسألة في النفوس والعقول وحاجة الناس إليها كحاجة أساسية، توغل المسلمون في الحديث عنها، ورغم كثرة الكلام فيها، إلا إن وجهات النظر العلمية اتفقت على صحتها المسلمون، إلا بعض الآراء الشاذة التي أقرت بالأصل لكنها قسمت الفعل فيها إلى جائز وغير جائز، كابن باز الذي أفصح عن القبول بذلك في جوابه على سؤال وجه إليه بهذا الخصوص، حيث قال في: ((هذه الآية الكريمة[18] فيها حث الأمة على المجيء إليه إذا ظلموا أنفسهم بشيء من المعاصي، أو وقعوا فيما هو أكبر من ذلك من الشرك، أن يجيئوا إليه تائبين نادمين؛ حتى يستغفر لهم عليه الصلاة والسلام.
والمراد بهذا المجيء: المجيء إليه في حياته صلى الله عليه واله وسلم وهو يدعو المنافقين وغيرهم إلى أن يأتوا إليه ليعلنوا توبتهم ورجوعهم إلى الله، ويطلبوا منه عليه الصلاة والسلام أن يسأل الله أن يقبل توبتهم، وأن يصلح أحوالهم؛ ولهذا قال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ.
فطاعة الرسول صلى الله عليه واله وسلم إنما تكون بإذن الله؛ يعني الإذن الكوني القدري، فمن أذن الله له وأراد هدايته اهتدى، ومن لم يأذن الله في هدايته لم يهتد، فالأمر بيده سبحانه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
أما الإذن الشرعي، فقد أذن سبحانه لجميع الثقلين أن يهتدوا، وأراد منهم ذلك شرعًا، وأمرهم به، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ، وقال سبحانه: يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، ثم قال: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ؛ أي: تائبين نادمين، لا مجرد قول. وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ؛ أي: دعا لهم بالمغفرة. لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا؛ فهو حثٌّ لهم -أي للعباد- على أن يأتوا للرسول صلى الله عليه واله وسلم ليعلنوا عنده توبتهم، وليسأل الله لهم.
وليس المراد بعد وفاته صلى الله عليه واله وسلم كما يظنه بعض الجهال، فالمجيء إليه بعد موته لهذا الغرض غير مشروع، وإنما يؤتى للسلام عليه لمن كان في المدينة، أو وصل إليها من خارجها لقصد الصلاة بالمسجد والقراءة فيه ونحو ذلك، فإذا أتى المسجد سلم على الرسول صلى الله عليه واله وسلم وعلى صاحبيه، لكن لا يشد الرحل من أجل زيارة القبر فقط، بل من أجل المسجد، وتكون الزيارة لقبره صلى الله عليه واله وسلم ... تابعة لزيارة المسجد؛ لقوله صلى الله عليه واله وسلم: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى متفق على صحته))[19]، ونفهم من هذه الإجابة اتفاقه مع جواز الفعل بالأصل، لكن لديه بعض الملاحظات التي لا نعرف وجهاً علمياً لها، فنستنتج من كلامه الآتي:
1- أن المجيء إلى الرسول(صلى الله عليه وآله) غير ممنوع ولا وجه للتفريق بين المدينة وغيرها، إذ لم يذكر له دليل معتبر ولا سبب وجيه.
2- أن المجيء يحث عليه القرآن الكريم بدلالة الآية (64) من سورة النساء.
3- أن المجيء سوى كان في الحياة أو بعد الممات في الأصل غير ممنوع.
4- أن قراءة القرآن والصلاة وما أشبه في هذا المكان غير ممنوعة من الأساس.
فالفائدة التي تحققها تلك المراقد فائدة عظيمة، إذ يطلب فيها قاصدها الله (جل وعلا) لا غير بالعبادة المباشرة وغير المباشرة، والتي يكون الهدف منها دخول الجنة بغفران الذنوب الحاصل لا بالاستحقاق، بل بواسطة صاحب المرقد المقدس، وفي النهاية أن الأمر بيد الله تعالى كما قال ابن باز، وهو أمر ورأي لا يختلف عليه شيعي من الشيعة، لأنهم يتبعون أئمتهم(عليه السلام)، وقد زق الأئمة في شيعتهم هذه العقيدة وهذه الأفكار زقا، وربوهم عليها فكرياً، وثقفوهم على فعلها سلوكياً.
إذن تهديم قبور الأئمة(عليهم السلام) في البقيع وفي غيره من الأمكنة بداعي الشرك لا مبرر له مادام أنها منار لتوحيد الله (جلّ وعلا)، ولكن الهدف الحقيقي وراء هذا الفعل المستهجن الشنيع لا يكشف عنه، بل لابد لنا من أن نستكشفه نحن بأنفسنا، والذي لا نجد حقيقته غير العداء للنبي الأكرم محمد(صلى الله عليه وآله) ولأهل هذا البيت الطاهر(عليهم السلام) ومحوهم ومحو ذكرهم من الصور والقلوب والعقول والنفوس، كمقدمة وتمهيد لاجتثاث وإنهاء الدين الحنيف من الوجود، وأما السب الخفي الكامن في النفوس والذي لن يُصرح به، ولكن يمكن اكتشافه من الأفعال وخستها، فهو ببساطة الحسد، يقول الشاعر[20]:
إن قوّضت تلك الـقباب فـإنما خرّت عمـاد الـدين قبـل عمادها
هي صفوة الله التي أوحـى لها وقـضى أوامـره الـى أمجـادها
أخذت بأطراف الفخار فعـاذرٌ أن يـصبح الـثقلان من حُـسّادها
الهوامش:----------------------------
[1] هو: يزيد بن معاوية(لعنه الله).
[2] الملهوف على قتلى الطفوف، السيد ابن طاووس الحسني الحلي، ص 161 – 166.
[3] الشورى: 23.
[4] سورة الأنفال: 62-63.
[5] سورة إبراهيم: 37.
[6] سورة التوبة: 102.
[7] سورة الحج: 52.
[8] سورة يونس: 15.
[9] سورة الطور: 29-34.
[10] سورة التوبة: 61.
[11] الأبيات منسوبة إلى يعقوب بن السكيت في كتاب النجوم الزاهرة، ج2، ص: 284 و235.
[12] البداية والنهاية، ابن كثير، ج11، ص: 143؛ سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج12، ص: 35.
[13] سورة النور: 36.
[14] سورة المائدة: 35.
[15] سورة الاسراء: 57.
[16] من لا يحضره الفقيه، محمد بن علي الصدوق، ج 2، ص: 609 - 617.
[17] سورة النساء: 64.
[18] يقصد الآية 64 من سورة النساء.
[19] موقع الامام ابن باز، مجموع الفتاوى، السؤال: ما معنى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ}؟، التاريخ: السبت ٠٤/ شوّال/1445هـ.
[20] هو السيد الشريف الرضي(عليه الرحمة): قالها وهو بالحائر الحسيني يرثي جده سيد الشهداء(عليه السلام).
اترك تعليق