من الأحاديث المشهورة التي تتناقلها المجالس والكتب، وتلهج به ألسنة الخطباء حديث استجابة الدعاء تحت قبة سيد الشهداء، وقد أثيرت حول دلالات هذا الحديث ومتنه بعض سحابات التشكيك مما دعاني للبحث عنه بين طيات الكتب والمسانيد، والتنقيب عن شواهده ومؤيداته، فوجدته قد جاءنا بالأسانيد العالية، والمصادر الوثيقة، قد رواه القدماء من المحدثين، وتسالم عليه الأولون قبل الآخرين، فشمرت للكتابة عن إثبات صحته وفقاً لما جاءنا من قواعد مأثورة عن أهل بيت العصمة حول نقد الحديث وتمحيصه، ومعرفة سقيمه من صحيحه.
مصادر الحديث الشريف وأسانيده:
روي هذا الحديث الشريف في كفاية الأثر لشيخنا أبي القاسم علي بن محمد بن علي الخزاز القمي الرازي المتوفى بحدود 400ﻫ بإسناده عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد رواه الفضل بن شاذان(ت260) ـ على ما نقل المحدث النوري في مستدركه – بسند آخر عن الصحابي عبد الله بن عباس، ورويت له شواهد ومؤيدات في غير واحد من كتب الحديث المعتمدة.
أولاً: نص الحديث في كتاب (كفاية الأثر في النص على الأئمة الأثني عشر) للخزار القمي :
كفاية الأثر ص16: حدثني أبو الحسن علي بن الحسين، قال حدثني أبو محمد هارون بن موسى التلعكبري رضي الله عنه، قال حدثنا الحسن بن علي بن زكريا العدوي النصري، عن محمد بن إبراهيم بن المنذر المكي، عن الحسين بن سعيد الهيثم، قال حدثني الأجلح الكندي، قال حدثني أفلح بن سعيد، عن محمد بن كعب، عن طاوس اليماني، عن عبد الله بن العباس قال :
دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والحسن على عاتقه والحسين على فخذه يلثمهما ويقبلهما ويقول (اللهم وآل من والاهما وعاد من عادهما)، ثم قال : يا ابن عباس كأني به وقد خضبت شيبته من دمه، يدعو فلا يجاب ويستنصر فلا ينصر.
قلت: من يفعل ذلك يا رسول الله؟ قال: (شرار أمتي، ما لهم لا أنالهم الله شفاعتي). ثم قال: (يا ابن عباس من زاره عارفاً بحقه كتب له ثواب ألف حجة وألف عمرة، ألا ومن زاره فكأنما زارني، ومن زارني فكأنما زار الله، وحق الزائر على الله أن لا يعذبه بالنار. ألا وإن الإجابة تحت قبته، والشفاء في تربته، والأئمة من ولده).
قلت: يا رسول الله فكم الأئمة بعدك؟ قال: (بعدد حواري عيسى، وأسباط موسى ونقباء بني إسرائيل). قلت: يا رسول الله فكم كانوا؟
قال: (كانوا اثني عشر، والأئمة بعدي اثنا عشر، أولهم علي بن أبي طالب، وبعده سبطاي الحسن والحسين، فإذا انقضى الحسين فابنه علي، فإذا انقضى علي فابنه محمد، فإذا انقضى محمد فابنه جعفر، فإذا انقضى جعفر فابنه موسى، فإذا انقضى موسى فابنه علي، فإذا انقضى علي فابنه محمد، فإذا انقضى محمد فابنه علي، فإذا انقضى علي فابنه الحسن، فإذا انقضى الحسن فابنه الحجة).
قال ابن عباس: قلت: يا رسول الله أسامي لم أسمع بهن قط. قال لي: (يا ابن عباس هم الأئمة بعدي، وإن قهروا أمناء معصومون نجباء أخيار، يا ابن عباس من أتى يوم القيامة عارفاً بحقهم أخذت بيده فأدخلته الجنة. يا ابن عباس من أنكرهم أو ردّ واحدا منهم فكأنما قد أنكرني وردني، ومن أنكرني وردني فكأنما أنكر الله ورده. يا ابن عباس سوف يأخذ الناس يميناً وشمالاً، فإذا كان كذلك فاتبع علياً وحزبه، فإنه مع الحق والحق معه، ولا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض. يا ابن عباس ولايتهم ولايتي، وولايتي ولاية الله، وحربهم حربي وحربي حرب الله، وسلمهم سلمي وسلمي سلم الله.
ثم قال عليه السلام: (يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون)).
وقد روي هذا الحديث بمتنه بسند آخر عن عبد الله بن عباس، كما في مستدرك الوسائل 10/335: [روى] أبو محمد الفضل بن شاذان في كتاب الغيبة: عن عبد الله بن جبلة، عن عبد الله بن المستنير، عن المفضل بن عمر، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن عبد الله بن العباس، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ في حديث فيه فضل زيارة الحسين (عليه السلام)، إلى أن قال ـ: ألا وإن الإجابة تحت قبته، والشفاء في تربته، والأئمة (عليهم السلام) من ولده. الخبر.
السند في كفاية الأثر :
1. أبو الحسن علي بن الحسين: هو (علي بن الحسين بن محمد بن مندة، أبو الحسن، أكثر الرواية عنه الثقة الجليل علي بن محمد بن علي الخزاز، مترحما عليه، والظاهر أنه من مشايخه، وهو في طبقة الصدوق، وكثيراً ما يروي عن الثقة الجليل هارون بن موسى التُلعكبري) – تعليقة على منهج المقال 251.
2. أبو محمد هارون بن موسى التلعكبري: هو (هارون بن موسى بن أحمد بن سعيد بن سعيد، أبو محمد، التلعُكبري، كان وجهاً في أصحابنا، ثقة، معتمداً لا يطعن عليه) – ت385، رجال النجاشي ص439.
3. الحسن بن علي بن زكريا العدوي النصري: هو الحسن (أو الحسين) بن علي بن زكريا بن صالح العدوي البصري: من شيوخ أبي المفضل الشيباني (تلميذ الكليني) وهو ثقة، وثقه غير واحد من أئمة الحديث.
4. محمد بن إبراهيم بن المنذر، أبو بكر النيسابوري (حدود 241 ـ 318ﻫ)، نزيل مكّة. وهو من مفسري العامة ومجتهديهم المحسوب في فقهاء الشافعية، ومن مشايخ (ابن حبان) العالم الرجالي السني المعروف.
5. الحسين بن سعيد [بن] الهيثم: مهمل.
6. الأجلح الكندي: وهو أبو حجية أجلح بن عبد الله بن حجية، ويقال: أجلح بن عبد الله بن معاوية الكندي. عن الشعبي، وعكرمة، وعنه القطان، وابن نمير، وخلق، وثقه ابن معين، وغيره، وضعفه النسائي، وهو شيعي، مع أنه روى عنه شريك، أنه قال: سمعنا: أنه ما سب أبا بكر وعمر أحد إلا افتقر، أو قتل! مات 145، (الكاشف للذهبي 1/229)، وهو ممن نقل عنه صاحب كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر، وقد اتهمه ابن الجوزي بوضع حديث في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام.
7. أفلح بن سعيد: أفلح بن سعيد القبائي، عن محمد بن كعب، وجماعة، وعنه زيد بن الحباب، والعقدي، صدوق، توفي 156. (الكاشف 1/255)
8. محمد بن كعب: محمد بن كعب القرظي، أرسل، عن أبي ذر، وغيره، وعن عائشة، وأبي هريرة، وزيد بن أرقم، وعنه يزيد بن الهاد، وأبو معشر نجيح، وعبد الرحمن بن أبي الموالي، ثقة حجة، قال أبو داود: سمع من علي، وابن مسعود، توفي 108، وقيل 116. (الكاشف 2/213).
9. طاوس اليماني: هو طاووس بن كيسان، نص على تشيعه ابن قتيبة في معارفه والشهرستاني في الملل والنحل، وثقه بعض العامة، توفي سنة 106ﻫ، روى عن عبد الله بن عباس في الكتب الستة عند السنة. (رجال الشيعة في أسانيد السنة ص198).
10. عبد الله بن عباس، صحابي معروف.
السند في مستدرك الوسائل:
نقلاً عن الفضل بن شاذان (ت 260ﻫ) في كتاب الغيبة :
1. عبد الله بن جبلة: عبد الله بن جبلة بن حيان بن أبجر الكناني، أبو محمد، عربي صليب، ثقة روى عن أبيه عن جده حيان بن أبجر، وبيت جبلة بيت مشهور بالكوفة. و كان عبد الله واقفاً، وكان فقيهاً ثقة مشهوراً، مات سنة 219. (رجال النجاشي 216).
2. عبد الله بن المستنير: ورد في أسانيد مماثلة بعنوان (إبراهيم بن المستنير)، وثقه السيد الخوئي (رحمه الله) لوروده في أسانيد الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي في تفسيره.
3. المفضل بن عمر: المفضل بن عمر الجعفي، أبو عبد الله: من أصحاب الصادق والكاظم صلوات الله عليهما. عده المفيد في الإرشاد من شيوخ أصحاب أبي عبد الله عليه السلام وخاصة بطانته وثقاته الفقهاء الصالحين رحمهم الله. وعده الشيخ الطوسي في غيبته من قوام الأئمة عليهم السلام من المحمودين الذين مضوا على منهاجهم. وذكر روايات في مدحه وجلالته.. (مستدركات علم رجال الحديث 7/477).
4. جابر بن يزيد الجعفي: كوفي ثقة من أجلاء أصحاب الصادق و الباقر عليهما السلام روى عنهما و عن الصحابي جابر الأنصاري، توفي 128 هجرية، وهو يروي عن ابن عباس بواسطة واحدة.
5. عبد الله بن عباس: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله، توفي 68ﻫ، ورواية جابر الجعفي عنه بدون واسطة بعيدة، فالرواية مرسلة.
وإنما فصلنا القول في الإسناد ليُعلم أن هذا الحديث قد تناقلته ألسنة الثقات الأجلاء من أصحاب الأئمة وفي مختلف الطبقات، فيرتفع الشك بإمكانية وضع هذا الحديث أو اختلاقه كذباً عن لسان رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا يضر جهالة بعض الرواة أو إرسال بعض الأسانيد فقد ثبت في محله أن ضعف الإسناد لا يلازم ضعف المتن، كما أن تعدد أسانيد الحديث وكثرة شواهده وموافقته للكتاب والسنة القطعية ووروده في الكتب المعتبرة هي من أدلة الصحة وإمارات الاعتبار فلا مجال بعد ذلك للتذرع بضعف الإسناد.
وربما يعترض الشك في إسناد (كفاية الأثر) لاشتماله على بعض رواة العامة كأبي بكر محمد بن إبراهيم النيسابوري، وأفلح بن سعيد، ومحمد بن كعب، فكيف يستقيم أن هؤلاء العامة قد نقلوا النص عن أئمة أهل البيت بأسمائهم، وهل يعقل أن يرد مثل هذا الحديث على لسان رجلين من رواة العامة؟
نقول في جواب هذه الشبهة بعد الاتكال على الله تعالى:
أولاً: نعم، لا مانع أن يرد في السند رجال من العامة، فإن المحدث النوري (رحمه الله) روى في الجزء الأول من كتابه (النجم الثاقب) أكثر من عشر روايات في النص على الأئمة الاثني عشر عليهم السلام وفي أسانيدها رجال من العامة، إن لم يكن كل إسنادها من العامة، وليس شرطاً أن يعتقد هؤلاء الرواة بإمامة وعصمة أهل البيت عليهم السلام لينقلوا النص عليهم، فإن بعضهم تأول معنى هذه الإمامة بأمور غير المعنى الذي تفهمه الإمامية من الحجية ووجوب الطاعة، فذهب البعض أنها تعني (القطبية النَسَبية) أو الإمامة الروحية أو شيئاً من هذا التأويل، ولا نستبعد أن يكون جزء من هؤلاء الرواة هم من الشيعة المستخفين بثوب أهل السنة، للاتقاء من المحيط السني الذي يعيشون فيه.
ثانياً: إن سند هذا الحديث لم يقتصر على ذلك المروي في (كفاية الأثر) والمشتمل على رواة من المخالفين، بل ـ كما رأينا ـ ورد بسند قوي في كتاب الغيبة للفضل بن شاذان وبرواة من أوثق أصحاب الأئمة عليهم السلام.
إضافة إلى ذلك كله ـ بل هو الأهم ـ أن رواية الحديث بهذا النحو من العامة يزيد في صحته لأنهم يروون فضائل من ينكرونهم، وهو دليل واضح على وضوح الحديث بنحو لا يمكن إنكاره.
شواهد الحديث من طرق أهل البيت عليهم السلام
ومن الشواهد ما رواه الشيخ محمد بن جعفر المشهدي (ت610) المزار ص465 قال: (ومما خرج من الناحية عليه السلام إلى أحد الأبواب، قال: تقف عليه صلى الله عليه وتقول…: السلام على من أطاع الله في سره وعلانيته، السلام على من جعل الشفاء في تربته، السلام على من الإجابة تحت قبته، السلام على من الأئمة من ذريته…).
ومنها ما رواه الطوسي في أماليه 317: أخبرنا ابن خشيش، عن محمد بن عبد الله، قال: محمد بن محمد بن معقل العجلي القرميسيني بسهرورد، قال: حدثنا محمد بن أبي الصهبان الذهلي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، عن كرام بن عمرو الخثعمي، عن محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر وجعفر بن محمد (عليهما السلام) يقولان:
إن الله (تعالى) عوض الحسين (عليه السلام) من قتله أن جعل الإمامة في ذريته، والشفاء في تربته، وإجابة الدعاء عند قبره، ولا تعد أيام زائريه جائياً وراجعاً من عمره. قال محمد بن مسلم: فقلت لأبي عبد الله (عليه السلام): هذا الجلال ينال بالحسين (عليه السلام) فماله في نفسه؟
قال: إن الله (تعالى) ألحقه بالنبي (صلى الله عليه وآله سلم) فكان معه في درجته ومنزلته، ثم تلا أبو عبد الله (والذين امنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم) الآية.
(رواه محمد بن علي الطبري (ت525) في (بشارة المصطفى) ص327، ورواه مختصراً الطبرسي (ت548) في (إعلام الورى بأعلام الهدى) 1/431،).
وفي أدناه تفصيل رجال السند في حديث الطوسي:
1. بن خشيش: محمد بن علي بن خشيش بن نضر بن جعفر بن إبراهيم التميمي، المتوفى بعد سنة 408 هجرية، من مشايخ الطوسي أكثر عنه الرواية في أماليه. (مستدركات علم رجال الحديث 7/224).
2. محمد بن عبد الله: هو أبو الفضل محمد بن عبد الله الشيباني المتوفى سنة 387، عده المامقاني حسن الحديث، و قيل هو من تلامذة الكليني، و هو من مشايخ علي بن محمد الخزار القمي صاحب كفاية الأثر.
3. محمد بن محمد بن معقل العجلي القرميسيني بسهرورد: وقد يقال (محمد بن معقل)، من مشايخ ابن بابويه القمي والد الشيخ الصدوق، روى عنه الرجال الثقات.
4. محمد بن أبي الصهبان الذهلي: هو محمد بن عبد الجبار القمي من أصحاب الجواد والهادي والعسكري صلوات الله عليهم. ثقة بالاتفاق، كان حياً قبل 260. (مستدركات علم رجال الحديث 7/152).
5. أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي: أحمد بن محمد بن عمرو بن أبي نصر زيد السكوني بالولاء، أبو جعفر الكوفي، المعروف بـ(البزنطي)، لقي الإمامين أبا الحسن الكاظم وأبا الحسن الرضا عليهما السَّلام، وكان عظيم المنزلة عندهما مختصّاً بهما، سمع منهما الفقه والحديث، وروى عنهما، وكان من فقهاء الشيعة الأجلاء، ومحدّثيهم الثقات، وأحدُ أصحاب الإجماع الذين أجمعت الطائفة على تصحيح ما يصحّ عنهم والإقرار لهم بالفقه والعلم، بل أحدُ المشايخ الثلاثة الذين قيل في حقِّهم أنّهم لا يروون ولا يرسلون إلاّ عن ثقة. (موسوعة أصحاب الفقهاء 3/95).
6. محمد بن مسلم: هو الطحان الكوفي، الثقفي، الطائفي، الثقة باتفاق العصابة الناجية، حفظ من الإمامين الباقرين نحواً من خمسة وأربعين ألف حديث، توفي سنة 150.
وإنما أخرجناه شاهداً لأنه ورد بصيغة (وإجابة الدعاء عند قبره) بدلاً من (تحت قبته) وسنأتي عليه أكثر عند الحديث عن البحث دلالات الحديث الشريف، وقد استفاضت الأخبار عن الذين فرض الله طاعتهم في استجابة الدعاء عند قبر أبي عبد الله الحسين عليه السلام،
فعن شعيب العقرقوفي، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): من أتى قبر الحسين (عليه السلام)، ما له من الثواب والأجر؟ قال (عليه السلام): (يا شعيب، ما صلى عنده أحد الصلاة إلا قبلها الله منه، ولا دعا عنده أحد دعوة إلا استجيب له عاجله وآجله) (وسائل الشيعة 14/538).
إشكالات حول متن الحديث:
ربما ينطلق الإشكال أو التشكيك في الحديث الشريف من جانبين رئيسين:
الأول: التصريح بأسماء الأئمة في متن الحديث.
الثاني: مفهوم القبة في الحديث.
أولاً: التصريح بأسماء الأئمة:
باعتبار أن النص على الأئمة بأسمائهم لم يكن مشهوراً في الحالة الشيعية – فضلاً عن الإسلامية – في زمن الأئمة عليهم السلام، لذلك كانت الوفود الشيعية التي ترد المدينة المنورة بعد وفاة أحد الأئمة تسأل عن اسم الإمام الذي بعده، وربما لا تؤمن له إلا بعد اختباره سواء بالأسئلة ورؤية الكرامات أو بالإخبار عن المغيبات، فكيف يستقيم هذا المشهد مع تلكم الروايات التي تصرح بأسماء الأئمة؟
الجواب:
1. إن النصوص على أئمة أهل البيت عليهم السلام بأسمائهم وإن كانت اليوم تصل حد التواتر بجمع متفرقات النصوص إلى بعضها، إلا أنها – كما أسلفنا – لم تكن متواترة في الحالة الشيعية فضلاً عن الوضع الإسلامي العام، وبالتالي فليس من العجب أن الوفود البعيدة جغرافياً عن حاضرة الرسول وأهل البيت تأتي لتسأل عن الإمام التالي وتبحث عن دلالات إمامته والنص عليه من أبيه.
2. إن تلكم الأحاديث لم تكن لتُتناقل في الأوساط العلمية، وحلقات الدرس، بشكل علني في ظل التشدد السياسي الذي كان قائماً منذ أن منع الخليفة الثاني عمر تدوين الحديث وحتى غيبة إمامنا الثاني عشر سلام الله عليه، حيث فُرض طوق محكم حول الحديث وروايته، وفي مقدمته الحديث الشيعي وأحاديث الإمامة بالخصوص، فليس معقولاُ أن تنتشر تلك الأحاديث بين الأوساط الشعبية، وتصبح ثقافة عامة ومعلومة بديهية لا تحتاج للسؤال والتمحيص.
3. إن تلك الوفود وإن كانت النصوص على الأئمة قد وصلتها بطريق أو بآخر، إلا أن النفوس قد لا تطمئن بنص واحد وتسعى للتأكد من إمامة الإمام بالأدلة القاطعة التي لا يبقى معها مجال للريبة والشك، وقضية الإمامة هي قطب الرحى في العقيدة الشيعية، بها يرتفع العمل، وتقبل الطاعة، وبمعرفتها تكون الحظوة في الآخرة، والنجاة من عذاب الجحيم،
فلا عجب أن قلوب الشيعة تطلب زيادة الاطمئنان من خلال النص المباشر من الإمام السابق، أو من خلال الدلائل التي سنها أهل البيت عليهم السلام كإنبائهم بالمغيبات وإجابة الأسئلة، وما على شاكلتها.
ثانياً: مفهوم القبة
الإشكال الآخر يتعلق بمفهوم القبة في الحديث، هل هي القبة المعروفة؟ ومتى بنيت القبة على قبر الحسين عليه السلام حتى يذكر الرسول صلى الله عليه وآله أن الدعاء يجاب تحتها؟؟
وثالثاً: ورد في الأحاديث كراهة البناء على القبور فكيف لا يسري ذلك الحكم على قبور المعصومين عليهم السلام؟
وفي الحقيقة لا أجد معنى للشق الثاني من السؤال لأن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله في حديثه الشريف قد أخبر بجملة من المغيبات، من النص على الأئمة، إلى قتل الحسين عليه السلام، فما المانع أن تكون القبة من هذا القبيل؟! وهي إخبار بأمر لم يحصل بعد.
أما كراهة البناء على القبور، فإن المفهوم من أحاديث الأئمة وسيرتهم أن قبور المعصومين عليهم السلام مستثناة من هذه القاعدة، وسيتضح في طيات الحديث الدليل على هذا الاستثناء.
بقي أن نوضح الأمر الذي أدى لهذا اللبس في الموضوع، وهو مفهوم القبة، واستخداماتها في لغة العرب، ومطابقة الحديث الشريف مع الواقع التاريخي للمرقد المبارك.
تطلق القبة عند العرب على معان عدة، متقاربة في مصاديقها، ومتشابهة في وظائفها، وهي كما يأتي:
الأول: القبة المعروفة باصطلاحنا المعاصر، وهي البناء نصف الكروي الذي يعلو أسطح المساجد والجوامع، والذي يعد واحداً من مميزات العمارة الإسلامية، وهذا واضح.
الثاني: البناء، أعم من كونه من الشعر أو اللبن والآجر، ويدل عليه ما ورد في مجمع البحرين 3/445: (القُبّة بالضم والتشديد : البناء من شعر ونحوه، والجمع قُبَب وقِباب).
الثالث: البناء المشتمل على القبة المعروفة، ويدل عليه ما ورد في الأمالي للصدوق ص759:
عن أبي الصلت الهروي، قال: (بينا أنا واقف بين يدي أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) إذ قال لي: يا أبا الصلت، ادخل هذه القبة التي فيها قبر هارون فأتني بتراب من أربع جوانبها) وكذلك قول الصدوق في الفقيه زيارة الإمامين الكاظمين (عليهما السلام): (ثم صل في القبة التي فيها محمد بن علي (عليهما السلام) أربع ركعات بتسليمتين).
الرابع: الخيمة والخباء، ويدل عليه ما أورده الزبيدي في تاج العروس 2/301:
(والقبة من البناء معروفة. وقيل: هي البناء من الأدم خاصة مشتق من ذلك. وقال ابن الأثير: القبة من الخباء: بيت صغير مستدير، وهو من بيوت العرب. وفي العناية: القبة: ما يرفع للدخول فيه ولا يختص بالبناء)،
ويدل عليه أيضا ما أورده الذهبي في تاريخ الإسلام 27/25: (حوادث سنة 389) قال: (كانت قد جرت عادة الشيعة في الكرخ وباب الطاق، بنصب القباب، وإظهار الزينة يوم الغدير..) أي نصب الخيام، وهو واضح أيضاً، ويؤيده ما نقله ابن شهر آشوب في مناقبه 3/193 قال: (لما مات الحسن بن الحسن بن علي (عليهما السلام) ضربت امرأته القبة على قبره سنة ثم رفعت..)، فإن النصب والضرب مصطلحان يستخدمان غالباً مع الأخبية والخيام.
والملاحظ أن جميع هذه المعاني تقترب مع بعضها بصفة مشتركة أشار لها الزبيدي في تاج العروس حين قال : (القبة : ما يرفع للدخول فيه ولا يختص بالبناء)، فهو يشمل الخيمة والخباء والبناء المرفوع (المبني من الشعر وغيره) والقبة المعروفة باصطلاحنا اليوم، وعليه فقبة الحسين عليه السلام هي رمز لما يرفع من بناء حول قبره الشريف ليدخل الزائرون تحته، سواء أكان سقيفة أم بناءً أم قبة نصف كروية، وهو ما أشار إليه حديث محمد بن مسلم عن الإمام الصادق عليه السلام (وإجابة الدعاء عند قبره).
وربما يرجح المعنى الأول للقبة بدلالة قوله صلى الله عليه وآله (تحت قبته)، فظرف المكان (تحت) يناسب معنى القبة المعروفة دون غيرها، وهذا وإن كان صحيحاً إلا أنه لا يلغي بقية الاحتمالات، فالعرب قد تقول: جلست تحت البناء، أو تحت الخيمة، أو تحت الخباء كما لا يخفى على المتتبع لكلامهم، والمستقصي لأقوالهم وأشعارهم.
أما تاريخ البناء على القبر الشريف فيسلط الضوءَ عليه كلامُ السيد محسن الأمين في (أعيان الشيعة) 1/627 حيث قال: (أول من بنى القبر الشريف بنو أسد الذين دفنوا الحسين عليه السلام وأصحابه، يظهر ذلك من الخبر المروي في كامل الزيارة عن زائدة عن زين العابدين عليه السلام حيث قال فيه:
(قد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض هم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة وهذه الجسوم المضرجة فيوارونها وينصبون بهذا الطف علما لقبر سيد الشهداء لا يدرس أثره، ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام)،
ومن قول ابن طاوس في الإقبال إنهم أقاموا رسماً لقبر سيد الشهداء بتلك البطحاء يكون علماً لأهل الحق) ويضيف السيد الأمين أن (العمارة الأولى للقبة الشريفة التي كانت في زمن بني أمية، إذ تدل جملة من الآثار والأخبار أنه كان عليه (سقيفة) و(مسجد) في زمن بني أمية، واستمر ذلك إلى زمن الرشيد من بني العباس، لكن لا يعلم أول من بنى ذلك…
ويدل الخبر الذي رواه السيد علي بن طاوس في الإقبال عن الحسين بن أبي حمزة أنه كان عليه سقيفة لها باب، في آخر زمن بني أمية، حيث قال فيه: (خرجت في آخر زمن بني أمية وأنا أريد قبر الحسين عليه السلام إلى أن قال: حتى إذا كنت على باب الحائر خرج إلي رجل ثم قال : فلما انتهيت إلى باب الحائر : فجئت فدخلت).
وقال الصادق (عليه السلام) لجابر الجعفي في حديث رواه ابن قولويه في كامل الزيارة: (إذا أتيت قبر الحسين عليه السلام فقل...) وجابر توفي على ما ذكره النجاشي سنة 128 ومات مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية سنة 132 فتكون وفاته قبل انقضاء دولتهم بأربع سنين، وروى ابن قولويه في كامل الزيارة عن أبي حمزة الثمالي عن الصادق عليه السلام في كيفية زيارة الحسين عليه السلام أنه قال:
(فإذا أتيت الباب الذي يلي الشرق فقف على الباب وقل)… ثم قال: (ثم تخرج من السقيفة وتقف بحذاء قبور الشهداء)، وهو صريح في أن البناء كان سقيفة له باب من الشرق، وقوله الباب الذي يلي الشرق، يدل على وجود باب غيره، وفي حديث صفوان الجمال عن الصادق عليه السلام: (إذ أردت زيارة الحسين بن علي فإذا أتيت الباب فقف خارج القبة وارم بطرفك نحو القبر، وقل ثم ادخل رجلك اليمنى القبة وأخر اليسرى، وقل ثم ادخل الحائر وقم بحذائه).
وقال المفيد في مزاره عند ذكره لرواية صفوان بن مهران: (فإذا أتيت باب الحائر فقف ثم تأتي باب القبة فقف من حيث يلي الرأس ثم أخرج من الباب الذي عند رجلي علي بن الحسين ثم توجه إلى الشهداء ثم امش حتى تأتي مشهد العباس بن علي فقف على باب السقيفة وقل..)
وروى ابن قولويه بسنده عن أبي حمزة الثمالي عن الصادق عليه السلام: (فإذا أردت زيارة العباس فقف على باب السقيفة وقل ثم ادخل)…).
أقول: ويؤيد ما ذكره (رحمه الله) نصوص مستفيضة نذكر منها:
كامل الزيارات 367: عن يوسف الكناسي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا أتيت قبر الحسين (عليه السلام) فائت الفرات واغتسل بحيال قبره، وتوجه إليه وعليك السكينة والوقار، حتى تدخل الحائر من جانبه الشرقي، وقل حين تدخله..).
كامل الزيارات 483: حدثني محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري، عن أبيه، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن أبيه، رفع الحديث إلى أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: دخل حنان بن سدير الصيرفي على أبي عبد الله (عليه السلام)… في زيارة الحسين عليه السلام من بعد… قال: (السلام عليك ورحمة الله وبركاته، أنا زائرك يا بن رسول الله بقلبي ولساني وجوارحي، وان لم أزرك بنفسي والمشاهدة لقبتك..).
الكافي 4/575: عن الحسين بن ثوير قال: كنت أنا ويونس بن ظبيان والمفضل بن عمرو أبو سلمة السراج جلوسا عند أبي عبد الله (عليه السلام)…. إلى أن قال عليه السلام: إذا أتيت أبا عبد الله (عليه السلام) فاغتسل على شاطئ الفرات، ثم ألبس ثيابك الطاهرة، ثم امش حافياً؛ فإنك في حرم من حرم الله وحرم رسوله، وعليك بالتكبير والتهليل والتسبيح والتحميد والتعظيم لله عز وجل كثيراً، والصلاة على محمد وأهل بيته، حتى تصير إلى باب الحير، ثم تقول...).
كامل الزيارات 179: عن عبد الله بن عبد الرحمان الأصم، قال: حدثنا أبو عبيدة البزاز، عن حريز، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث الملائكة حول قبر الحسين عليه السلام: فأوحى الله تبارك وتعالى إليهم أن الزموا قبته حتى ترونه وقد خرج فانصروه.
خلاصة البحث:
1. إن هذا الحديث الشريف صحيح بما ثبت من مجموع أسانيده ومصادره، و بمجمل شواهده الواردة من طرق أهل البيت عليهم السلام.
2. تسالم على نقل هذا الحديث رواة الشيعة وكبار المحدثين في مختلف الأزمنة والأعصار، نذكر منهم : ابن شهر آشوب (ت588) في مناقبه 3/235، ابن فهد الحلي (ت841) في عدة الداعي ص43، علي بن يونس العاملي (ت877) في كتابه الصراط المستقيم 2/145، الحر العاملي في الوسائل 14/452، المجلسي (ت1111) في البحار، المحدث النوري في مستدرك الوسائل 10/335، البروجردي (ت1383) في (جامع أحاديث الشيعة) 12/398، وآخرين.
هذا فضلاً عن مصدريه الأصليين وهما كفاية الأثر للخزاز القمي (ت400)، والغيبة للفضل بن شاذان (ت260).
3. إن أحاديث النص على الأئمة المعصومين عليهم السلام كانت موجودة في زمن الأئمة عليهم السلام إلا أنها ضربت بطوق من التقية الشديدة فهي بذلك لا تتعارض مع ما جرت عليه عادة الشيعة من السؤال عن الإمام اللاحق والتثبت من إمامته.
4. إن المقصود بالقبة، إما أن يكون القبة بمعناها المعاصر المعروف، أو كل ما يرفع للدخول فيه من البناء أو الخباء أو السقيفة أو نحو ذلك مما كان على القبر الشريف في غابر الأزمنة.
5. إن البناء على قبر أبي عبد الله الحسين عليه السلام في كربلاء يعود تاريخه إلى زمن الدولة الأموية حيث بنيت عليه سقيفة، وكان لها أبواب عدة، وقد أمر الأئمة عليهم السلام شيعتهم بدخول المرقد الطاهر من الباب الشرقي كما جاء في المرويات الشريفة.
اترك تعليق