المدخل إلى الشعر الحسيني ... الجزء الأول

إن التأمل في واقعة عاشوراء يدعونا الى التساؤل عن سر هذا الخلود لهذه الواقعة ؟

فرغم مضي أربعة عشر قرناً عليها إلّا أنها تتجدد في كل عام وكأنها حدثت بالأمس، ولو رجعنا الى تلك الفترة من التاريخ والأسباب التي نهض من أجلها الإمام الحسين (عليه السلام) والأهداف التي كان يسعى لتحقيقها عندما رفع راية الرفض بوجه السلطة الأموية لوجدنا أنه ليس من الغريب أن تتخلد هذه الواقعة أبد الدهر.

فلم تكن عاشوراء معركة بين فئتين أو قضية خلافية متنازع عليها أو عداء أسري استفحل حتى كانت نتيجته هذه الواقعة، بل كانت قضية عاشوراء قضية الإنسان في كل زمان ومكان، فالواقع المظلم الذي كان يسود المجتمع في ذلك العصر كان لا بد له من نهضة تعيد للإنسان كرامته المهدورة

وقد تضمنت ثورة الحسين (عليه السلام) تلك المفاهيم والقيم العليا التي كانت أساس تخليد ثورته عبر العصور، وقد انعكست هذه المفاهيم والقيم في ما كُتب عن هذه الثورة المباركة طوال قرون طويلة.

وقد مثل الشعر دوراً كبيراً في استحضار هذه الواقعة في كل العصور منذ وقوعها وحتى الآن حتى أصبحت سمة بارزة من سمات الأدب العربي وكان لصدى هذه الثورة الدينية ــ السياسية أبعاد فلسفية وفكرية وإنسانية كبيرة غذّت الأدب العربي بخبرات وتجارب غنية طبعت نتاجها بمسحة من الحزن والألم وتحولت إلى رموز في التضحية والفداء.

ولعل في طليعة من كتب عن هذه الثورة في جميع جوانبها هو المحقق الكبير الشيخ محمد صادق الكرباسي الذي أربت موسوعته (دائرة المعارف الحسينية) على المائة مجلد ضمنها كل ما يخص هذه الثورة من نتائج ومعطيات وأبعاد على الأصعدة السياسية والاجتماعية والفكرية والدينية

في هذا الجزء (المدخل إلى الشعر الحسيني .. الجزء الأول) وهو الجزء العشرون من هذه الموسوعة يحلق الكرباسي في فضاء الشعر ويتوغل في جذوره وينقب عن أصله ومنبعه بدءا من الديوان الذي يفتتح به مباحثه فينقب عن أصل هذه الكلمة ويطرح الآراء المتعددة في أصلها من فارسية وآشورية وأكدية وسومرية وعربية ثم يحكم بالقول الفصل ويرجعها إلى أصلها العربي بأدلة وقرائن تاريخية وعلمية ولغوية

وفي تعريف الأدب يستعرض هذه المفردة لغة واصطلاحا من خلال أقوال العلماء ثم يستخلص الجوهر منها، وفي مباحثه التالية يتدرج في تسليط الضوء على ماهية الأدب والكشف عنه من جميع جوانبه وإظهار أهميته وتأثيره وخواصه وما ينتفع منه أو بالأحرى التوجيه الأدبي نحو الأهداف السامية.

يستعرض كل ذلك بالتفصيل في (ولادة الأدب)، و(قيمة الشعور الأدبي)، و(قيمة الاختيار الأدبي)، و(القيمة التعبيرية)، و(حقيقة الأدب)، و( منابع الأدب ومجاله)، و(الأدب الموجه)، و(وهدف الأدب والشعر) و(الأدب والالتزام) ليصل إلى (قمة الأدب)

فهو يضع حدّاً فاصلاً يميز بين ما يمكن أن نسميه بالتعبير الأدبي الذي يضم بين طياته الخصائص الفنية والجمالية والأخلاقية المتصلة بالأدب وبين التعبير اللقيط الذي ينسب إلى الأدب ظلماً وافتراءً.

(فالشاعر أو الأديب هو المذواق الذي يحدد نوعية الحرف والكلمة دون عناء أو تفكير بل إنه يملك الملكة التي وهبها الله له ليكون دليلا إلى الخير)

وفي التقسيم الأدبي الذي يتخذ من شكلي الشعر والنثر مصراعين للتعبير والايحاء يميز الكرباسي خواص كل منهما وفق رؤية أدبية ثاقبة، فمرتبة الشعر وتعريفه تعددت فيها الأقوال والآراء يستوفيها الكرباسي ثم يعرض نماذج شعرية اشتهر شعراؤها بها كحوليات زهير بن أبي سلمى، واعتذارات النابغة الذبياني، وحماسة عنترة، وهاشميات الكميت، وتشبيهات ابن المعتز، وزهديات أبي العتاهية، ومراثي أبي تمام، ومدائح البحتري، وروضيات الصنوبري، ولطائف كشاجم، وحكميات المتنبي، وتعتبر هذه النماذج هي قمم الشعر العربي على مدى تاريخه الطويل

ثم يميز الكرباسي بين النظم والشعر بقوله: (إن كل شعر نظم وليس العكس حيث إن الشعر هو ما حرك الشعور الإنساني بل مطلق الشعور مع مراعاة الوزن والقافية الذين هما من لوازم ذلك).

وخلاصة القول إن تصوير الواقع في الأدب لا يكفي عن طريق صورة (فوتوغرافية) جامدة حتى وإن كانت صادقة بل على الأديب تتبع الشروط الفنية كالصورة والابتكار.

ثم يتطرق الكرباسي إلى أمور مهمة في الشعر تحت عناوين (الشاعر بين العفوية والتكلف) و(بين القريحة والعروض) و(أعذبه أكذبه) أما في (سرقة الشعر) فينقسم إلى سرقة الفكرة وسرقة الالفاظ وسرقة القالب الشعري والانتحال

وخلاصة القول فيها أن موروث الشاعر يعد خلفية ثرية بالتجارب والخبرات والقيم والدلالات. وتأتي طريقة الشاعر في التعامل مع هذا الموروث لتحسم أصالته من اتّباعه، فالشاعر الأصيل هو الذي يستطيع صهر الألفاظ والتراكيب والصور، أما الشاعر المتّبع فهو الذي يتسلم الموروث كتركة ثقيلة ويتعامل معه تعاملاً مباشراً وسيئاً في التقليد والمحاكاة ومن ثم الاتباع كلياً، وقد سادت هذه النزعة الكثير من الشعراء فشكلوا مرحلة سُميت بمرحلة الجمود والانحطاط

ويتابع الكرباسي في (الرخص الشعرية) و(الانفتاح الأدبي) تكملة خواص الأدب ومميزاته وعوامل ازدهاره من انحساره ليصل إلى مبحث مهم وهو تاريخ الشعر وتطوره.

ويبدو أن التقسيم الجديد لتاريخ الشعر عند الكرباسي قد أخذ طابعاً ايديولوجياً حين قسمه على ثلاثة عصور هي: الجاهلي والإسلامي والحسيني وقد كان محقاً في ذلك لأن كمية الشعر الحسيني وجودته لا تقل عن أي عصر إن لم نقل إنه فاقها كما وجودة.

وهكذا يسترسل الكرباسي في رسم الخطوط الأولى للشعر الحسيني متتبعا مراحله وأدواره وشعراءه وهو يتوغل في المعنى كما يتوغل الغواص ليبرز الدر من أعماق المحيط.

كاتب : محمد طاهر الصفار