الحسين والتشريع الإسلامي / الجزء الرابع .. خطوة نحو التكامل

إذا كان سر الإبداع عند الكاتب يكمن في التجانس بين ملابسات الموضوع وإشكالياته وتفرّع صوره وآرائه، وبين قدرة الكاتب على التنسيق بينها وإلمامه بها والذي يفرزه علمه ومدى إحاطته وتأثره بجوانب الموضوع وتفرعاته، فهذا لأن استخلاص الرأي من هذا التجانس هو الذي ينجب الحقيقة التي هي ضالة القارئ، أو ينبثق منه (الخلق) كما يطلق عليه في المفهوم الأدبي مقابل التقليد والمحاكاة.

فهذا الخلق هو الذي يحمل الصفات الوراثية لتجربة الكاتب الحقيقية، و(يخلق) استجابة مؤثرة عند المتلقي، واذا عرفنا أن دور الموضوع هو بالغ الأهمية عند الفرد والمجتمع كونه يلامس جميع التعاملات والسلوكيات اليومية، فإن من الضرورة لمن يتصدى لهذه المواضيع أن يكون من ذوي الخبرة والاختصاص، ومواكباً له في تطوراته ومستحدثاته التي يفرضها التطور البشري.

وقد تجلت هذه المطابقة في كتاب (الحسين والتشريع الإسلامي) وهو من ضمن إصدارات موسوعة (دائرة المعارف الحسينية) لمؤلفها الشيخ المحقق والباحث محمد صادق الكرباسي، والذي استعرضنا في حلقات سابقة ثلاثة أجزاء منه بقراءات تحليلية ونقف اليوم على جولة علمية وفقهية وتاريخية بقراءة للجزء الرابع منه.

ــ كعادته ــ يتوسّع الكرباسي بعرض تفاصيل الموضوع ولا يترك باباً من أبوابه دون أن يطرقه أو يكتشف ما يمكن أن يضيف شيئاً إليه ويوليه غايته من الدراسة والبحث، ويستوفي حقه من العناية والاهتمام مما لا يترك معه مجالاً للشك فيه، أو ثغرة للطعن به.

يستأنف الكرباسي الحديث عن هذا الموضوع ما بدأه في الأجزاء الثلاثة السابقة فيشير إلى عامل مهم في بحثه الموسع وهو الترابط بين أجزاء الكتاب ــ أو بالأحرى الموسوعة ــ ومباحثها فيقول: (بعد أن انتهينا من عرض الحواضر العلمية في الوطن الإسلامي بشكل عام ودورها في تطوير الحركة العلمية وبالتالي تأثيرها في مسيرة التشريع الإسلامي فمن الجدير الإشارة إلى بعض متعلقات مسألة التشريع من بابها العريض، ومن تلك وضع الضوابط والتي منها الرتب والدرجات وتبويب الفقه ومدارس التشريع الغربي)، ويلتزم الكرباسي بهذا الترابط ولا ينفصل عنه في جميع مباحثه. 

ثم يستعرض بشكل مفصل ودقيق الضوابط التي أشار إليها ففي الرتب والدرجات يتدرج الكرباسي بعرضها وتبويبها على سبع درجات وفق المفهوم القرآني وسنة النبي (صلى الله عليه وآله) وأحاديث أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فيبدأ بالإمام، فالفقيه، فالعلامة، فالحجة، فالعالم، فالفاضل، فآية الله.

ثم يتطرق إلى زِي العلماء ويتلخص رأيه فيه بأنه: (لا بأس أن يتقيّد أهل العلم بزيّ خاص) ولكن بخصيصة: (أن لا يكون ارتداءه اعتباطاً ويحدد لبسه بمرحلة علمية معينة) ويضرب بعض الأمثلة على إيجابية هذا الأمر من خلال بعض ما مر به من أحداث في الواقع.

(في بادئ الأمر كان الفقه جزءاً من علم الحديث العام (الروايات) حيث لم يفرز بعد عن العقيدة والأخلاق والتاريخ والتفسير وسائر الشؤون الأخرى إلا من بعض النفر من الأصحاب من الذين سألوا أو كتبوا عن المعصوم (عليه السلام))

يبدأ الكرباسي جذور تبويب الفقه بهذه المعلومة قبل أن يتحرر ويكوِّن له خاصية في التصانيف والكتب وأول من ألف في الفقه هو علي بن أبي رافع تلميذ أمير المؤمنين وكاتبه، وقد استقى أحكامه وعلمه منه (عليه السلام) ثم يتوغل الكرباسي في الحديث عن توسع هذا العلم في عهد الإمامين الباقرين (عليهما السلام) حيث نال استقلالية عن باقي العلوم، ويذكر المصنّفات والمصنِّفين في ذلك وأبواب الفقه وتراجم الفقهاء والعلماء.

ثم ينتقل الكرباسي إلى (تقسيمات الأحكام) والتي عبر عن الحكمة منها بأنها كفيلة بـ (تحقيق المنفعة ودفع المضرة) ويطرح ذلك بشكل رياضي فالنفع ضمّ في خانته الواجب والمستحب، أما الضرر فالمكروه والحرام، ويأخذ المباح دور المنتصف فكلما مال الإنسان عن المنتصف مال: إما إلى المصلحة أو إلى المفسدة.

ولا ينحصر بحث الكرباسي حول هذا الموضوع بالمدارس الفقهية الإسلامية بل إنه استغرق البحث فيه عن المدارس الغربية التي تمخّضت عن ظهور القوانين الوضعية فيبدأ بالمدرسة الإيطالية التي أنشئت في القرن الثاني عشر الميلادي لتحل محل القانون الروماني ثم شمل فقه هذه المدرسة فرنسا وهولندا لكن الفرنسيين أنشأوا لهم مدرسة خاصة بعد انهيار النظام الإقطاعي في القرن السادس عشر الميلادي والذي انتقل أيضاً إلى هولندا وأصبح ينافس الفقه الإيطالي فيها وأولاه الهولنديون عناية خاصة.

وبعد أن يستعرض الكرباسي خصائص هذه المدارس الثلاث وأعلامها وقوانينها وأحكامها يتطرق إلى المدرسة الألمانية التي لا تختلف خصائصها كثيراً عن خصائص المدرسة الإيطالية القديمة، كما يستعرض خصائص المدرستين الإيطالية والفرنسية الحديثتين ليعود إلى (التشريع الإسلامي) من جديد، بتمهيد للدخول في الأحكام وتشريعاتها ويعطي لكل باب بحث مستقل فيبدأ بالطهارة، فالتخلي، فاستقبال القبلة واستدبارها فيتوسع في هذا الباب بذكر أحاديث الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وعرض آراء الفقهاء والحكمة من التشريعات ثم يعقد مقارنة مذهلة بين هذه الأحاديث والروايات التي وردت عن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) حول الأحكام الفقهية وبين اكتشافات الطب الحديث والتي جاءت مطابقة تماما لها.

لقد حمل هذا الكتاب بين طياته معارف وعلوماً جمة كما حملته الكتب السابقة وهو بالإضافة إلى ما يشكّله من أهمية في علم الفقه فقد كان كتاباً موسوعياً زخر بالثقافة العامة كالتاريخ والعقائد والطب والفيزياء والرياضيات وغيرها من العلوم كما انطوى على آراء ونظريات فكرية وفلسفية.

 

 

 

 

 

كاتب : محمد طاهر الصفار