الحسين والتشريع الإسلامي .. في دائرة الضوء

ضم القرآن الكريم في تشريعاته الإجابة عن كل ما يتصل بالإنسان, فلم تقتصر تشريعاته على فترة من الزمن أو ظرف معين كحال القوانين الوضعية التي تفرزها الأهواء والأمزجة والظروف الراهنة, بل إنه تكفل بعلاج كل العلل التي تعترض طريق الإنسان في أمور دينه ودنياه.

وهنا يتبادر السؤال وهو: إلى من يرجع الفرد والمجتمع بعد انقطاع الوحي بوفاة النبي (ص) في الأمور المستجدة والتي تفرضها طبيعة التطور الزمني الجديد ؟

الإجابة الشافية والوافية لهذا السؤال نجدها عند المحقق الكبير الشيخ محمد صادق الكرباسي الذي استعرض في كتابه (الحسين والتشريع الإسلامي) هذا الموضوع وتطرق إلى جذور التشريع وتفرعاته وأصوله ومفاهيمه وأصحابه وأهميته وفق المنهج العلمي الحصيف الذي يفرضه القرآن الكريم بالرجوع إلى النص القرآني والسنة الشريفة كون هذا الأمر يخصهما بالدرجة الأساس وهو من الأهمية بحيث يقوم عليه مستقبل أمة وليس أمراً يحتمل تعدد الوجوه أو إسقاط الفرضيات. 

ولا غرو إذا تصدى الكرباسي لهذا البحث العميق والمهم في حياة الأمة واستوفى شروطه فهو من أفذاذ العلماء الذين أنجبتهم الساحة العلمية الإسلامية فإضافة إلى نشأته في أسرة علمية وأدبية فقد درس على يد أساطين علماء الإمامية ومراجع التقليد في الفقه والأصول فدرس على يد الفقيه السيد يوسف الخراساني, والسيد المجدد محمد الشيرازي كما حضر دروس السيد الخوئي والسيد الخميني

وفي إيران حضر دروس آية الله العظمى السيد أحمد الخونساري في مسجد سيد عزيز في طهران, والشيخ محمد باقر الآشتياني في مروي في الفقه ودروس السيد أبي الحسن الرفيعي في الأصول

وفي قم حضر بحوث الشيخ محمد رضا الڰلبايڰاني, والسيد محمد كاظم الشريعتمداري, والشيخ كاظم التبريزي, والشيخ هاشم الآملي, والشيخ مرتضى الحائري, والشيخ محمد حسين الكرباسي, والسيد شهاب الدين المرعشي النجفي.

وكانت تربطه علاقة وثيقة أثناء تواجده في إيران بالسيد محمد حسين الطباطبائي ــ صاحب تفسير الميزان ــ وكان كثير التردد على بيته إضافة إلى الشيخ راضي القزويني وقد أخذ عنهما واستفاد من الطباطبائي كثيرا في حقل المسائل الفلسفية المتعلقة بالقرآن الكريم.

اتبع الكرباسي في كتابه الحسين والتشريع الإسلامي المنهج المتكامل لموضوع التشريع حيث استعرض جميع ما يمت إليه بصلة حيث مهّد له بالعلاقة الوثيقة بين الحسين والتشريع كونه (ع) هو المشرع الأول بعد جده (ص) وأبيه وأخيه (ع) وإليه ترجع الأمة في أمور دينها ودنياها, ثم انتقل في الحديث عن حقيقة التشريع لغة واصطلاحا, والآراء والنظريات فيه, وفي باب التشريع والمشرّع يتدرّج بالحديث عن التقسيم العقلي والعادي للمشرع ابتداءً من الله فالفرد فالشعب, فالمُشرِّع هو الله تعالى وإذا ما نُسب التشريع إلى الأنبياء وقيل بأنهم مشرِّعون فهو على سبيل المجاز

ثم يتحدث الكرباسي بالتفصيل في بابي هدف التشريع وقيمة التشريع عن أهمية التشريع في المجتمع, فهو كفيل بتحقيق السعادة والرفاهية له وفرض النظام لكي لا تتفشى الفوضى كما يضمن له التطور والازدهار.

وبالرجوع إلى (تاريخ التشريع) يقسّم الكرباسي في هذا الباب التشريع إلى ست مراحل في تاريخ الأنبياء من مؤسسي الشرائع وهم: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (عليهم السلام), فيفصل ماهية كل من هذه الشرائع التي حلت كل واحدة مكان الأخرى حسب حاجة البشر في عصورها وقد واكبت تطورها حتى جاء الإسلام لتكون شريعته خاتمة الشرائع ويكون حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة.

ولم يقتصر الكرباسي في كتابه عن الحديث عن الشرائع السماوية التي جاء بها الأنبياء بل تطرق بالحديث عن الشرائع الأخرى كالمجوسية والزرادشتية والصابئة والبوذية, كما تحدث عن المدارس التي بنيت بخصوص التشريع ومنها: المدرسة المثالية والواقعية والتعادلية وآرائها حول التشريع, وينوّه في باب الأنظمة السائدة إلى نقطة مهمة وهي أن النظام الإسلامي هو نظام مستقل عن النظامين الرأسمالي والاشتراكي ولا يصح تجزئته, وبعد أن يستعرض هذين النظامين يتخلص إلى النظام الإسلامي الذي ارتكز على مقومات تكريم الإنسان والعقل والعلم والمحبة والاتحاد والحرية والعدل والمساواة والنظم والشورى والنزاهة والمواهب ثم يصل إلى نقطة الخلاف بين المسلمين حول المشرع الحقيقي بعد النبي (ص).

فالسنة قالوا إنهم الصحابة عموماً كونهم عاصروا رسول الله (ص) واتسعت رقعة الاختلاف بينهم بانتشار التابعين والفقهاء في البلاد ووقعوا في التناقض الفظيع الذي دعاهم إلى معالجة الخطأ بالخطأ فابتدعوا الاستحسان والقياس وغيرهما من أدوات الاجتهاد التي تتحكم فيهما الأهواء والأمزجة على حساب النص وقد فند الكرباسي كل هذه الحجج بالأدلة العقلية والنقلية 

فحتمية تنصيص المشرع من قبل النبي (ص) تفرض أن يكون معصوماً وعالماً ولا يحتاج أحداً يأخذ منه سوى من أبيه ولا ينطبق هذا الوصف سوى على أئمة أهل البيت (ع) كما في حديث الإمام الصادق (ع) (حديثي حديث أبي, وحديث أبي حديث جدي, وحديث جدي حديث الحسين, وحديث الحسين حديث الحسن, وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين, وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله, وحديث رسول الله هو قول الله عز وجل)

لقد رافق الكرباسي مراحل التشريع في التاريخ البشري فكان الباحث الأمين في الحديث عن هذه المراحل وبيان خصائصها وسلبياتها وايجابياتها كما كان الباحث الموضوعي والحصيف في بيان المشرعين الحقيقيين بعد الرسول (ص) وفق منهج البحث العلمي.

 

كاتب : محمد طاهر الصفار