الحداثة والموروث .. تجليات من الروح الانسانية

الحداثة هي نزعة إنسانية تطورية تحمل طابعاً يتنازعه الاختلاف والتعقيد خلال حركتها المتواصلة عبر التاريخ وهذا ما يجعل منها مصطلحاً لا يخلو من قوام الهلامية والتداخل، ولا شك أن أفق الحداثة هو افق ممتد ومتواصل سواء كان ذلك نتيجة قطيعة مع الماضي أو لا ، فالحياة بطبيعتها تشهد متغيرات مستمرة حتى وإن اتخذت نسقاً مناقضاً، فأنها تحمل بواعث تفجّرها في الداخل ، وهذا ما حدث لكل المناهج الفكرية منها الفن.

والحداثة في أبسط صورة تمثل وعي الذات الانسانية في الزمن ، لكن هذا الوعي يتخذ اشكالا عدة ، فهو لا يعي الحاضر بمعزل عن علاقته بالماضي، اذ ان الحداثة في جوهرها هي  وعي ضدي للزمن ووعي ضدي للذات في الزمن، على أن ذلك الوعي يكون حاملاً للتغيير والتقدم بشكل او بآخر.

ولذلك كانت فعالية الزمن ، تحرك روح الحداثة ، وتفتح لها صراعاً مريراً مع المعايير التراثية الراسخة ، التي ترى في الماضي نموذجاً للأصالة والثبات ، وهناك رغبة جامحة تدفع بالحداثة الى محاولة تحطيم التقاليد وتفكيك فكرة الأصالة عبر ذلك التحطيم ، ولعل ذلك ما حدا بها إلى الإمساك ببواعث التجديد والابتعاد عن القدم بمسافة ما، رغم إقرارها بوجود عالم قائم ومتشكّل وشمولي ، ومن هنا كانت الحداثة تحمل في طياتها أسئلة قلقة، بحكم طبيعة تصارعها مع ذاتها تارة ومع الماضي تارة أخرى ، دون أن تطمح للحصول على إجابات نهائية ، بقدر ما تهتم بقلق التساؤل والبحث المتواصلين. 

ولو دققنا في التراث كفكرة متأصّلة بالماضي لوجدنا انه مرتبط في طبيعة علاقته بالحداثة من خلال مجموعة من المبررات الاجتماعية والثقافية التي تعمل بدورها على إيجاد صيغ ملائمة للاتصال والانفصال القائم بين الماضي والحاضر، دون المساس بطبيعة القيود التي يفرضها الزمن، فكل النتاجات الفكرية والأدبية والفنية التي المتناقلة الينا قد تحولت إلى موروث في النهاية، فهناك حيز من الرجوع والاستحضار الغير مقصود للموروث يقرن أبعاد الذات في صورة كلية جامعة قائمة على بعد تزامني يقرن الماضي بالحاضر، وهذا ما يؤكد العلاقة التبادلية بين الحداثة والتراث من خلال كون كل ذات محدثة لا تلبث أن تصير تراثاً وبالتالي يصبح كل إبداع إتبّاعاً، ومن جانب اخر فالحداثة تنطوي على تناقضاتها الداخلية الخاصة بها ، وعلى جدلها الخاص بها ، إذ أن أشكالاً متعددة من الفكر والرؤى الحداثوية قد تتعرض للتجمّد والاندثار، فتتحول إلى معتقدات متزمّتة جامدة ، لتصبح بالية ولا مجال لاستحضارها، في حين هناك اشكال أخرى من الحداثة قد تبقى مغمورة خلال أجيال دون أن تتعرض للتجاوز.

لقد عُرفت الحداثة بأنها حركة ترمي إلى التجديد ودراسة النفس الإنسانية من الداخل، معتمدة في ذلك على وسائل فنية جديدة ، إذ أن أغلب الحركات الفنية جاءت بما هو جديد ، فالحداثة فعلاً تجاوزياً عاماً ، يتسّم بالشمولية والتناقض وعدم الثبات عند مستوى معين ، فهو من جهة يبحث في علاقة الإنسان مع ذاته ومن جهة أخرى بعلاقة الإنسان مع العالم الخارجي ، وبالتالي فإن كل التحولات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والسياسية والتاريخية ألقت بظلالها على طبيعة العلاقة بين الإنسان وفعله والتي أثرّت فيما بعد على رؤية الإنسان من بؤرة تأمل إلى معاينة مباشرة للاشياء.

وقد اخذ مفهوم الحداثة اشكالا ومفاهيم عدة ولكن ليس بمنأى عن الاصالة والموروث وقد اشار اليه كثير من الباحثين في هذا المجال من الغرب والشرق أبعاداً فذكر البعض ان الحداثة ليست مفهوماً اجتماعيا أو سياسياً أو مفهوماً تاريخياً فحسب بل هو صيغة مميزة للحضارة ، تعارض في بعض المواطن صيغة التقليد ، أي أنها قد تعارض جميع الثقافات الأخرى السابقة لها أو التقليدية ، فأمام التنوع الجغرافي والرمزي لهذه الثقافات، قد تفرض الحداثة نفسها وكأنها كل متجانس، وهذا التجانس الذي يتبّدى في الحداثة ما هو إلاّ سمة ظاهرية لها ، لأن تاريخيتها تكشف تناقضاتها ونسبيتها وتغير مفاهيمها واختلاف وجهات النظر حولها .

وهنا لا بد من الاشارة الى إن رؤيتنا للحياة الحديثة تتجه نحو مستويين احدهما مادي  والاخر روحي، فيتبنى البعض الحداثة ويرونها نوعاً من الروح الخالصة ، وهذه روح تتطور وفقاً لمتطلباتها الفنية والفكرية المستقلة ، في حين يتبنى اخر جملة معقدة من البنى والسيرورات المادية السياسية والاقتصادية والاجتماعية على افتراض أن هذه الدائرة ما أن تنطلق ، حتى تتابع مسيرتها بزخمها الخاص دونما حاجة إلى أي قدر ذي شأن من الدعم الآتي من العقول أو النفوس البشرية ، وهي فكرة طاغية في الثقافة المعاصرة وخصوصاً عند الفكر الغربي ومن تأثر به، ولكنها تحرمنا جميعاً من إحدى الحقائق السائدة للحياة الحديثة في حقيقة تزاوج وتداخل القوى المادية والروحية في الحياة.. وهناك اراء عدة قد تكون مثاراً للجدل في العلاقة بين الموروث واصالته وبين حداثة التكوينات الفنية التي لاتحيد عن اصالتها.

 لتبقى الحداثة بمفهومها العام ، فعلاً كونياً شمولياً، ونزعة شمولية تبدأ وتنتهي من خلال الإنسان عبر مسيرته الطويلة ، وفي تعاملاته الحياتية مع الفن والأدب والثقافة والعلوم الاخرى ، ففيها تجليات للروح الانسانية المتأصلة التي لا تعرف إلاّ التحوّل والتبدّل والتقّدم والبحث عن الحقيقة .       

كاتب : سامر قحطان القيسي