ازدهرت فنون عمارة المدن والقصور والنحت والتصوير لدى الدول العربية القديمة لاسيما في تدمر واليمن والبتراء ، ولم تتطور مثل هذه الفنون عند عرب الحجاز قبل الإسلام . وبعد أن ظهر الإسلام في شبه الجزيرة العربية لم يكن في مكة أي منشآت معمارية مهمة سوى الكعبة الشريفة ، فشيدت فيما بعد المساجد في العصر الإسلامي الأول واتسمت ببساطة مظهرها ومواد بنائها فشيدت من الطين وجذوع النخيل وخلت من أساليب التزيين والزخارف، حيث لم تكن هناك ذائقة فنية حاضرة نظراً لطبيعة المنطقة وحياة سكانها التي اعتمدت الرعي وقيادة قوافل التجارة بين اليمن والشام ، فضلاً عما تميز به المجتمع الإسلامي بالبساطة والتقشف والبعد عن الترف بكل مظاهره بعداً مبعثه القلب والإيمان بالله إيمانا عظيماً، لكن مع ذلك كان من الطبيعي أن يستفيد المسلمون من التقاليد الفنية التي كانت سائدة في البلاد التي فتحوها ، فقد استفادوا من الأساليب الفنية التي كانت سائدة في الشام ومصر وشمال أفريقيا وشرق اسيا، ومن ثم تماهت مع الأساليب الفنية التي عرفت في العراق وتطورت عبر العصور، مما أدى إلى تبلور الاتجاهات الفنية بشكل واضح وصولاً الى ما الت اليه اليوم من تحف فنية نادرة وفريدة تزين مراقد الائمة الاطهار عليهم السلام في كربلاء والنجف وسامراء، وهذا ما نراه متجسداً في التنوع الكبير في الوحدات العمارية والزخرفية التي تزين جدران ومداخل وسقوف مرقد ابي عبد الله الحسين عليه السلام في كربلاء، وهذا ما نميزه في الانموذج الفني اعلاه الذي يعد بحد ذاته مزيجاً مثاليا لفنون العمارة المزينة بأنواع الزخارف المختلفة.
القوام البنائي العام لهذهِ الزخرفة هو الشكل الدائري وهو يتألف هذا المنجز العماري الزخرفي من تشكيل دائري زخرفي اتبع نظاماً زخرفياً بؤرياً شعاعياً ، إذ إنه يتكون من نقطة مركزية دائرية تحيط بها دائرتان اكبر منها ، ويحيط بالدوائر الثلاث تشكيل زخرفي هندسي قوامه نجمة ذات رؤوس متعددة تنطلق منها اشعاعات خطية متراكبة لتكوّن اشكالاً هندسية مختلفة الأضلاع ناتجة من تكرار شكل هندسي سداسي الأضلاع يتكرر حول النجمة بشكل شعاعي مما يكوّن اشكالاً معينية من الداخل تنحصر بين النجمة والاشكال الهندسية السداسية ، وأشكالاً خماسية الأضلاع من الخارج تحيط بالتكوينات الزخرفية الداخلية. كما يلاحظ أن الأشكال الهندسية الخماسية والسداسية الأضلاع قد إحتوت بداخلها على مساحات زخرفية صغيرة إحتلت منطقة الوسط وأخذت شكل الإطار الخارجي الذي يحيط بكل وحدة هندسية منها ، وتقوم تلك المساحات الزخرفية الصغيرة على مجموعة من الأغصان الملتفة مكونة اشكالاً زخرفية نباتية ،ويحيط بهذا التشكيل الزخرفي إطار زخرفي أيضاً يتألف من أشكال بيضوية محشوة بزخارف نباتية غصنية ملتفة يفصل بينها أشكال دائرية صغيرة متكررة ، من هنا فان سمة التكرارية تفضي الى معالجات تقنية واضحة بالنسبة للمزخرف ، إذ تعمل على إيجاد علاقة وطيدة بين الشكل المجرد والمضمون.
تمثل التحفة الفنية اعلاه احدى القباب المتناظرة المنتشرة على سقف الصحن الحسيني الشريف والتي وضعت تيمنا بالائمة الاطهار سلام الله عليهم، وهي تحمل بين ثناياها دعاء التوسل محيطا بالقواعد المربعة التي ترتكز عليها القبة ، فضلا عن اسماء المعصومين "عليهم السلام " تتوسط كيان زخرفي متكامل يشغل مساحة القبة من الداخل، وهذا التكوين ذي بناء زخرفي دائري، شُغلت مساحته الداخلية بتكوينات زخرفية مختلطة متكاملة حققت جذباً بصرياً للمتلقي، فاذا ما نظرنا الى التشكيل الزخرفي للقبة من الداخل نجده يتألف من مجموعة متنوعة من الزخارف (النباتية والهندسية والخطية) تداخلت فيما بينها ضمن نظام بؤري دائري اقرب للشعاعي توضحت ملامح أبنيته التنظيمية المنبثقة من قلب الشكل المتكون من مخطوطة بأسم سيد الشهداء ابي عبد الله الحسين " عليه السلام " من خلال التناسق ودقة التصميم والتي أعطت انطباعاً عن البعد الروحي لهذا التشكيل، سيما وان خاصية ملء المساحات بالزخارف كانت تشّكل قاعدة أساسية في منهج المزخرف الاسلامي بشكل عام.
نحى الفنان في هذا المكون الزخرفي منحا جماليا واضحا من خلال طبيعة التجريد الحقيقية للأشكال الزخرفية النباتية والهندسية والتي لامست جوهر الرؤية الجمالية للفن الاسلامي في هذا المكان المقدس، فقد اعتمد آلية صياغة جدية للعناصر الخطية واللونية والشكلية والحجمية على أسس الوحدة والتناغم والتوازن والسيادة والتكرار المتعارف عليها ضمن سياق ابداع المزخرف الاسلامي، وهذا ما استطاع تحقيقه في الطبيعة البنائية لهذا التكوين الزخرفي المتناظر مع اقرانه من الاشكال القببية الاخرى المنتشرة في سقف الصحن الحسيني المطهر.
اعتمد الفنان في هذا البناء الزخرفي على وجود بؤرة مركزية أحاطت بها التشكيلات الزخرفية الاكبر حجما ضمن إطارات دائرية لتنسجم مع الطبيعة المعمارية الدائرية للقبة، فوجود البؤرة في مركز البناء القببي شّكلت الانطلاقة الشكلية لكل التكوينات الزخرفية الأُخرى، حيث اخذت " البؤرة " اشكالا خطية متنوعة تحمل اسماء المعصومين "عليهم السلام " بدأ بالرسول الاكرم محمد " صلى الله عليه واله " وصولا الى الامام الحجة ابن الحسن " عجل الله فرجه الشريف "، لتبث اشعاعات شَكّلت مساحة ذهبية أحاطت بها مساحات دائرية أُخرى شُغلت بمجموعات من الأشكال النباتية الدقيقة بالوان مختلفة اتصلت فيما بينها لتعطي نسيجاً لونياً يتراوح بين وحدات زخرفية حمراء وبرتقالية فاتحة اللون فضلا عن اشعاعات اللون الذهبي المحيط بها، لتمتد الى أرضية زرقاء تشغل ما تبقى من المساحة الزخرفية الدائرية والتي احتلت الجزء الأكبر، المتألف من تكرار وحدات زخرفية نباتية متشابكة متداخلة على شكل دوائر تحيط بمركز الشكل البؤري لتمتد متصلة فيما بينها لتختلف وحداتها من حيث الحجم واللون، فهي تكبر كلما ابتعدت عن المركز الزخرفي الخطي مقتربة من الاطار الخارجي للشكل وهي تحمل الوانا مختلفة الدرجات بين اخضر واصفر وابيض وبني، فضلا عن احتوائها من الداخل على مجموعة من الزخارف التزويقية النباتية الدقيقة ذات اللون الزهري.
احيط هذا التكوين المميز بشريط زخرفي اغلق المساحة الزخرفية الدائرية للقبة، ليكون على شكل انصاف دوائر متراصفة متجهة الى الداخل لتشكل مصفوفة دائرية تؤطر الشكل وتحدده من الخارج، نفذت باللون الازرق الفاتح على ارضية ترابية اللون يحدها من الخارج شريط من اشكال زخرفية نباتية متجاورة باللون الاخضر الممزوج ببعض الذهبي ليتجانس ولون الارضية التي نفذ عليها ، ولا اختلاف على ان هذا التنظيم التصميمي الزخرفي الخليط أعطى تعبيراً واضحاً عن دلالات ترتبط بالبعد الروحي والجمالي تارةً، وبالبعد البنائي تارةً أُخرى، من خلال انسجام الالوان وتوظيف الوحدات الزخرفية الصغيرة في ملء المساحات التكوينية الاكبر التي تعطي ايحاءً بالاستمرارية والتعبير عن قدسية المضمون الروحي لصحن الامام الحسين عليه السلام .
اترك تعليق