من الصعب على الباحث - وهو في سياق كتابة بحث محكوم بعدد محدود من الصفحات- أنْ يحيط خُبرًا بكل ما قيل عن مفهوم الشعريَّة في الدراسات النقديَّة؛ فالشعر بوصفه مصطلحًا ومفهومًا أدبيًّا يسهل تصوره، أما الشعرية فهو مفهوم غامض وتجريدي وصعب التحديد، والصعوبة تكمن في تحديد طبيعة الخصائص أو العناصر التي تكونه (1).
وفي طبيعة المقام الذي نكتب فيه هذا البحث عن الشاعر حيدر الحِلِّي، نجد أنفسنا إزاء وفرةٍ من القضايا التي تنضوي تحت خيمة الشعريَّة، ولكن هذا لا يُثنينا عن أهم تلك القضايا التي سنتناولها بصورة مقتضبة، مؤكِّدين أنَّها يمكن أنْ تُبحثَ بصورةٍ أكثر شمولًا واتِّساعًا ممَّا سنتعرَّض له، ولكن "ما لا يدرك جلُّهُ لا يُترَكُ كلُّه"، وعلى هذا الأساس سنتناول الآتي:
- مفهوم الشعريَّة
لابُدَّ أنَّ لكُلِّ علمٍ موضوعًا يتخصّصُ في بيان إجراءاتهِ وتوضيح مساراتهِ التي لا يمكن لعلمٍ آخرَ من توظيف آلياته في ميدان ذلك العلم، ومن هذا المنطلق أكَّد الدارسون في ميدان التنظير النقدي للأدب وتطبيقه – على اختلاف توجُّهاتهم- على أنَّ ((موضوع الشعرية يتركز في دراسة الإجراءات اللغوية التي تمنح لغة الأدب خصوصية مميزة تفضلها عن أنماط التعبير الفنية واللغوية الأخرى، هذه الخصوصية تتميز بأنها منبثقة من الأدب ذاته وماثلة في أبنيته التعبيرية)) (2)، ولا نريد الخوض بما اكتنف مصطلح الشعريَّة (poetics ) من لبس؛ وذلك لتعدد معانيه ودلالاته وتنوع تعريفاته، وتباين المنطلقات الفكرية والنقدية التي تنطلق منها تلك التعريفات، فمن حيث الترجمة ترجم هذا المصطلح ترجمات عدة منها: الشعرية، الشاعرية، الأدبية، الإنشائية، نظرية الأدب، قضايا الفن الإبداعي، صناعة الأدب، فضلا عن (البيوطيقا) وهي التسمية التي شاعت حديثا، على الرغم من أنها التسمية التي اعتمدها المترجم الأول (بشر بن متى) لكتاب أرسطو (فن الشعر)، بيد أن الشائع في الأدبيات النقدية العربية من هذه المصطلحات هو مصطلح (الشعرية).
وقبل أنْ ندخل في صميم اشتغالنا التطبيقي على نصوص السيد حيدر الحلي الشعرية، لا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ علم الشعريَّة لم تتبلور مفاهيمه بصورة نهائية، إلا على جهود حلقة موسكو، ومن ثَمَّ حلقة براغ التي تزعمَّهما تباعًا (رومان ياكوبسون)، وملخَّص تلك الجهود انصبَّت على أنَّ وظيفة النقد هي الحديث عن أدبية النصوص الأدبية بمعزل عن كل المقاربات الخارجية، وهذا ما جعلهم ينطلقون من مبدأ هيمنة (الوظيفة الشعرية) في الشعر على وظائف اللغة الأخرى، وقد مثّل جاكبسون لهذه الوظائف التي لا تستغني عنها أية عملية توصيلية بالخطاطة الآتية:
سياق
مرسِل ...… رسالة ....… مرسَل إليه
اتصال
سنن
فهذه العوامل يولِّد كلُّ عاملٍ منها وظيفةً لسانيةً مختلفة، وبصبِّ الاهتمام على أي عامل من العوامل الستة تتولد وظيفة من الوظائف، فصبُّ الاهتمام على المرسِل يولّد الوظيفة المسماة التعبيرية أو الانفعالية، والتوجه نحو المرسل إليه يولّد الوظيفة الإفهاميّة، والالتفات إلى السياق يولّد الوظيفة المعرفية أو المرجعية، والتوجه نحو عنصر الاتصال تنجم عنه الوظيفة الانتباهية، وصب الاهتمام على الرسالة يولد الوظيفة الشاعرية وأخيراً التوجه إلى الشفرة أو السنن يولد الوظيفة المعجمية التي تؤمّن اشتراك لغوي بين المرسل والمرسل إليه عبر توضيحها المفردات الواردة في النص بمفردات لغوية أخرى، مما يُسهم في إنجاح عملية التوصيل (3).
من هذه الخطاطة يتّضح لنا أنَّ هيمنة الرسالة – أي النص اللغوي المُصاغ شعرًا على سبيل المثال- هي ما تُفضي إلى اهتمام كلِّ الوسائط في الإحاطة بها، فتتولَّد الوظيفة الشعريَّة بسبب هذه الهيمنة المُتأتِّية من داخل نسيج النصِّ، ومن الطبيعي أن يكون سبب ذلك عائدًا إلى انزياح لغته، وانحرافها عن القواعد المعياريَّة سواءً أكانت على صعيد النظم الشكلي للنص، أم على صعيد البناء الفكري له، إذن فالانزياح تأتَّى للنص عن طريق الاستعمال الفنِّي المقصود غير المألوف للغة المعيارية المألوفة عند جميع المُتكلِّمين بتلك اللغة (4).
وفي ضوء ما عرضناه عن مفهوم الشعرية، يتّضح لنا أنَّها تقوم على فرادة المستوى النصّي الذي يقوم على اللغة في المقام الأول، وهذا يدفعنا أنْ نضع شعر الرثاء الحسيني للسيد حيدر الحلي، على محكِّ هذا المستوى؛ وذلك لانفراد الشاعر ــ موضع البحث ــ بخصيصةٍ تختلف عن كثير من شعراء عصره، وهي محاكمته شعره في رثاء الحسين (5)، فكان لاعتداده بنفسه لا يُثبِت القصيدة إلاّ بعد أن يقرأها المرة تلو الاخرى وبعد الاطمئنان يقرؤها على رهط من فحول الشعراء بعد اعطائه لهم حريّة النقد والمناقشة، فإذا ما تم كل ذلك وافق على نسبتها له، لذا تراه أوّل ما عني بمراثيه لآل البيت (عليهم السلام) فكان لا يذيع القصيدة إلاّ بعد أن يمّر عليها عامٌ واحد ومن ثمّ يخرجها ويقرؤها ليذيعها في الأندية وبهذا عُرفت مراثيه بـ(الحوليات)؛ لاشتمالها على شعر رصين مركز خالٍ من الحشو، وإذا ما وجد له شعر ركيك فما ذلك إلاّ مما لم يقرأ باسمه في حينه، ولم ينسب إليه في وقته.
ولعلَّ الدارس لمُستويات تجلِّي الوظيفة الشعريَّة في النصِّ الشعري يعي أنَّ استيعاب كلِّ هذه المُستويات واستظهارها تطبيقيًّا يأخذُ مساحةً لا تنسجم والبحث الذي أعددناه، فهي كثيرة لا يمكن الوقوف عند محطَّاتها، إلَّا أنَّنا سنقتصر على أهمِّ مُستويين - بحسب وجهة رأي الباحث- سنتعرّف في ضوئهما على تميُّز النص الرثائي الحُسيني للسيد حيدر الحِلِّي، وهما: التناص والمفارقة، وذلك فيما يأتي:
1 – شعرية التناص في الرثاء الحسيني عند السيد حيدر الحلِّي:
تعدَّدت تعريفات مصطلح (التناص)، كما تعددت أشكاله وآلياته من ناقد إلى آخر ومن مذهب نقدي إلى آخر، وذلك بحسب الأصول المعرفية التي يستقى منها كلُّ اتِّجاه نقدي، كالبنيوية الفرنسية التي احتضنته وتبنته كما تبنته اتجاهات الحداثة أو اتجاهات ما بعد البنيوية كالسيميائية والتفكيكية وغيرها مما ظهر في كتابات (رولان بارت) و(تودوروف) و(جيرار جينيت) الذين راحوا يبتكرون تسميات متعددة اشتقوها من الجذر ذاته طمعا منهم في الوصول إلى أدق الجزيئيات في المفهوم، وبهذا الصدد يشار إلى التسميات التي اقترحها (جيرار جنيت): مثل: التناص والميتانص والنص الأعلى والمناص وجامع النص أو معمارية النص (6)، وعلى العموم فالتناص هو ((أن يتضمن نص أدبي ما نصوصا أو أفكارا أخرى سابقة عليه عن طريق الاقتباس أو التضمين أو التلميح أو الإشارة أو ما شابه ذلك من المقروء الثقافي لدى الأديب، بحيث تندمج هذه النصوص أو الأفكار مع النص الأصلي وتندغم فيه ليتشكل نص جديد واحد متكامل)) (7). وبناء عليه فإن النص ـ كما تقول (جوليا كريستيفيا) هو ((قطعة فسيفساء أو موزاييك من الشواهد، وهو لابد أن يكون في حالة تقاطع أفقي وعمودي مع النصوص السابقة، وهذا ما سيجعله مصدرا لنصوص لاحقة ستكتب بعده)) (8).
وإذا ما أردنا أنْ نستجلي ملامح التناص في شعر الرثاء الحسيني عند السيد حيدر، ممَّا يُعلي مناسيب (الشعريَّة) في نصوصه، فلا بُدَّ من الالتفات إلى أنَّ صلته (الثقافية) بمن سلف من شعراء العربية الكبار، ولاسيَّما صلته بالشريف الرضي وتلميذه مهيار الديلمي، عبر اطِّلاعهِ على شعرهما بمختلف موضوعاته، كانت سبباً وجيهًا لتأثُّر الحِلِّي بشعرهما، ممَّا تمظهر في نصوصه الرثائيَّة في الحسين (عليه السلام)، ناهيك عن غيرها التي لا تصبُّ في دائرة الرثاء الحسيني، وهذا ما أكَّده الدكتور البصير بقوله: ((فما أظنُّ أنَّ للرضيِّ أو لتلميذهِ مهيار بيتاً واحداً لم يقرأه حيدر ولم يفهمه فهماً كُلِّياً)) (9)، فقد ألَمَّ بكثيرٍ من معاني الشريف الرضي وأودعها في قصائدهِ بقوالبَ من الألفاظ رُبَّما تكونُ ــ أحياناً ــ أقوى وأجزلَ من الأصل كما يرى اليعقوبي (10)، ومن تلك الشواهد ما يأتي:
1 ــ قال السيد حيدر الحلي (11):
لتُلقِ الجيادُ السابقاتُ عنانَها فليسَ لها بعد الحسينِ مصرّفُ
وهذا البيت يُومِي ــ لمن يتأمل فيه ــ إلى بيت الشريف الرضي بقوله (12):
وَدَعي الأَعِنَّةَ مِن أَكُفِّكِ إِنَّها فَقَدَت مُصَرِّفَها لِيَومِ مَغارِ
2 ــ وقال السيد حيدر (13):
عهدي بهم قُصُرُ الأعمارِ شأنُهُمُ لا يهرُمُونَ وللهيَّابةِ الهَرَمُ
وهذا المعنى قد أتى الشريف الرضيُّ عليه في إحدى قصائده، وهو قوله (14):
إِنَّما قَصَّرَ مِن آجالِنا أَنَّنا نَأنَفُ مِن مَوتِ الهَرَمْ
3 ــ قال السيد حيدر مُستنهِضاً الإمام الغائب محمد بن الحسن العسكري (عليهما السلام)، مُتكلِّماً باسم جماعة المُسلمين الذين ذاقوا الويل والثبور على أيدي الظالمين من الولاة (15):
عَجَجْنا إِليكَ مِنَ الظالمينَ عجيجَ الجِمالِ من الناحرِ
وصورة الجمال المذعورة من ناحرها تُذكِّرنا بصورة الجمل المُتأوِّه ألماً بعد أن أمكن ناحره منه في قول الشريف الرضي (16):
مُتَأَوِّهاً تَحتَ الخُطو بِ تَأَوُّهَ الجَمَلِ العَقيرِ
ولا يمكن أن ننكر تأثُّر الإثنين معا ــ السيد حيدر والشريف الرضي ــ بالتراث الشعري القديم، فقول السيد حيدر (عجيج الجمال) إنَّما وردت في شعر العصر الجاهلي، وهو قول الحارث بن عبّاد (17):
أَصبَحَت وائِلٌ تَعِجُّ مِنَ الحَر بِ عَجيجَ الجِمالِ بِالأَثقالِ
4 ــ قال السيد حيدر الحِلِّي في ميميَّته الآنفة الذكر شاكياً إلى الإمام الغائب (عجل الله تعالى فرجه الشريف) طول غيابه عن المسلمين وهُم بأَمَسِّ الحاجة إليه (18):
الخيلُ عندك ملَّتها مرابطها والبيضُ منها عَرى أغمادَها السأمُ
وهذا ما نجدهُ في شعر الرضيِّ، إذ قال (19):
إِنَّ الجِيادَ عَلى المَرا بِطِ تَشتَكي طُولَ الجَمَامِ
والمتأمِّل يرى أنَّ تناول السيد حيدر للمعنى أكثر دقَّةً من تناولِ الرضيِّ، فقد نسب الملل والتذمر من قعود الخيل إلى المرابط نفسها، وهذا يعني أنَّ دبيب الملل قد سرى من الخيل إلى المرابط التي هي بحُكم الجمادات، وقد سكت الشاعر عن شكوى الخيل من ملل سكناها في المرابط إشعارًا بعظيم شكواها؛ لأنَّ السكوت أبلغ كما يُقال.
5 – قال السيد حيدر (20):
غداةَ أبو السجَّادِ جاءَ يقودُها أجادَلَ للهيجاء يحمِلْنَ أنسُرَا
وهو تشبيهٌ لأنصار الإمام الحسين (عليه السلام) بالنسور التي تحملها الصقور، وهذا ما يشي بتوظيف جميل لبيت الشريف الرضي، وهو قوله (21):
بِضَوامِرٍ مِثلِ النُسو رِ وَغِلمَةٍ مِثلِ الصُقورِ
والسبب الذي أراه كفيلاً بجمالية الصورة التي اشتقَّها السيد حيدر من الصورة الأصل التي رسمها الرضي، أنَّ الأخير شبَّه الخيل (الضوامر) بالنسور، والفرسان بالصقور، في حين أنَّ السيد حيدر قلب الصورة، فشبَّه الخيل بالصقور تحمل الفرسان الذين شبَّههم بالنسور، وذلك لأنَّ النسر يُعدُّ زعيم الطيورِ كلِّها، أو كما لُقِّبَ بـ(عريف الطير) (22)، فهو أجدر – من باب التشبيه- أن يكون هو الراكب والصقر هو المركوب، وهذا ما كان عليه في النص الحيدري.
6 – وقال السيد حيدر واصفاً صاحبي الإمام الحسين (عليه السلام) في المعركة: فرسه وسيفه (23):
وله الطِرْفُ حيثُ سارَ أنيسٌ ولهُ السيفُ حيثُ باتَ ضَجيعُ
وهذا الوصف مُقارِبٌ لوصف الشريف الرضي نفسه بقوله (24):
إِذا راقَ صُبحٌ فَالحِصانُ مُصاحِبٌ وَإِنْ عاقَ لَيلٌ فَالحُسامُ ضَجيعُ
وبحسب رأي الباحث إنَّ وصف السيد حيدر أكثر شعريَّةً من الصورة الأصل التي رسمها الشريف الرضي، وذلك لأنَّ السيد حيدر أضفى عليها ما يتناسب ومقام الإمام المعصوم، فاقتصد بذكر صفة حصانه (الطرف) وهي من الصفات التي تنفرد بها الخيل الكريمة الأصل، حيث تكون حادَّةً في النظر وهذا يدُلُّ على فرط حساسيَّتها وذكائها، ولم يكتف بذلك بل جعله يضطلع بدور (الأنيس) الذي لا يُملُّ من صحبته، أما سيفه فهو الضجيع الذي يبيتُ معه حيثما يبيتُ صاحبه، بخلاف صورة الرضي التي افتقدت حرارة الوصف بذكر (الحصان) من دون أي صفةٍ تدلُّ على نجابته، وكذلك بوصفه إياه بـ(الصاحب)، ومعلومٌ أنَّ الصحبة لا تعني إضافة أيِّ مزية تشريفية سوى أنَّها تدلُّ على المرافقة، ولعلَّ السيد حيدر بوصفه فرس الإمام بالصاحب الأنيس، أراد التناص مع المتنبي، ولكن بتحطيمه الثنائيَّة التي ذكرها الأخير في بيته الشهير(25):
أَعَزُّ مَكانٍ في الدُنى سَرجُ سابِحٍ وَخَيرُ جَليسٍ في الزَمانِ كِتابُ
إذ تحقَّقَ الأنس في أعزِّ مكانٍ ــ بحسب المتنبي ــ مع الإمام الحسين (عليه السلام) الذي تنكَّر له الكثير ممَّن ادَّعى الإسلام في عصره، فتركوه وحيدًا غريبًا يُلاقي أعداءه الذين ينتمون إلى دين جدِّه (صلى الله عليه وآله) بحسب ظاهرهم.
7 ــ وكذلك قول السيد حيدر من القصيدة العينية الآنفة الذكر (26):
عجباً للعيون لم تغْدُ بيضاً لمصابٍ تحمرُّ فيه الدموعُ
وهذا المعنى يتواشج مع قول الشريف راثيا أبا إسحاق الصابي (27):
سَوَّدتَ ما بَينَ الفَضاءِ وَناظِري وَغَسَلتَ مِن عَينَيَّ كُلَّ سَوادِ
وفي بيت السيد تجد أنَّ العيون لم تزل سودًا على هذا المصاب الجلل الذي احمرَّت فيه آفاق السماء فضلاً عن احمرار الدموع حين تُذرَفُ عليه من شِدَّة البكاء المُستمرِّ، أما وصف الشريف، فكان على نطاق مشاعره الشخصيَّة إزاء المفقود، وشتَّان بين المفقودين، لذا حُمِدَ احمرارُ الدمع، بل أكثر من ذلك حين تغدو العيون بيضًا حُزنًا على فقد خامس أصحاب الكساء المعصومين، كما بكى يعقوب النبي على ابنه يوسف الصديق (عليهما السلام) بحسب الإخبار الإلهي عن حاله: وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (28)
8 ــ ومن شعر السيد حيدر الذي تناص فيه ــ ظاهريّاً ــ مع شعر الشريف الرضي قوله (29):
تباريحُ أعطينَ القلوب وجيبَها *** وقلنَ لها قومي من الوجد واقعدي
إذ جاء مقارِباً قول الشريف (30):
قَذَفوكَ في غَمّائِها وَتَباعَدوا عَنها وَقالوا قُم لِنَفسِكَ وَاِقعُدِ
وكذلك من تناصات السيد التي يراها المتأمِّل أنَّها لم تتفوَّق على الصورة الأصل، قوله (31):
إنْ دُعُوا خفُّوا إلى داعي الوغى وإذا النادي احتَبى كانوا ثِقالا
وهذا المعنى بهذه الألفاظ جاء في قول الشريف (32):
وَتُرى خِفافاً في الوَغى فَإِذا اِنتَدَوا وَتَلاغَطَ النادي رَأَيتَ ثِقالا
وبحسب رأي الباحث أنَّ السيد حيدر في هذين التناصين الأخيرين لم يضف شيئًا جديدًا على المعنى، بخلاف التناصات السابقة، ففيها ما بيَّناهُ من إضافات تُحسَبُ لشعريَّة النص لديه.
أمَّا تأثُّرهُ بالشعراء الآخرين سوى الشريف الرضي، فكثيرٌ لا يمكنُ لنا أن نتتبَّع كلَّ تلك الإشارات التناصية في شعره، ومن تلك الأبيات قولُهُ في وصف الإمام الحسين وصحبه الذين وقفوا ــ على قلة عددهم ــ سَدًّا يمنع سيل السهام والرماح والسيوف (33):
فما عبروا إلاَّ على ظهرِ سابحٍ إلى الموتِ لمَّا ماجتِ البيضُ أبحُرا
وهذا ما يُذكِّرُنا بقول المتنبي (34):
أَفرَسُ مَن تَسبَحُ الجِيادُ بِهِ وَلَيسَ إِلّا الحَديدَ أَمواهُ
أو قوله ــ أي السيد حيدر ــ واصفاً جدَّه الإمام المظلوم بُعَيد شهادته (35):
ومات كريمَ العهد عند شبا القنا يُواريه منها ما عليه تكسَّرا
وصورة الجسد المُوارى بسلاح العدوِّ المُتكسِّر، تُحيلُنا إلى ما أبدعه الشاعر ابنُ هانئ الأندلسي بقوله (36):
لا يأكُلُ السِّرحانُ شِلوَ طعينهم ممَّا عليهِ من القنا المتكسِّرِ
ونلفِتُ أنَّ السيد حيدر كان موفَّقا جدَّ التوفيق حين اكتفى بصورة السلاح المتكسر الذي وارى جسد الإمام، ولم يذكر الذئاب الكاسرة التي تفترس كلِّ طريحٍ في أرض المعركة؛ لأنَّها على فرض عدم وجود ما يمنعها من الوصول إلى الأشلاء المنطرحة على أرض الواقعة، فإنَّها لا تُقدِمُ على ذلك؛ لمعرفتها بأنَّ لحوم المعصومين من الأنبياء والأئمة قد حُرِّمت عليها تكوينًا، فهي تأبى أكل لحومهم، بخلاف أعدائه الذين ابتعدوا عن إنسانيَّتهم بُعد السماء عن الأرض.
وكذلك من شعر السيد حيدر الذي ورد مُعادًا بحُلِّةٍ أبهى، قوله واصفًا بأس الإمام الحسين على أعدائه الطغام (37):
سدَّ فيهم ثغرَ المنيَّة شهمٌ لثنايا الثغر المخوف طَلوعُ
ففي هذا البيت توظيفٌ لبيتين سارا مسير الشمس والقمر في كتب الأدب العربي ناهيك عن اقتباسهما عند كثيرٍ من شعراء العربية، فصدر البيت تناصَّ مع بيت العرجي (ت: 120هـ) (38):
أَضَاعُونِي وأَيَّ فَتًى أَضَاعُوا *** لِيَوْمٍ كريهةٍ وَسِدَادِ ثَغْرِ
وعجز البيت تناصَّ مع قول سحيم الرياحي (39):
أَنا اِبنُ جَلا وَطَلاعِ الثَنايا مَتى أَضَعِ العِمامَةَ تَعرِفوني
ومن تناصاته مع النص القُرآني قوله واصفًا شجاعة أنصار الحسين (عليه السلام) (40):
جعلت بثغر الحتف من زُبر الضُبا رَدماً يحوطُ من الردى حُلفاءَها
واستقبلت هامَ الكماة فأفرغَت قِطْراً على رَدم السيوف دماءَها
ففي هذا البيت تجد إشارة لطيفة إلى قوله تعالى حكاية عن قصة ذي القرنين: قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (41)
وهناك من التناصَّات أكثرُ إبداعاً من غيرها ممَّن سلف عرضها، إذ تقف على الصورة الكُلِّية في مجموعة من الأبيات الشعرية من دون قرض أيٍّ من مفرداتها، ثمَّ يُعيد الشاعر ــ بفعل تأثُّره بتلك الصورة ــ رسم ذلك المشهد بأسلوبه، ولكن يبقى فيه رسيس أثرٍ لا يهتدي إليه القارئ من خلال كلمات هذا النص، وإنَّما بإدراكه المعاني الكُلِّية لتفاصيل ذلك المشهد، فيربط هذا بذاك ذهنِّياً، وهذا ــ بحسب رأي الباحث ــ أروع التناصَّات وأبدعها، ومن الأمثلة على ذلك في شعر السيد حيدر الحلي قوله واصفًا الإمام الحسين في لحظاته الأخيرة (42):
تزيدُ الطلاقةُ في وجهِهِ إذا غيَّر الخوفُ ألوانَها
ولمَّا قضى للعُلى حقَّها وشيَّد بالسيف بُنيانَها
ترجَّل للموت عن سابقٍ له أخلت الخيلُ ميدانَها
ثوى زائدَ البِشر في صرعةٍ له حبّبَ العزُّ لُقيانَها
وهذا المشهد الذي يُعدُّ أكثرَ مأساوية في مشاهد واقعة الطف، جعله الشاعر أكثر المشاهد عُنفواناً وبطولةً، حتى يُخيَّل للقارئِ أنَّ الشاعر ليس بصدد رثاء الإمام؛ لما فيه من بثٍ لمعاني البهجة والفرح بالانتصار الساحق، وهذا يستدعي تلك المرثية العظيمة التي غرَّدت خارج سرب القصائد الرثائية في الشعر العربي القديم (43)، التي قالها أبو تمام (ت 231 هـ) في مُحمَّد بن حُميد الطوسي، ومنها (44):
وقد كان فوتُ الموت سهلاً فرَدَّهُ إليه الحفاظُ المُرُّ والخُلُقُ الوَعْرُ
ونفسٌ تعافُ العارَ حتَّى كأنَّهُ هو الكفرُ يومَ الروعِ أو دونَهُ الكُفْرُ
فأثبتَ في مُستنقعِ الموتِ رجلَهُ وقال لها من تحت أخمُصِكِ الحشْرُ
تردَّى ثيابَ الموتِ حمُرًا فما أتى لها الليلُ إلّا وهي من سُنْدسٍ خُضْرُ
وكذلك في قوله في إحدى مرثيَّاته للإمام الحسين (عليه السلام) موجِّهاً اللوم لقومه على إيثارهم السلامة والعافية، واكتفائهم بذرف الدموع ولطم الصدور، بدلاً من القيام بالسيف في وجه الولاة الظالمين وأخذ الحقوق التي لا تُنال إلا بالتضحيات الجسام (45):
أَفَلطمًا بالراحتينِ؟ فهلَّا بسيوفٍ لا تتقيها دروعُ
وبكاءً بالدمع حزنًا فهلاّ بدمِ الطعنِ والرماحُ شروعُ
وصورة المواساة (النمطيَّة) التي يرفض الشاعرُ ركونَ قومِهِ إليها، إنَّما يُذكِّرنا بتلك المواساة (الثوريَّة) التي نقلتها كتب الاختيارات الشعرية عن عامر بن عمارة المُرّي المُكنّى بأبي الهيذام (ت: 182ه) (46) يرثي أخاه (47):
سأبكيكَ بالبِيْضِ الرِّقاقِ وبالقَنا فإنَّ بها ما يُدرِكُ الطالبُ الوِتْرا
ولستُ كَمَنْ يبكي أخاهُ بِعَبْرةٍ يُعصِّرُها مِنْ ماءِ مُقْلَتِهِ عَصْرَا
ولَكَنْ أُرَوِّي النَفْسَ مِنِّي بِغَارَةٍ تَلهَّبُ فِي قطري كتائبُها جمرا
وإنَّا أناسٌ لا تفيضُ دموعنا على هالكٍ منّا وإن قصمَ الظهرا
وغير ذلك من الشواهد الكثيرة في شعر السيد حيدر التي إنْ دلَّت على شيء فإنَّما تدلُّ على اغترافه من الموروث الشعري القديم، وتمثُّله له بطرائق متنوِّعة تثبت براعتهُ في نظم الشعر، وهذا ممَّا يُحسَبُ له، وهذا الأمر الذي نثبتهُ للشاعر يُشكّل تضعيفاً لوجهة نظر بعض الباحثين لشعر السيد حيدر ــ ومنهم الدكتور علي عباس علوان ــ التي تذهب إلى ((أنَّ تعامل السيد حيدر مع شعر الشريف ومهيار لا يجيءُ على شكل معارضات لأشهر قصائدهما)) (48)، والسبب الذي ارتكزت عليه هذه النظرة (المُجحِفة) لشعر السيد حيدر تتجلَّى في ((قلَّة حظِّه من الجزالة والقُوَّة لا تُمكِّنهُ من مُجاراة النماذج العالية، وإنَّما هو يلقطُ منها أبرز معانيها في بضعة أبيات)) (49)، ويبدو لي أنَّ هذا القول لا يمكن قبوله في توظيف الجيد من التراث الشعري، وعدم التقيُّد بمحاكاة النصِّ كلِّه، وهذا ما جعل صاحب القول الآنف الذكر يقع في تناقضٍ واضح، إذ يستطرد بعد كلامه الآنف الذكر بقوله: ((وكثيراً ما ينسى شاعرُ هذا القرن تجربته فيأخذ بالنموذج الموروث حتَّى يُضمِّنَ معظمه في شعره فإذا بالصور والأنغام والقوافي وحروف الرويِّ والتراكيب كما وردت عند الشاعر القديم)) (50)، وهذا الكلام لا يمكن أنْ ينطبق على شعر السيد حيدر في ضوء ما قدَّمناه، إذ لم نجد محاكاةً حرفيَّةً احتذاها السيد حيدر للشعراء السالفين، فعلامَ ــ إذن ــ نتجنَّى على جزالةِ شاعريتهِ؟ وهو الذي بذَّ أقرانه في عصرٍ ازدحم بالشعراء، وكان هو الأبرز بينهم.
2 ــ شعرية المفارقة في الرثاء الحسيني عند السيد حيدر الحلي:
بدءاً نُذكِّر أنَّ مصطلح المفارقة أخذ مدلوله الحالي بتأثير الدرس النقدي الغربي، وقد انسرب إلى الدراسات النقدية العربية الحديثة بهذه التسمية، على الرغم من أنَّنا لا ننكر أنَّ هناك من تنبَّه له ولكن ليس بهذه التسمية، وإنما ورد بتسميات مثل: التورية، والتهكُّم، والسخرية، وتجاهل العارف، ومخالفة الظاهر، وتأكيد المدح بما يشبه الذم والعكس، والهزل الذي يُرادُ به الجدُّ. أمَّا مفردة (المفارقة) في اللغة فهي اسمُ مفعولٍ من (فارق) وجذرها الثلاثي (فرَقَ) ومصدرها (فَرْق).
أمَّا من حيث الاصطلاح فهي من الكثرة تُشكِّل مفارقةً في الدرس النقدي، ونحن إذ نبغي الاختصار نكتفي بأهمِّ تلك التعريفات، ومنها قول الدكتور (عبد الواحد لؤلؤة) عن المفارقة: إنها صيغة بلاغية تعبر عن القصد باستعمال كلمات تحمل المعنى المضاد، ويكون إدراكها يتطلب ذكاء وحسا مرهفا (51)، وغير بعيد عن ذلك ما رأته الناقدة (نبيلة إبراهيم) من أنَّ المفارقة فن لغوي بلاغي يرتكز على تحقيق العلاقة الذهنية بين الألفاظ (52)، أما (سيزا قاسم) فترى أن المفارقة تعبير غير مباشر يقوم على التورية، والمفارقة في كثير من الأحيان تراوغ الرقابة بأن تستعمل على السطح قول النظام السائد نفسه بيد أنها تحمل في طياتها قولاً مغايراً له غالباً ما ينطوي على النقد (53).
ولتبيان هذه المفاهيم بشأن المفارقة نورد قول السيد حيدر مخاطباً طرفي الصراع (الهاشمي/ الأموي) الذين رمز لهم قبائلياً وهما يعنيان لديه ولدى المُتلقِّين طرفي (الحق / الباطل) بقوله (54):
قوِّضي يا خيامَ عليا نزارٍ فلقد قوَّض العمادُ الرفيعُ
واملئي العينَ يا أُميَّة نوماً فحسينٌ على الصعيدِ صريعُ
وهذا من المفارقات التي تلفت المُتلقّي أنَّه يريد عكس ظاهر خطابه؛ ولكنه يريد تحريك المجتمع الإسلامي الذي يدّعي الانتماء إلى مذهب أهل البيت، ولكنه آثر السلامة والعافية على الوقوف بوجه الولاة الظلمة، فيلتجئ إلى خطابٍ مُعاكسٍ، فيوظِّف فعل الأمر مع بيان سبب صدور ذلك الأمر، وهذا الأمر يفعل في النفس أثره المضاد بأشد زخما من الدعوة المكشوفة إلى الثورة (55). وكذلك تتَّضح المفارقة في بيت آخر يصف ما يحتاج إليه من دواءٍ ليس من طبيعة الأدوية التي اعتاد المرضى على تناولها، وذلك بقوله (56):
لا بدَّ أن أتداوى بالقنا فلقد صبرتُ حتَّى فؤادي كلُّهُ ألمُ
فالقنا (الرماح) هي الدواء! أي أنه يقصد أنَّ التعلل بالصبر عن هضم الحقوق واستلابها، لا ينفع شيئاً، بل يعود على صاحبه بمزيدٍ من الألم، فانتهاء هذه الحالة المأساوية لابُد له من الثورة التي تضمن لصاحبها استرداد الحقوق إلى أهلها، أمَّا الصبر أو ((الركون إلى الدمع فإنَّه سلاحٌ لا مكانَ له هنا وإنَّما المكان للسلاح)) (57)، فهو الدواء الناجع له وللمجتمع بصفة عامة.
وقد تفنَّن النُقاد والدارسون في تعداد أنواع المفارقات في النصوص الشعرية والنثريَّة، وهذا ليس من باب الترف الفكري، وإنما ضرورة أملتها طبيعة النصوص الخاضعة للتحليل، ولذا سنقف عند أبرز أنواع المفارقات في شعر الرثاء الحسيني عند السيد حيدر الحلي، وهي مفارقة الموقف؛ وذلك لأنَّ شعر الرثاء الحسيني إنَّما بُنِيَ على موقفٍ لم يكن له مثيل في الدهر، وهو يوم الطف الذي استشهد فيه الإمام الحسين (عليه السلام) وثلة من أصحابه، ومن ثَمَّ قام أعداؤهُ بفنون من التنكيل والتعذيب به وبأهل بيته، ممَّا هو ليس بخافٍ على أحد، وسنقوم باستعراض جملة من تلك المفارقات التي رصدتها عدسة الشاعر الحلي، مُظهرين مواطن الإدهاش الذي يغذِّي شعرية النص، ويجعل قارئه مُنشدًّا بحيوية لما يرسمه الشاعر، وكأنَّ المأساة التاريخية التي حدثت قبل أكثر من ألف عام، لم يسمعها إلَّا عند قراءته شعر السيد حيدر. ومن تلك المواقف:
- الوقوف عند شخص الإمام الحسين وأهل بيته (عليهم السلام):
حين ينفرد السيد حيدر بشخص الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته تراه يحار من أي زاويةٍ يتناولهم، وله العذر في حيرته؛ إذ ماذا يصف ويمتدح من فضائلهم، وقد امتدحهم الله في كتابه العزيز، ولكنَّه لا يلوي عنان قلمه عجزًا عن أداء مهمته الشعرية، فيلجأ إلى تشكيل مفارقةٍ ضِدِّية بين طرفي المعركة غير المتكافئة، وهما: آل هاشم أهل البيت النبوي ممثَّلًا بالإمام الحسين (عليه السلام)، وآل بني سفيان الذين عُرِفوا بكُلِّ رذيلة، وكلِّ ما هو عارٌ قبل الإسلام وبعده، فيصف أهل البيت بقوله (58):
وهم خيرُ مَن تحت السماء بأسرهم وأكرمُ مَن فوق السماء وأشرفُ
وهم يكشفون الخطب لا السيف في الوغى بأمضى شباً منهم ولا هو أرهفُ
إذا هتف الداعي بهم يومَ من دمِ الـ ـفوارسِ أفواهُ الضُبا تترشَّفُ
أجابوا ببيضٍ طائعاً يقف القضا إلى حيثُ شاءت ما يزال يُصرّفُ
فأهل البيت (عليهم السلام) هم خير من تحت السماء وأكرم مَنْ فوقها، وهم الذين يكشفون المواقف الصعبة التي تحول بمن يستجير بهم، فالقضاء طوعُ أمرهم يُصرِّف الأمور إلى حيثُ يشاؤون، ولكن يخونهم القضاء في يوم الطف، إذ يتركهم والمنايا تختطف أرواحهم بسيوف أعدى خلق الله، فلم تشفع لهم سطواتهم التي هزَّت سمع الدهر (59):
لهم سطوات تملأ الدهرَ دهشةً وتنبث منها الشمُّ والأرض ترجفُ
عَجِبتُ لقومٍ مِلءُ أدرعهم رَدًى ومِلء ردائيهم تُقًى وتعفّفُ
يَغُولُهُمُ غُولُ المنايا وتغتدي بأطلالِهِمْ رِيحُ الحوادثِ تَعصِفُ
كرامٌ قضوا بين الأسنَّة والضُّبا كِراماً ويوم الحرب بالنقع مُسدِفُ
وعلى الرغم من شِدَّة ذلك اليوم المأساوي عليهم إلا أنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكنْ إلَّا كأبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي شهدت له ساحات الوغى بصولاته وجولاته، وهذا ما كان هاجساً عند أعداء الحسين إذ إنَّهم تردَّدوا كثيراً قبل قتله، خوفاً من شدَّة بأس الإمام حتى ولو كان مطروحاً على رمضاء الطف يجود بنفسه، وهذا ما ألفتنا إليه السيد حيدر بقوله (60):
فبات بها تحت ليلِ الكفاح طروب النقيبةِ جذلانَها
وأصبح مُشتجراً للرماح تحلّي الدِما منه مُرّانها
عفيراً متى عاينته الكماةُ يختطف الرعب ألوانَها
فما أجلت الحربُ عن مِثله صريعاً يجبّن شُجعانَها
ففي هذه الأبيات تبرز المفارقةُ جليَّةً حين تجد أنَّ المقتول يأخذ دور المنتصر وذلك عبر عدم اكتراثه بكثرة عدد أعدائه، وهذا ما جعله طروبًا بذكر الله مُستأنسًا بمناجاته مع حبيبه وهو في حال كونه مُشتجرًا لرماح أعدائه، ولكن بقي على رغم التراب مُخِيفًا للكُماة الذين يُعرفون بالبطولة، فكلَّما رأوهُ على هذه الحالة جعل الرعب يختطف ألوان وجوههم فرَقًا منه، فهنا تحدث (الفجوة / مسافة التوتُّر) حين يكون المقتول صريعًا على الأرض وفي الوقت نفسه يكون بطلاً يملأ أعدائه جُبنًا وذُعرًا منه.
وفي قصيدةٍ أخرى يقف السيد حيدر مُصوِّرًا تلك الثنائية غير المُتكافئة، حين يطمع أعداؤهُ أن يذيقوهُ الذُلَّ بالانقيادِ لطاعة أميرهم الفاسق يزيد، وهذا أبعد ما يتوقَّعه المسلم أن يصدر من سليل بيت العزِّ والشجاعة والإباء، فضلاً عن كونه الإمام المفترض الطاعة من قبل الآخرين، فكيف يُفرَض منه أن يطيع هوى الآخرين ممَّن غصبوا مقاليد الحكم وعثوا في البلاد والعباد ظُلمًا وفسادًا، لنقرأ ما سطَّرته يراعة السيد الحِلِّي بقوله (61):
طمعتْ أن تسومه الضيمَ قومٌ وأبى الله والحسامُ الصنيعُ
كيف يلوي على الدنيَّة جيداً لِسوى اللهِ ما لَوَاهُ الخُضوعُ
فأبى أن يَعيشَ إلاَّ عزيزاً أو تجلَّى الكفاحُ وهو صريعُ
فتلقّى الجموعَ فرداً ولكنْ كُلُّ عضوٍ في الروع منه جموعُ
رُمحُهُ مِن بَنانهِ وكأَن مِنْ عزمِه حدُّ سيفه مطبوعُ
زوّج السيفَ بالنفوس ولكنْ مهرُها الموتُ والخضابُ النجيعُ
يصطدم ذهنُ القارئ حين يجد أنَّ كفَّتي المعركة تُشكِّل مفارقةً بحدِّ ذاتها، إذ كيف يمكنُ أنْ يتلاقى جيش وصفه السيد بقوله (62):
بجمعٍ من الأرض سدَّ الفروجَ وغطَّى النجودَ وغيطانَها
تتجلَّى المفارقة بوضوح في هذا النص حين تجد أنَّ الجموع تُجابه شخصًا واحدًا، وأنَّ هذا الشخص الواحد يُقابل تلك الجموع بمفرده، ولكنَّه أيضًا لديه جموعٌ من العزم والتحدِّي الذي باستطاعته أنْ يقابل بأس تلك الجموع ببأسٍ أشدَّ منه، فكلُّ عضوٍ أضحى جمعًا، فبنانهُ رُمح، وعزمه القاطع على الثبات بتلك المبادئ أضحى سيفًا قاطعًا لكلِّ آمال الجموع الطامعة بإذلاله وإرغامه على بيعة الباطل، ومن ثمَّ كانت المفارقة واضحةً بأن أخبر الشاعر عن تلك الصولات التي شنَّها الإمام الحسين (عليه السلام) على أعدائه جاعلاً أجواء تلك المعركة تشعُّ بالبهجة التي أعلنت زواج سيف الإمام بنفوس أعدائه، وكان مهرُ ذلك الزواج الموت الزؤام لهم، أما الخضاب فكان نجيع دمائهم التي أراقها ذلك السيف الذي استعار عزم صاحبه.
ومن المفارقات التي رسمها السيد حيدر لأنصار الحسين هو ذلك التهافت على إتلاف أنفسهم فداءً لإمامهم، وكأنَّهم في سباق مع المنايا، إذ قال (63):
يتسابقون إلى الكفاح ثيابُهم *** فيها وعِمّتهم قناً وشِفارُ
متنافسين على المنيَّة بينهم *** فكأَنَّما هي غادةٌ مِعطارُ
فقد تمثَّلت المفارقة في هذا النص من تسارع الأنصار على ورد حياض المنية، على حين جرت الفطرة الإنسانية على الهرب من الموت، بل أكَّد عليه الشرع الحنيف بقوله سبحانه: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، (64) أما هؤلاء فقد أيقنوا أنَّ نجاتهم في الآخرة هو أن يموتوا في سبيل نصرة الإسلام المتمثِّل بالحسين (عليه السلام)، فكأنَّ صورة الموت التي تسارعوا عليه فتاةٌ حسناء تزَّينت في عيونهم بأبهى الحلل وتعطَّرت بغوالي العطور. ومن الطريف أن نتطرق إلى بيتين في القصيدة نفسها، حاول الشاعر فيهما أنْ يُجلِّي لقارئه سمة المفارقة، إذ وقف على ثنائية (الحر/ العبد) وهي معلومة لدى القارئ بارتكازاتها التي تشي بكثير من التمايزات العِرقية التي يكون على أساسها معيار المعاملة والتقييم المادي والمعنوي، ولكنه ابتعد عمَّا هو متعارف عليه، حين جعل أصحاب الحسين بين ليلةٍ وضحاها يتحوَّلوا من عبيدٍ إلى أحرار، مع احتفاظهم بالسمة الأولى، لنسمعه يقول (65):
سمةُ العبيدِ من الخشوع عليهِمُ لله إن ضمتهم الأَسحارُ
وإذا ترجَّلت الضحى شهدت لهم بيضُ القواضب أنَّهم أحرارُ
فالعبوديَّة التي اتَّسم بها الأنصار الحُسينيون لم تكن إلا لخالقهم، ولذا كان أثرُها جليًّا في صباح يوم العاشر من المحرّم حين وقفوا بين يدي مولاهم الحُسين وأبانوا بصدق كفاحهم أنَّهم أحرارٌ من أهوائهم الشخصيَّة والميول الدنيوية التي تفضي بصاحبها إلى الاستئثار بالنفس من أجل البقاء في عالم الدنيا، فهم عبيدٌ لله وأحرارٌ من أهوائهم، ولكنَّ الذي شكل المفارقة توظيف هذه الثنائية التي مارست حضورها الذهني بدلالةٍ أخرى لدى المتلقي.
- المفارقة في موقف أعداء الحسين:
إن موقف أعداء الحسين منه يُشكّل مفارقةً بسلوكهم المنحرف عن جادة الصواب مع ادِّعائهم أنَّهم ينتمون للدين الإسلامي، وها هم يتسابقون على قتل الإمام الذي شاد جدُّه أعمدة الدين الحنيف، وقاتل كلَّ من أراد طمس معالمه، فيجدر أنْ يُقابلَ بالإحسان والمودَّة لذريّته لا أنْ تُسفك دماؤهم وتُسبى نساؤهم فبهذا الفعل الشنيع فارقوا كل قيم الإسلام، وإن تظاهروا بها نفاقًا، وهذا ما جعل الشعراء يُصوِّرون مدى جسامة الموقف العدائي السافر لهؤلاء القتلة الذين منَّ الرسول على أجدادهم يوم فتح مكَّة بالعفو والصفح فهم الطلقاء أو (مسلمة الفتح)، وإلَّا لكانوا في عداد الموتى، وهذا الموقف استدعى شاعرنا السيد حيدر أن يُحاكم بني أمية بقوله (66):
فسلْ عبدَ شمْسٍ هلْ يرى جُرمَ هاشمٍ إليهِ سوى ما كان أسداهُ من يَدِ
وقُلْ لأبي سفيانَ ما أنتَ ناقمٌ أأمنُكَ يوم الفتح ذنبُ محمَّدِ
فكيف جَزيتم أحمدًا عن صنيعهِ بسفكِ دم الأطهار من آلِ أحمدِ
غداةَ ابنُ بنتِ الوحي خرَّ لوجهه صريعاً على حرِّ الثرى المتوقّدِ
... دَرَتْ آلُ حَرْبٍ أنَّها يومَ قتله أراقت دمَ الإِسلام في سيف مُلحدِ
في هذه الأبيات بدت المفارقة على نحو الاستفهام الاستنكاري لردِّ الجميل الذي صنعه الرسول (صلى الله عليه وآله) مع أعدائه، فكان جزاء هذا الجميل أن يُقتلَ ابنُ بنته، وهذا ما يكشِفُ إلحادهم في الدين، وبقاءهم على الكفر والضلال.
أما حال أعداء الحسين فقد شكَّل مفارقة، إذ وصف السيد حيدر حال شجعانهم (67):
فالشوسُ تأنسُ بالفرارِ كما بالموتِ منهُ تأنسُ النفسُ
ويرومُ كلٌّ سبقَ صاحبِه هرباً فيسبق جسمه الرأسُ
وبيان هذه المفارقة أنَّ الأُنس حاصِلٌ عند الطرفين، وهذا ممَّا يُشكِل في استساغة فهمه لأوّلِ وهلة، وتزداد حدَّة المفارقة حين نقرأ عجز البيت الأول، بأن النفس تأنس بالموت، والمُعتاد عليه أنَّ النفس تأنس بالحياة وتطمئن لها، أما أن يكون الموت مُؤنسًا للنفس، فهذا ممَّا يُعَدُّ مفارِقًا للفهم السائد، ولكن تزول غرابة هذه المفارقة حين نجد أن النفوس الزكية لأهل بيت العصمة تأنس بقرب الله بخلاف نفوس سائر البشر الذين يطمئنُّون بالعيش في هذه الحياة الدنيا، ألم يصف ضرار أمير المؤمنين (عليه السلام) بأنه ((يَسْتَوْحِشُ مِنَ الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا)) (68)، بل ألم يقل أمير المؤمنين (عليه السلام) نفسُه: ((والله لابن أبى طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه)) (69)، ومن الطبيعي أن يكون الإمام الحسين (عليه السلام) على طريق والده.
- المفارقة في موقف نساء أهل البيت (عليهم السلام):
من أشدِّ المواقف مفارقة بين مواقف يوم عاشوراء، هو ما حدث للنسوة التي صحبهنَّ الإمام الحسين إلى كربلاء، ولذا كان قرار الإمام بأن يأخذ النسوة معه صادماً لأذهان من كان حوله في المدينة (70)، وهذا النمط من التفكير لم يكن يُدرك المغزى الرئيس الذي تحرَّك الحسين من أجله، فلذا تفنَّن الشعراء ومنهم السيد حيدر في رسم صورة المآسي التي أصابت نسوة آل البيت بعد قتل حُماتهنَّ، وما كانت عليه حالهنَّ قبل ذلك المُصاب الجلل، ممَّا شكَّل مفارقةً حادَّة بين حالين قبل المعركة وبعدها، فقال السيد حيدر مُصوِّرًا تلك المفارقة لحال نسوة آل البيت ممَّن أتى بهنَّ إلى كربلا (71):
وأمضُّ ما جرَعَتْ مِنَ الغُصَصِ التي قَدَحَتْ بِجَانِحَةِ الهُدى إيراءَها
هَتْكُ الطُغاةِ على بناتِ محمدٍ حُجُبَ النبوَّةِ خِدْرَها وخِباءَها
عَجَباً لِحِلْمِ اللهِ وهي بعينهِ برزتْ تُطيلُ عويلها وبُكاءَها
حالٌ لرؤيتها وإن شمت العدى فيها فقد نحت الجوى أحشاءَها
في هذه الأبيات تكمن المفارقة في حال نسوة آل البيت التي اعتدى عليهنَّ الأعداء بحرق الخيام التي كُنَّ يأوين فيها، ولم يكتف الأعداء بذلك بل أقدموا على انتهاب الخيام التي أوينَ فيها، وسلب ما عليهنَّ من حلي، كلُّ هذا يجري عليهنَّ وهُنَّ مَنْ عُرِفن بالاحتجاب عن الأجانب، والآن بعد مقتل حُماتها برزن من خدورهنَّ مُذلَّلاتٍ بعد ذلك العزِّ الذي كُنَّ عليه مع الحسين وسائر الأنصار، وفي قصيدة أخرى يقول السيد حيدر واصفا مأساة نساء آل البيت (عليهم السلام) (72):
وحائراتٍ أطارَ القومُ أعيُنَها رُعباً غداة عليها خِدرَها هَجموا
كانت بحيثُ عليها قومُها ضربت سُرادِقاً أرضُهُ من عزِّهم حرمُ
يكادُ مِنْ هَيْبَةٍ أنْ لا يطوفَ به حتَّى الملائكُ لولا أنَّهُمْ خَدمُ
فغودِرَتْ بين أيدي القوم حاسرةً تُسبى وليس لها مَن فيه تَعتصِمُ
يُصوِّر الشاعر روعة المشهد المأساوي الذي حلَّ بحريم الإمام الحسين، إذ تمثَّلت المفارقة في ما حلَّ بهنَّ وما كانت عليه حالهنَّ، فالأعداء هجموا على خدرها عُنوةً فكان من الطبيعي أن يطير النوم من أعينهنَّ رُعبًا، وهُنَّ بالأمس كُنَّ في عزِّ حُماتهنَّ الذين ضربوا سرادق العزِّ فتهابه حتى الملائكة من أن تطوف بسرادقهنَّ، لولا أنَّها – أي الملائكة- تقوم بخدمتهم، ولكن ما حدث الآن يكشف انقلاب تلك الحال، فهنَّ الآن حواسرُ مسبيَّات، ولا أحد من حماتهنَّ يعتصمن به، وهذه من أعظم الرزايا التي حلت بآل البيت، وهذا من أجلى مظاهر المفارقة التي تعكس ((التناقض بين الإنسان بآماله ومخاوفه وأعماله وبين القدر المظلم العنيد يقدم مجالاً واسعاً للكشف عن المفارقة المأساوية)) (73) ويؤكد هذا المعنى قوله (74):
بأبي كالئاً على الطفِّ خِدراً هو في شفرة الحسم منيعُ
قطعوا بعده عُراه ويا حبـ ـلَ وريدِ الإِسلام أنت القطيعُ
وسروا في كرائم الوحي أسرى وعداك ابن امِّها التقريع
لو تراها والعيس جشَّمَها الحا دي من السير فوق ما تستطيع
فترفَّق بها فما هي إلاَّ ناضرٌ دامعٌ وقلبٌ مروعُ
لا تَسُمْهَا جذبَ البُرى أَوَ تَدري ربَّةُ الخِدْرِ ما البُرى والنُسوعُ؟
إن المفارقة التي تجسَّدت في النص تعكس لنا جسامة الحدث المؤلم على نساء أهل البيت (عليهم السلام)، فحين تقطَّعت عُرى الخباء الهاشمي بقتل الحسين كانت الفرصة سانحةً لأعدائه بالهجوم على مخيمَّهِ، والاعتداء على نسائه بالضرب والسلب، ومن ثمَّ أخذهنَّ أسرى يقطعن الصحاري الطويلة إلى الخليفة الفاجر يزيد (لع) لكي يشمت بهنَّ، ولذا وصف الشاعر يوم سَوقِ نساء الإمام الشهيد بأنَّه أجلُّ يومٍ في الإسلام، بقوله (75):
وأَجلُّ يومٍ بعد يومك حلَّ في الـ إِسلامِ منه يشيبُ كلُّ جنينِ
يومٌ سرتْ أسرى كما شاءَ العدى فيه الفواطمُ من بني ياسينِ
أُبرزن من حرم النبيّ وإنَّه حرمُ الإِله بواضحِ التبيينِ
من كلِّ محصنةٍ هناك برغمها أضحت بلا خدرٍ ولا تحصينِ
سُلبت وقد حجبَ النواظرُ نَورُها عن حُرّ وجهٍ بالعفاف مصونِ
فغدت بهاجرة الظهيرة بعدما كانت بفيَّاح الظِلال حصينِ
وفي هذه الأبيات نجد أنَّ المفارقة تتجلَّى بإبراز نساء أهل البيت من الخدور التي ما كان لها أن تُهتَك لولا قتلُ الأقمار من آل محمَّد، فكانت الفاجعة بأن يصِرْن رهن مشيئة العدى، فالمُحصنات أضحت بلا خدر ولا تحصين، وأنَّى لهنَّ وقد سُلِبْنَ وعُرِّضْنَ للإيذاء، ولكن هذا لا يعني أنَّهُن امْتُهِنَّ إلى ما هو مُتعارف عند الأذهان حين تُسبى نساء قوم، فيكنَّ بعد ذلك جواري للخدمة، وهنا مفارقةٌ عظمى يصورها الشاعر بإبراز عظمة هذه النساء، وذلك بجعلِ عفافهنَّ العلوي نوراً خطف نواظر القوم وصرفه عنهنَّ، بقوله: (سُلِبت وقد حجب النواظرَ نورُها) فالسَلْبُ تحقَّقَ وفي الوقتِ نفسهِ تحقَّقَ السترُ بجلال نور الله لأوليائه، وهذا مُفارِقٌ لما هو معروف في مثلِ هذه الحالة.
ومن المواقف التي شكّلت مفارقّةً ضِدّية لدى الشاعر وهو يتتبّع مسير نساء الإمام الحسين (عليه السلام) أنّه يجد مثول هذه النسوة إزاء الطاغي يزيد، وهذا ما يستدعي مزيداً من الأسى المُوجب لإزالة القلب عن مستقرّه، ويترك الغيظ مشتعلاً في الصدر، ومن المعروف أنَّ المتناقضين لا يجتمعان، وهذا الموقف يمثّل اجتماع نقيضين تمثّلا بقُطبي الكفر (يزيد الطاغي) والإيمان (نساء أهل البيت)، وهذا المشهد صوّره لنا السيد حيدر بقوله (76):
وممَّا يُزيل القلبَ عن مُستقرّه ويترك زندَ الغيظِ في الصدر واريا
وقوفُ بنات الوحي عند طليقِها بحالٍ بها يُشجينَ حتَّى الأعاديا
ففي هذا النص تشتدُّ وتيرة المفارقة حدَّة؛ لأنَّها صورت وقوف بنات الوحي والرسالة إزاء الطاغية وهن أسارى، ومن المعروف أن هذه النساء تمثِّل قطب الحق الذي لا يلتقي أبدًا مع قطب الباطل، فهما ((على طرفي نقيض من بعض، والإشكاليَّة تكمُنُ عبر الجمع بينها، وهو ما يستدعي تفاعلاً دلاليًّا مُعيَّنًا)) (77).
وفي هذه النماذج التي استعرضناها وغيرها من النماذج التي تصوِّر مشهد نساء أهل البيت بعد الواقعة وما كُنَّ عليه قبلها، يلاحظ المُتأمِّل أنَّ هذه المشاهد شكَّلت مفارقة في طريقة رسم السيد حيدر لمأساة يوم الطف، إذ تميَّزت أجواء الرثاء الحسيني لديه بالعزَّة والشمم حتى يكاد لمن يقرأ شعره من دون الرجوع إلى المتن التاريخي، أنَّ النصر الواقعي - أو ما يوصف بالنصر المادي- قد تحقَّق للإمام الحسين، ولكنَّه ــ أي القارئ ــ ما أن يصل إلى حال النساء وما جرى عليهنَّ، ينكسرُ أفق توقُّعه، وتنخذل مسارات استشرافه نهايات الحدث بالصور المهولة التي ترسمها مخيلة الشاعر، وهذا ــ برأي الباحث ــ شكَّل مفارقة فنِّية تجلَّت في صوغ جوانب الواقعة بشكل ((يبدو معه المشهد متماسكاً موحَّداً وإنْ تعدَّدت مقوماته، فمثلاً قلَّ أنْ يجتمع الفخر والتفجع وقد جمع بينهما. كما أنَّ لغة الموتور لا تلتقي مع لغة التقييم وقد التقت عنده، وكذلك الرثاء والغزل يندر اجتماعهما وقد جمعهما وسلك كلَّ ذلك في صيغة يؤطِّرها النوح الموتور وصدق العاطفة البعيد عن التعمُّل)) (78).
وفي ختام ما استعرضناهُ من أشعار رثائية للسيد حيدر الحلي، يتبيّن لنا مدى القدرة الفنية التي تجلّت في شعريّته، وجعلت من شعرهِ الرثائي في الحسين (عليه السلام) يتميّز على سائر فنون الشعر التي طرقها؛ وذلك للأسباب التي عرضنا لها فيما سبق، وهي كفيلةٌ بتقديمه على جميع شعراء عصره.
...........................................................
1 ــ الشعرية العربية في التراث النقدي، حسين مزدور، بحث في مجلة الموقف الأدبي الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق، العدد 414 لسنة 2005 ص 58
2 ــ بلاغة الخطاب وعلم النص، د. صلاح فضل ص 69
3 ــ ينظر: قضايا الشعرية ص 28 ــ 31، وينظر: نظرية التوصيل في النقد الأدبي العربي الحديث، سحر كاظم الشجيري ص 267
4 ــ ينظر: ظ: مفاهيم الشعرية ص 12 وما بعدها.
5 ــ ينظر: ديوان السيد حيدر الحلي ص 15
6 ــ ينظر: النص الغائب - تجليات التناص في الشعر العربي ـ محمد عزام ص 20
7 ــ التناص نظريا وتطبيقا، د. أحمد الزغبي ص 11
8 ــ المصدر نفسه ص 11
9 ــ نهضة العراق الأدبية في القرن الثالث عشر للهجرة ص 53
10 ــ البابليات ج 2 ص 157
11 ــ ديوانه ص 135
12 ــ ديوان الشريف الرضي، دار صادر، بيروت، 1961م: 1/ 490 . وأشير أني لم أتناول الطبعة العلمية المحققة من ديوان الشريف الرضي بتحقيق الدكتور محمد مضر الحلو؛ لأنّها غير كاملة الأجزاء، فلذا قصدنا طبعة دار صادر؛ لاستيفائها شعر الشريف الرضي.
13 ــ ديوانه ج 1 ص 153
14 ــ ديوان الشريف الرضي ج 2 ص 426
15 ــ ديوانه ج 1 ص 107
16 ــ ديوان الشريف الرضي ج 1 ص 429
17 ــ شعراء النصرانية، جمعه ووقف على طبعة وتصحيحه: رزق الله بن يوسف بن عبد المسيح بن يعقوب شيخو، مطبعة الآباء المرسلين اليسوعيين، بيروت، 1890م ج 3 ص 115
18 ــ ديوانه ج 1 ص 151
19 ــ ديوان الشريف الرضي ج 2 ص 348
20 ــ ديوانه ج 1 ص 111
21 ــ ديوان الشريف الرضي ج 1 ص 428
22 ــ ينظر: حياة الحيوان الكبرى، كمال الدين الدميري ج 2 ص 474، 515
23 ــ ديوانه ج 1 ص 124
24 ــ ديوان الشريف الرضي ج 1 ص 621
25 ــ شرح ديوان المتنبي، وضعه عبد الرحمن البرقوقي مج 1 ج 1 ص 223
26 ــ ديوانه ج 1 ص 123
27 ــ ديوان الشريف الرضي ج 1 ص 384
28 ــ سورة يوسف من الآية 84
29 ــ ديوانه ج 1 ص 99
30 ــ ديوان الشريف الرضي ج 1 ص 352
31 ــ ديوانه ج 1 ص 146
32 ــ ديوان الشريف الرضي ج 2 ص 204
33 ــ ديوانه ج 1 ص 111
34 ــ ديوان المتنبي مج 2 ج 2 ص 295
35 ــ ديوانه ج 1 ص 112
36 ــ ديوان ابن هاني الأندلسي ص 162
37 ــ ديوانه ج 1 ص 124
38 ــ ديوان العرجي، جمعه وحققه وشرحه: د. سجيح جميل الجبيلي ص 246
39 ــ الأصمعيات، اختيار الأصمعي ص 17
40 ــ ديوانه ج 1 ص 69 ــ 70
41 ــ سورة الكهف آية 95 ــ 96
42 ــ ديوانه ج 1 ص 159
43 ــ ذكر العباسي (ت: 963هـ) صاحب (معاهد التنصيص على شواهد التلخيص) أنَّه لما أنْشد أَبُو تَمام أَبَا دلف الْعجلِيّ قصيدته البائية الَّتِي أَولهَا: على مثلهَا من أَربع وملاعب ... أُذِيلتْ مَصونْاتُ الدُّموع السواكب، استحسنها وَأَعْطَاهُ خمسين ألف دِرْهَم وَقَالَ وَالله إِنَّهَا لدوّنَ شعرك ثمَّ قَالَ وَالله مَا مثل هَذَا القَوْل فِي الْحسن إِلَّا مَا رثيت بِهِ مُحَمَّد بن حميد الطوسي فَقَالَ أَبُو تَمام وَأي ذَلِك أَرَادَ الْأَمِير قَالَ قصيدتك الرائية الَّتِي أَولهَا: كَذَا فليجل الْخطب وليفدح الأَمر، .. إلخ وددت وَالله أَنَّهَا لَك فِيَّ، فَقَالَ بل أفدي الْأَمِير بنفسي وَأَهلي وأكون الْمُقدم قبله فَقَالَ إِنَّه لم يمت من رُثِيَ بِهَذَا الشّعْر. وهذا المعنى قد ورد مع السيد حيدر، إذ قال له السيد صالح القزويني حين سمعه يرثي أحد الأعلام: (إنَّ رثاءكَ يُحبِّبُ إلينا الموت)، ينظر: البابليات ج 1 ص 160
44 ــ ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق: محمد عبدة عزام ج 4 ص 80 – 81
45 ــ ديوانه ج 1 ص 126
46 ــ وهو عامر بن عمارة بن خريم الناعم بن عمرو بن الحارث الغطفانيّ المري، أحد فرسان العرب المشهورين. أصاب اليمانية منه في فتنتهم مع المضرية، في الشام وأطرافها، ما لم يصبهم من غيره. وكانت تزحف عليه الألوف من الجند والمقاتلة، وهو في العدد اليسير، فيصمد لهم حتى يهزمهم. ولم يذكر عنه أنه انهزم قط. واحتال عليه أحد ثقاته فقيّده، وحُمل إلى هارون الرشيد بالرقة، فعفا عنه وأطلقه. ينظر: الأعلام، الزركلي ج 3 ص 253
47 ــ الحماسة البصرية، علي بن أبي الفرج بن الحسن ج 1 ص 239 . ونُسبت هذه الأبيات لإبراهيم بن عبد الله بن الحسن في أخيه النفس الزكية حين قتل، ينظر: ربيع الأبرار ونصوص الأخيار، جار الله الزمخشري ج 4 ص 109
48 ــ تطور الشعر العربي في العراق – اتجاهات الرؤية وجماليات النسيج ص 63
49 ــ المصدر نفسه ص 63
50 ــ المصدر نفسه ص 63
51 ــ ظ: الترميز ـ موسوعة المصطلح النقدي ص 95 (هامش)
52 ــ ظ: المفارقة ـ بحث نبيلة إبراهيم ص 132
53 ــ ظ: المفارقة في القص العربي المعاصر ص 143
54 ــ ديوانه ج 1 ص 126
55 ــ ينظر: مناورات الشعرية، د. محمد عبد المطلب ص 212
56 ــ ديوانه ج 1 ص 150
57 ــ تجاربي مع المنبر، الشيخ الدكتور أحمد الوائلي ص 234
58 ــ ديوانه ج 1 ص 133
59 ــ ديوانه ج 1 ص 134
60 ــ ديوانه ج 1 ص 159 – 160
61 ــ ديوانه ج 1 ص 124
62 ــ ديوانه ج 1 ص 158
63 ــ ديوانه ج 1 ص 117
64 ــ سورة البقرة، من الآية: 195
65 ــ ديوانه ج 1 ص 119
66 ــ ديوانه ج 1 ص 99
67 ــ ديوانه ج 1 ص 121
68 ــ الأمالي، أبو علي القالي ج 2 ص 147
69 ــ نهج البلاغة، شرح: الشيخ محمد عبده ج 1 ص 41
70 ــ وذلك حين جاء محمد بن الحنفية إلى أخيه الحسين (عليه السلام)، في الليلة التي أراد الحسين الخروج في صبيحتها عن مكة المكرمة. فقال له: يا أخي إن أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى، فإن رأيت أن تقيم فانك اعز مَن بالحرم وأمنعه. فقال (عليه السلام): " يا أخي قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم، فأكون بذلك أول من تستباح به حرمة البيت. فقال له ابن الحنفية: فان خفت ذلك فصر إلى اليمن، أو بعض نواحي البر فإنك أمنع الناس به، ولا يقدر عليك احد. فقال (عليه السلام): أنظر فيما قلت. فلما كان السحر، ارتحل الحسين (عليه السلام) فبلغ ذلك ابن الحنفية فأتاه، واخذ بزمام ناقته، وقد ركبها، وقال: يا أخي ألم تعدني النظر فيما سألتك؟ قال (عليه السلام): بلى، قال: فما حداك على الخروج عاجلا. قال: أتاني رسول الله صلوات الله عليه وآله، بعدما فارقتك، فقال: " يا حسين أخرج فإن الله قد شاء أن يراك قتيلا، فقال ابن الحنفية: إنا لله وإنا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذا الحال؟ فقال عليه السلام: قال لي (صلى الله عليه وآله): " إن الله قد شاء أن يراهن سبايا، فسلّم عليه ومضى." اللهوف على قتلى الطفوف، ابن طاووس ص 27 - 28
71 ــ ديوانه ج 1 ص 71
72 ــ ديوانه ج 1 ص 153
73 ــ ينظر: المفارقة وصفاتها: دي. سي. ميويك ص 33، 34
74 ــ ديوانه ج 1 ص 125
75 ــ ديوانه ج 1 ص 165
76 ــ ديوانه ج 1 ص 168
77 ــ الإشارة الجمالية في المثل القرآني، د. عشتار داود محمد ص 165
78 ــ تجاربي مع المنبر: 228 .
اترك تعليق