التوحيد والصورة الذهنية عند الفنان المسلم..

 يعد التصور الإسلامي للكون تصوراً شمولياً لا يتناول جانباً دون آخر، فهو تصور لا يجعل الحواس معزولة عن الحياة بل يطلقها لتمتلئ بالحياة من كل شيء في هذا الكون الفسيح ويتصل بها اتصالاً مباشراً، وبالطبع فإن المسلمين لم يهملوا الطبيعة التعليمية والأخلاقية للفن، وإن لم تكن كلاهما تدرك إدراكاً مباشراً، اي بمعنى أن في العمل الفني الاسلامي معرفة كامنة تنتقل إلى نفوسنا من خلال استمتاعنا بالصورة الجمالية التي يحملها، لان للفن علاقته الخاصة بميدان الأخلاق وهو يرتبط بالخير، ولا غبار على ان الجمال والخير على وفاق دائم، لان الخطوط والصور، إنما هي صناعة تسندها الروح وهي صنعة يستعان عليها بالفكرة.

فالصورة الذهنية عند الفنان المسلم تمتلك طاقة للتشكل بصورة متوازنة بين المادة والروح وفقاً لطبيعة التوجه الإسلامي المجرد فتكون الصورة الماثلة صورة بسيطة غير مركبة، فالفنون الإسلامية تخلو من أي مضامين مباشرة ، فعندما يختفي الرمز فإن معناه الاستمرار ليشكل مفهوماً باطناً للرمز ورسالته، إذ أنَّ الرغبة والتوجه نحو مرضاة الله هو الشاغل الفعلي للفنان المسلم، بما يجعل ذلك الحس الديني يتجه نحو القدرة على التفريق بين الجمال المادي والجمال الروحي، أو الجمال الظاهر المدرك بالحواس والجمال الباطن الذي يدرك بالبصيرة، فالتجربة الجمالية ما هي الا استيعاب لكل أنواع المحسوسات والنفاذ إليها بالبصيرة والقلب، للوصول إلى الميل بالمتلقي إلى الرغبة في ابتداع الجمال وتذوقه في أكمل تحقق له بعد معرفة الخالق الواحد جل وعلا، لأن المعرفة هي شرط المحبة والجمال.

    تقدم الزخرفة الإسلامية استعارات معبرة عن الكون والوجود والانطلاق نحو اللامحدود، فهي تعبر عن نظام متفرد قابل للتكاثر والاستزادة والتنوع، إذ ينتقل المتلقي من خلال النظام الزخرفي من المجرد إلى مجموعة من المثيرات الحسية، وكأنه يراقب النظام الكوني المتوازن الذي يشابه التكوينات الزخرفية في توازنها وحركتها وروابطها التي تربط عناصره، فالزخرفة تسمو بالمتلقي من المجرد إلى المطلق.

ومن جانب اخر فقد أنشأ الفكر الفلسفة الإسلامي منظومته المعرفية والجمالية والفنية المتكاملة من خلال بحثه المتعالي عن أصول الأشياء ، وأسس الوجود التي تحكم تنوع وحركة الظواهر، بحيث يكون الله سبحانه وتعالى الجوهر الأساس الذي تنطلق منه المعاني وتفيض عن قدرته الموجودات، فهو الباطن الذي يحرك كل شيء بفعله وإليه تصير كل الأشياء بحكمته، وقد نسب الفكر الفلسفي الإسلامي للخالق جل وعلا قدرة الإبداع والخلق من العدم، فالله تعالى فوق الأشياء جميعاً وهو ليس متناهياً تقاس عظمته بقوته وقدرته لا بالكمية ولا بالمقدار فهو المبدع الاول والمبدع الحق.

من هنا اصبح الفن الإسلامي يمثل جميع الجهود التي بذلها العالم الإسلامي خلال القرون الماضية في التعبير عن اشكال الجمال وصناعة الأشياء الفنية، ويمكن لأي متخصص او متذوق للفنون الإسلامية أن يمدّ جسور التواصل بين أولى إبداعات العمارة والفن الإسلامي الى الوقت الحاضر وصولا الى ما يمكن ان ينجزه الفن الإسلامي في المستقبل بخطوط واضحة تؤكد وحدة الفن الإسلامي وشخصيته الإبداعية والجمالية المميزة رغم تنوعه الكبير الذي يبلغ فيه حداً يصعب خلاله أن نجد للفن الإسلامي تحفتين متماثلتين تماماً..

 ومن الثوابت ان الفن الإسلامي ليس بالضرورة ان يكون هو الفن الذي يتحدث عن الإسلام، إنما هو الفن الذي يرسم صورة الوجود من خلال التعبير الجميل عن الكون والحياة والإنسان وخالقها ومن خلال تصور الإسلام للكون والحياة والإنسان، وهو ايضا النموذج الفني الامثل الذي يحقق اللقاء الكامل بين الجمال والحق، فالجمال حقيقة في الكون والحق ما هو الا ذروة الجمال، ومن هنا يلتقيان في القمة التي تلتقي عندها كلّ حقائق الوجود، وعليه اتخذت فنون العمارة والزخرفة الاسلامية لنفسها مكانة متميزة في كل فرع من فروع الفن بحيث يمكن عدّها واحدة من أهم العناصر في التراث الجمالي للشعوب الإسلامية، إنَّ لم تكن أهمها جميعاً فالزخارف مثلا هي ليست إضافة زائدة على العمارة، أو هي مجموعة من القطع الفنية التي يمكن الاستغناء عن جزء منها بمعزل عن الاخر دون أن تترك ضرراً جمالياً ، بل انهما في الواقع يشكلان توأمان.. فالزخرفة تقع في اللّب من جوهر الفنون الإسلامية الذي يقرر استعمال المواد ويولد سلسلة من البنى التي يمكن ملاحظتها في جميع فروع الإنتاج الفني، فهذا العنصر الفني الفريد لا يدخل لأغراض التجميل، بل هو عنصر ينجم عن تحفيز كامن لروح المسلم عن طريق رسالة التوحيد التي يبثها الفنان المسلم في اعماله والتي جعلت من كل ذلك ضرورة وأمراً محتوماً، اذ ان فكرة التوحيد قد قادت الفنان المسلم الى سبيل ربط الكل بالجزء ربطاً متكاملاً ليعطي بالأخير كل عضو من أعضاء البناء الفني مفاهيمه وخصوصيته، ولا شك ان أنماط الفن الإسلامي من زخارف وخط وأساليب تحلية تمثل كلها وحدة فعالة في بيان الأسس الفكرية التي يتبناها الفنان المسلم فلا يكون كل من فروعها مفصولاً عن غيره .

كاتب : سامر قحطان القيسي