يعيش الإنسان حين تعرضه لمعطيات الفنون المرئية - وبالخصوص الاعمال الفنية الاسلامية - بين تأثيرين كبيرين يتمثلان بالجاذبية الداخلية والاستجابة الظاهرية للأشكال المحسوسة، فالإنسان بطبيعة الحال يحمل طابعا تأمليا ووحياً ودينيا، اذ يشعر بلذة داخلية من خلال النظر إلى هذه الأشكال بطريقة أعمق مما في ظاهرها، وهو ما يمكن تسميته بإبداع الفن كونه صورة عن الحقيقة الكبرى ونظرة تصل إلى حد الاستبصار الأسمى الذي يتجاوز كثيراً المظهر السطحي للأشكال .
جاء الإسلام منسجماً مع طبيعة وجوهر الحياة العقلية العربية في معظم أبعادها، في حين استطاع العقل المسلم فهم التراث الفلسفي للحضارات السابقة، وإذابته وفق المضامين الفكرية والروحية المنزلة في القرآن الكريم ، وكان من بين أهم أهداف العقل الإسلامي تعزيز وحدة الإيمان، وحماية العقيدة بالبراهين العلمية والحجج المنطقية ودحض الخرافة والشرك بالله، وقد تمخض عن هذا المناخ الفكري والديني وحدة ثقافية جامعة متميزة في مفاهيمها وخصائصها ومقاصدها رغم اختلاف الاجتهادات والسبل، فالفلسفة الإسلامية هي التعبير المتكامل المتجدد للأمة الإسلامية ولتطور هذه الأمة خلال العصور المتعاقبة، فهي جوهر حياتهم ومرآة تطورهم وانعكاسا لما في باطن مجتمعهم من آمال وآلام .
وقد شملت هذه الفلسفة آفاقاً متعددة ، ميتافيزيقية وطبيعية وأخلاقية ودينية وسياسية وجمالية، وأقيمت على ضوئها حضارة ذات طابع خاص يميزها عن غيرها من الحضارات ويفصلها عن غيرها من المعارف، فهي ليست امتداداً محضاً لحضارات أخرى أو أفكار وثقافات سابقة بقدر ما هي استيعاب واحتواء لما سبقها وإبداع لجوهر فلسفي متميز ينبعث عن روح وفكر أمة ذات خصائص معينة تختلف عن الأمم الأخرى، فالفلسفة الإسلامية مثلت بداية عصر تنويري مبدع ، وخلاق أتت بمفاهيم جديدة وأكدت تصورات كبرى في تاريخ الفكر الإنساني وحولت هذا الفكر من طور إلى آخر.
تمثل العقيدة الإسلامية والفكر القرآني المصدر الأساسي والمحرك الأول للجهود المعرفية الإسلامية من أجل تثبيت أسس الإيمان ، التي نتج عنها طابعا ثقافيا شاملا يتفاعل مع معطيات الحياة وكافة أنواع العلوم التي يستمدها الإنسان من تجاربه ونتائج اشتغاله على الطبيعة ومكوناتها ، ولم يؤسس الإسلام حضارته على أساس القطيعة المعرفية مع باقي الرؤى والأفكار المغايرة بل على أساس تقبلها والإفادة من إبداعاتها الفكرية والجمالية من أجل التواصل الإنساني الذي تقوم عليه الحضارات الكبرى، وهذا ما نراه قد انعكس على اغلب المنجزات الفنية ذات الهوية العربية الاسلامية، فلو تأملنا الأشكال المقوسة والقباب على اختلاف انواعها واحجامها لوجدنا ان الحس الجمالي لدى العرب المسلمين تجاه هذه الاشكال يرتبط بفكرة مفادها أن الكون كروي وهو أنسب الأشكال لاحتواء الكون للأشياء داخله ، فضلا عن أن اغلب فلاسفة المسلمين قد جهدوا وعملوا باهتمام بالغ على المبادئ الهندسية الأساسية التي تنظم وجود الأشياء في المكان، بحيث يظهر للمتتبع لهذا الامر أن الجمال لديهم خاضع لمنطلقات رياضية عقلية بحتة انطلاقاً من ان الكون محكوماً بأسس وضوابط علمية هندسية بالغة الدقة ،واستطاعوا من خلال تحليل ودراسة الأشكال الهندسية ومبادئها العقلية الوصول إلى نظم جمالية مجردة تتمتع بأنساق فنية عالية الإحكام تنتمي إلى عالم المعقولات، وهو عالم غير منفصل عن عالم المحسوسات ولكنه غير متطابق معها بالتأكيد، بل وبصورة ادق هو يتخذ من المحسوسات طريقاً للوصول إلى غايات عقلية أسمى من الموجودات الزائلة، وهي بنظرهم منبع الجمال الحقيقي الذي لا يطاله التغير والفساد .
وهذا النهج الفلسفي الجمالي غالباً ما يدعو الفنان الذي يعمل على تحلية وتزويق منتجاته من لوحات جدارية واغلفة الكتب والمخطوطات العلمية والدينية، فضلاً عن ابنية المشاهد والمراقد المقدسة وبإتباع أنساق جمالية ذات طبيعة مجردة.. تسمو بأفكار ومشاعر المتلقي الذي يتعرض لهذه المنتجات الابداعية ويجد نفسه محاطاً بهذا المناخ الفني والجمالي البعيد عن الحسية والواقع التشبيهي، فيعطي بذلك إحساساً بالخروج من أطر الزمان والمكان الواقعيين ، ويلتجئ إلى فضاء التأمل والزهد والتمتع بجماليات توحي بروح الفكر الاسلامي وقدسيته ، فالنفس الإنسانية جوهر بسيط خالد هبط من عالم العقل مزوداً بذكريات من حياته في ذلك العالم ، واتصال النفس بالجسم مصدر ألم لا ينقضي لأنه مصدر رغبات كثيرة قد لا يكون هناك سبيل لتحقيقها .
استطاع الفنان المسلم تصوير الأشياء والموجودات بشكل مميز يبتعد عن محاكاة الأصل الطبيعي من أجل تصوير الجمال الإبداعي الذي ينطلق نحو إدراك الجوهر المطلق، بعيداً عن المعارف المادية المحددة في حدود هذا العالم ، فهو فن روحي نظر إلى الطبيعة والإنسان نظرة دينية لا تحدها رؤية دنيوية، بل هي رؤية إلهية وجمالية خاصة هدفها التوحيد بين ما هو عقلي وما هو واقعي ،وهذا الاتجاه التوفيقي للجمال جعل للفنون الإسلامية صورة توحيدية تعبر عن الفكر الإسلامي وأهدافه، ومن هنا استطاع الفنان المسلم وهو ملهم بمبادئ الحكمة والجمال التي تحملها العقيدة والفلسفة الإسلامية ان يفرض على تكويناته واشكاله الفنية البقاء في حدود بعدين فقط، بدلاً من ثلاثة أبعاد للتفريق بينها وبين اشكال الطبيعة من حوله، حيث استطاع بذلك تمييز ابداعاته بخاصية الجميل إضافة إلى استقلالية فنه بعيداً عن العالم المادي المجسم، فلو تأملنا امتداد الأشكال الفنية الاسلامية من نقوش ورسوم.. لوجدنا فعلا انها تحمل صفات مغايرة للأشكال والاشياء الموجودة في الطبيعية ، فالمبدع الاسلامي يقوم بتحويل قوى نفسه المبدعة إلى أعمال فنية جمالية تقوم بدورها بتحريك وتحويل المواد والخامات إلى اشكال وصور ابداعية، أي احالتها إلى خطوط وأشكال وألوان تغطي السطح التصويري او الارضية المبتغاة في تكوينه الفني، أما العقل فمن شأنه تنظيم تلك الأجزاء وتوحيدها سواء كانت هذه الأشكال من معطيات العقل البشري كالتجريدات الهندسية الخالصة او الاشكال ذات المرجعيات الطبيعية كفن التوريق، أو بعض من أنماط الخط العربي .
اترك تعليق