الذات والذاتـــية .. من نظم المعرفة الانسانية

الفن بأنواعه هو نتاج فردي أساسه الإنسان ومصدره المدخلات والمخرجات الحسية بلا ادنى شك، وان المعطيات الأساسية في تشكيل التجربة البصرية الفنية داخل حقل الوسائط يتكون بفعل التحولات التي تطرأ عليها بفعل قدرة المدخلات على تغير نمط الاتجاه الذي يشتغل علية الفنان ، ذلك مما يحقق الذاتية المتفردة ضمن دوائر التخصص الفني من جانب ومن جانب أخر فإن الفن صفة متعالية عن الموضوعي وتصلنا عن طريق الادراك والوعي المتأتيان من المشاعر والخيال والحدس المرتبط بالوعي الأدائي .

وهذا ما يجعل النزعة الموضوعية أشد خطورة فهي تغفل ما هو أهم عند الفرد (الذات) متجاهلة المعطيات الأكثر تحققاً في التجربة الفنية لصالح ما هو مجرد وكلي وعام ، فالموضوعية مرتبطة ارتباطاً حتمياً بحدود المعادلة في حين يسعى الفن على عكس نظام المعادلات محاولاً تهميش كل ما هو عام لصالح ما هو روحي خاص، وبالنتيجة صياغة قوانين خاصة لا تخضع لأي قوانين عامة وشاملة، هذا إذا ما عرفنا الإبداع بعده ضرباً من ضروب التحرير من قيود الزمان والمكان، ولا يعد الإبداع توسيعاً وتحولاً للآفاق إلا لأنه يحطم ما هو مألوف ومعتاد ومستقر وثابت في القوانين العامة بل هو ينزع من تناقض صيغ متوازنة ومنسجمة ويجعلها أكثر قدرة على التفوق، من القوانين الموضوعة ضمن منطقة الإبداع والعرف الجمالي، وبذلك  فالذاتية نقطة البداية للعملية الإبداعية وهي الأساس الحقيقي للمعرفة الفنية ، بل نستطيع الجزم بأن العمل الفني هو حقيقة الذات المخرجة على السطح التصويري .

ولو حاولنا الوقوف على مفهوم دقيق للذاتية لوجدنا انها مجموع القيم المتحققة والمندمجة في واقعة ما، تشكل بمجملها كلاً متكاملاً متجاوزاً حدوده المكانية والزمانية ومؤسسة لقوانين خاصة تتحول بتحول العاطفة والوجدان والقيم الاجتماعية والعقائدية كما إن المرجعيات البيئية والفكرية والدينية هي الأساس الذي تنطلق من الذات المبدعة الحرة لتحقيق فعل الإبداع ليس بالمماثلة والمحاكاة بل بالخروج  بصياغة جديدة تتناسب وقيمة العمل الفني وموضوعه .

فإذا كانت الموضوعية عملية مسيطرة عليها عقلياً متنحياً منها الجانب الروحي والعاطفي والوجداني فالذاتية تتحقق باندماج العاطفي الحسي الروحي مع العقل التجريبي بحرية تحركها إرادة حرة غايتها الوحيدة إنتاج أثر فني يتفق وينسجم مع ذات الفنان وفكره وعقيدته وكأنه جزءاً منها، فالذات بعيدة عن المخيلة وكثيراً ما تغير من نظم التركيب بما ينسجم ويتلائم مع المتحول الآني على السطح التصويري بقصد تنحيه الموضوعي والخروج بكوامن النص الفني، وعليه فالمفهوم الذاتي في المعرفة الفنية هو موضوعي من حيث نظمهِ المتحولة وإعادة الصياغة بقصد التفرد إلى الحد الأدنى من الخصوصية ، وهذا لا يتحقق إلا بقدرة وعي متعالية متفوقة تعي نظم العلاقات وآليات التحليل والتركيب وإعادة التركيب بما يضمن تحقق فعل الإبداع .

إن الذاتية والذاتي مصدر باث وفاعل داخل العملية الإبداعية في حركات الرسم والحديث منه بشكل خاص،  وهي لازمة له فالذاتية ثابتة بوصفها مفهوماً ومتحولة بوصفها آلية اشتغال وذلك بسبب التحولات في الأنظمة المشكلة لكل اتجاه ولكل ذات، فالمفهوم متداخل باختلاطه بالظواهر والوظائف والصور والدلالات التي يتوسطها بعلاقتهِ بالمرئي واللامرئي، ويكون ذلك عبر المتخيل وعلاقته بمفاهيم الأنا والروح والعقل والنفس والتي تتداخل في إنشاء مفهوم يعمل في سياقات مختلفة ، لذلك نجد الذاتي يتمظهر بأشكال مختلفة باستنادهِ للمنطلقات الجمالية والأسلوبية في الفن الحديث.

 ومما تقدم يتوضح لنا إن مفهوم الذاتي وفي كل مجالات العلوم الاخرى ، يشير إلى مجموعة من الحقائق العلمية والروحانيات والأفكار المتقاربة أو الصور الذهنية التي يستطيع الفنان أن يتصورها في موضوع الفن، لذلك تظهر الذاتية خارج قوانين الضبط والأحكام والتعميم التي تتسم بها الموضوعية في العلم، فالعمل الفني لا يهتم بالصفة والأشكال المصطنعة أو المفروضة على الفنان كونها تأتي وتنبع من خارج الذات ، فالذاتية وحدها تستطيع أن تتقصى لاستخلاص الرائع أو الجميل، وبتجاوز الواقعي والعابر السريع الزوال وغير الثابت فما هو جميل في الواقع إنما هو كذلك كون الذات تنظر إليه من وجهة نظر خاصة – وهذا مايسعى له الفنان المسلم في تجسيد اغلب لوحاته - ، مع إيماننا بأن الفن جدلاً قائماً على الاختلاف والاعتراض باستمرار من ذات الفنان وهذا ما يتفق ومفهوم الحداثة الفنية.

وعليه تكمن أهمية الذاتي كسمة من سمات المعرفة الفنية بأنها تجعل من النظام البنائي للعلاقات الشكلية يسير باتجاه معين عند كل تيار أو فنان مهما كان توجهه الفني، وهذا ما يجعل للعلاقات بين العناصر البصرية للشكل حياة روحية خاصة، تحمل صفات المنتج وأهدافه الجمالية.

ولذلك نجد إن مفهوم الذاتية والذاتي في الرسم الحديث يمثل قيمة معرفية وجمالية لا يمكن الاستغناء عنها في حقل المعرفة الفنية وحقل التشكيل بشكل خاص ومنه الرسم وإن اختلفت مظاهر الوعي وأساليب عمله في حركات الفن ومدارسه المختلفة .

المرفقات

كاتب : سامر قحطان القيسي