رموز حضارية..

أنّ العمل الفني الحثيث والمتواصل الذي قام به الإنسان منذ الخلق الأول جاء بإبداعات فنية فريدة لا زالت آثارها باقية حتى اليوم ، ويبدو ان كل تلك النِتاجات ما هي الا ما كانت تتطلبه حاجة الإنسان، فللفنون بشكل عام والتشكيلية منها بشكل خاص دوراً مهماً في المجتمعات ومنذ القدم، فنجدها تارة ترتبط بعاداته وتقاليده وظروفه الاجتماعية واخرى بمعتقداته الدينية، فنجد الإنسان قد عبّر وعلى مُختلف العصور عن كل ما يُحيط به وبأشكال شتى، اذ انفَرد بما يملكه من عقل بقدراته الخاصة على التعبير لينقل الصور غير المرئية من الذات الإنسانية إلى صور يمكن مشاهدتها بصريا، ليترك ارثاً كبيرا من النتاجات الفنية التي تعكس جوانب حياته المختلفة ومستواه الفني والظروف التي عاشها في النواحي الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والدينية على وجه الخصوص .

ولا جدال ان فن الخط العربي كان وما زال من اهم الفنون الانسانية وابدعها ، اذ خدمت الحروف العربية في مفاصل الفنون الاسلامية المنقوشة على المساجد و المصاحف في ان اصبح لها وظائف رمزية تؤكد قوة الاسلام وروحانيته ، وكانت تلك الوظيفة الرمزية هي الجانب الاجتماعي للفن العربي ، مؤكداً قدرته على اضفاء المسحة الفنية . الى جانب العطاء الروحي ، الذي يقدمه الاسلام لراحة النفوس والدعوة الى الروحانية الخالصة والطهر العفيف.

ولذلك فقد حاول الفنان المسلم ان يؤكد دوره الفني الزخرفي في تقديم الحرف العربي تقديماً تشكيلياً مبدعاً يزاوج ما بين اصولية الحرف والقواعد المتوازنة وبين الاتجاه التجريدي في الفن فان خاصية التجريد التي تمتاز بها الحروف العربية في نظام الحرف العربي قد جعلت طبيعة التكوين الفني طبيعة تجريدية مثالية متسامية تتجاوز في معناها البعد الكتابي الوظيفي المحض لتنظم اليه بعداً جمالياً متنامياً تنامياً رؤيوياً وعقائدياً محكوماً بين محاولة الفنان العربي المسلم في انتاج تكوينات خطية متسامية الشكل بالمضمون وبين محاولته في السعي وراء الكمال المطلق في تمثيل العقيدة الاسلامية تمثلاً صوفياً نقياً .

فاتجه الفنان المسلم بالحرف العربي نحو الزخرفة التي تمتاز بالتجريد سواء الهندسية منها أو النباتية أو الكتابية استخدام الحرف العربي حيث وظف هذه الاشكال الزخرفية   بدلاً من توظيف الاشكال الآدمية التي كثر استخدامها عند الفنان الاوربي . فكانت اشكاله تلك هي الصفة المميزة والطابع التشكيلي المختار لأعماله بما يتميز من تراكيب وقوانين رياضية قامت عليها اشكاله بما تحمله من حيوية وتوافق وايقاع زخرفي يظهر تأثيره في نفس المشاهد لتلك الأعمال التي فيها الاشكال النجمية وما توحي به للمشاهدة من خلال تراكيبها اللامتناهية بالخروج من الحيز المحدود الى اللانهائية

اصبحت جمالية الحرف العربي مكانة مهيمنة وبذلك جل الخطاط والنساخ واتخذ الحرف العربي والرقش مكانه بارزة في الحضارة الاسلامية لما يتميز به من استقامة وانبساط . حيث نجد ان الفنان العربي لم تتجل عبقريته  في ناحية من نواحي الفن بقدر ما تجلت في الحرف العربي الذي اتخذ منه عنصراً زخرفياً ابتكره ذهنه الخلاق .

فثمة علاقة تشكيلية تربط بين الحرف والزخرفة ، أي ينعدم الفاصل بينهما في احيان كثيرة وذلك حينما يكون الالتحام الموضوعي  بين وظيفتهما محوراً لتكوين قائم على اساس عقلي لا تكون فيه بهجة العين هي المبتغى ولا الحاجة الفنية فحسب، بل تمتد الى المتعة الروحية المضافة اليهما معاً ،أي يصعب الفصل بين هذين الفنين ، فكل منهما يكمل الآخر ، وهذه ميزة تضيف قيماً جمالية يتنقل بها الفنان المسلم وهي ملازمة الحرف العربي للرسم والتصوير حتى ان الكلمة المخططة اصبح لها شكلها الذي لا يقل دوره التشكيلي عن دور أي شكل تجريدي في اللوحة ، واحياناً يكون الحرف هو كل شيء في التشكيل كما هو الحال في النماذج القرآنية سواء كان خطاً كوفياً ام نسخاً او ثلثاً ،

. فاخذت هذه الزخارف الحروفية تتطور حتى في العمائر والمساجد اضافة الى تنوع الزخارف سواء اكانت زخرفية نباتية أو هندسية ، فقد قصد بها ان تكون عنصراً زخرفياً جميلاً اضافة الى تسجيل اسم صاحبها . فالفنان المسلم استخدم اطار للكتابة بعدة اشكال منها الشريط الكتابي ، والمستطيل ، والمربع وما يتولد منه تداخل مربعين كالمثمن ، والدائرة في المنمنمات والرقش التي تتداخل فيها الخطوط الكتابية بحيث تتحول اللوحة الى قطعة فنية متكاملة . لا يمكن النظر اليها على انها لوحة خطية أو رسم فحسب بل هي لوحة تشكيلية الحرف فيها حركة وايقاع عام .

اضافة الى ذلك فهناك البراعم والزهرة والتوريقات النباتية والخطوط الهندسية  تبرز ايضاً في الخط العربي وخاصة الكوفي، أي ان القسم الاسفل من مستطيل الخط تحتله الكلمات المكتوبة ، اما المستوى الاعلى فتحتله هذه الزخارف الممتدة كأشعة أو كأغصان مورقة ومزهرة من الاحرف ، بحيث ان الخطاط كما الرسام لا يترك فراغاً في اللوحة المكتوبة فالاعتناء بجمالية الحرف العربي موازٍ لقدسية الحرف ، فمنه تتألف كلمات القرآن الكريم وهو في أهميته معادل للتجويد في الخط.

كاتب : سامر قحطان القيسي