الادراك في الفن..

لا اختلاف على ان أي نص ابداعي سواء اكان لوحة فنية او قطعة خزفية او عرضا مسرحيا او مقطوعة موسيقية، ما هو الا نتيجة لمجموعة متفاعلة من النشاطات تمثل العملية الابداعية الفنية، فالفنان يتعامل مع العمليات والظواهر والعوامل التي تتحكم في المجال الإدراكي بوصفها مدخلاً أساسياً للوعي بطبيعة الرسالة الجمالية للنص ومدى فعاليتها في التأثير في المتلقي .

ان عملية الإدراك تنطوي على قدرات فسيولوجية تتعلق بوظائف الحواس وتتحكم في آليات الإدراك البصري، كما تتعلق بالقدرات العقلية والنفسية التي تتظافر مع القدرات الفسيولوجية وتتشكل من منظور الفروق الفردية التي تعكس العوامل الثقافية والبيئية لمستقبل العمل الفني، فـالفن عموما يعتبر وسيلة من وسائل الاتصال الهامة وهو طريقة للإخبار ونقل وتراكم المعرفة عبر اجيال عدة ، اذ ان العملية الابداعية لا ينظر اليها على اساس انها مجرد عملية تذوق او عملية ادراك حسي فحسب او مجرد حدوث تلقائية ولا شعورية ، بل انها كما يرى منظر الفن الالماني ارنهايم ان النص الفني ينمو وينفذ في نفس الوقت، فهو يعتمد على القوى المنظمة لعقلية الفنان وكفاءة ادواته المتمثلة بالعينين واليدين ، فان العمل الفني اعقد كثيرا مما يمكن ان يدركه العقل، او تقوم به العينان واليدان في عملية واحدة.

وتمر عملية الأدراك الحسي لدى الانسان في أطوار متتابعة تبدأ بالنظرة الاولى للكليات، ثم بعملية تحليل الجزئيات وأدراك العلاقات القائمة بينها ، ومن ثم أعادة تكوين الأجزاء في هيئة كلية تركيبية، وأن عملية الأدراك البصري تبدأ في الأغلب بالكليات وتتحول الى الجزئيات بهدف التحليل والتأمل تمهيداً لإعادة التحول الى الكليات، فبالرغم من أن النظرة الكلية لأي عمل فني تسبق النظرة التحليلية ولا يمكن أدراك العلاقات بين الأجزاء ما لم يشمل أدراك المشاهد أولاً للنص الفني بأكمله، لأن الأجزاء لا معنى لها أذا كانت منعزلة بعضها عن بعض، بل يتوقف معناها على موقفها من سائر الأجزاء وعلى كيفية انتظام الشكل الكلي في أجزائه .

ومن زاوية اخرى فان للمجال البصري خصائص كامنة تُعد بمثابة مثيرات للعملية الإدراكية الحسية ، اذ يستدعي من المتلقي معان تـُيسر التعرف على الشيء المرئي وتأويله وإدخاله في دائرة الأشياء التي يألفها، وعلى ذلك فأن الأدراك الحسي يكون أجمالياً في مبدأه، وتؤدي الألفة بموضوع الشيء المُدرك الى سرعة الأدراك، كما أن الأدراك البصري يعد عملية نامية متتابعة، أذ تتحول نواتج الأدراك البصري لموقف ما الى مقدمات تساعد على حسن الأدراك وسعة مجاله ، وأن الآلية البصرية التي تشمل العينين والأعصاب البصرية والقشرة الخارجية للدماغ مؤلفة بطريقة بحيث تسمح بتمييز السطوح والألوان وحركة الشكل وبساطته بغض النظر عن أي تعلم من خلال الخبرة، لذلك فأن أدراك الشكل البسيط والحركة يندمج ويتمم بواسطة عمليات التحديد والترميز والتصنيف من خلال عملية التنظيم الإدراكي التي تعتمد كثيراً على التعلم والذاكرة والانتباه والتفكير واللغة.

وبلا شك فأن العمليات الإدراكية البسيطة تؤدي وظيفتها فعلاً وتوفر البيانات الحسية التي تستند اليها العمليات الأكثر تعقيداً ، وان الادراك الابداعي ليس كعمليات الادراك الحسي العادي فالادراك الابداعي عادة ما يكون موجها لاكتشاف المتميز والجديد ، كما انه عادة يتصف بالعمق والاحاطة والشمول، ويتميز أدراك الأنسان بعدد من الخصائص من أهمها : 

1. مادية الأدراك- تتجلى مادية الأدراك في قدرة الأنسان على إرجاع المعلومات الواردة اليه من العالم المحيط به ، فيقدم المادة الخام والنتاج الأولي لعملية المعرفة ، كما يؤلف الطور الأول من عمل جهاز الفرد النفسي والمعرفي، ويكون في الوقت نفسه الإطار المرجعي لكل النتاجات المعرفية الراقية.

2. خاصية الكلية – وتتجلى هذه الخاصية في أن الأدراك الحسي لا يعكس الخصائص المتفرقة للشيء الذي يؤثر مباشرة في أعضاء الحواس ، و أنما يمثل صورة كلية ناجمة عن تنظيم الإحساسات في شكل أو نمط أو بنية متماسكة وإظهار الخصائص ، والكشف عن العلاقات والروابط التي لا يمكن إظهارها أو اكتشافها عن طريق الإحساسات فقط، اذ تتكون الصورة الإدراكية الكلية عن طريق تعميم ما هو مشترك وعام من الصفات والخصائص لفئة أو صنف من الموضوعات ، لذا يتبين أن مهمة الأدراك الرئيسة تكمن في اكتشاف البنية الكلية الثابتة والجوهرية لموضوعة النص الفني .

3. خاصية الثبات- يعد الثبات من ضمن القوانين التي تنظم الأدراك البصري الحسي للأشياء المرئية، والثبات بالمعنى العام يعني أن الأشياء المرئية من زوايا مختلفة وعلى مسافات مختلفة أو تحت ظروف إضاءة متباينة ، يدركها الفرد بالحجم نفسه و بالأشكال والالوان الواقعية لها. 

كاتب : سامر قحطان القيسي