ومضات من سحر الحروف..

تستمد بعض الاعمال الفنية التشكيلية مضمونها من الحروف والكتابة بوَصفها جزء من عالم اللغة المتداولة بين الامة الواحدة.. كما هو حال الحروف العربية واشراكها في ساحة الفن التشكيلي المعاصر والحديث ،في محاولة ناجحة من الفنان العربي لكسر التقليد فـي الاعمال الفنية والخروج بها إلى آفاق جديـدة وسبل تعبيـر مميزة ، فالحرف العربي بدلالاته المختلفة وشكله الجميل يملك قدرة تواصلية مع العالم المحيط لا تمتلكها حروف اللغات الاخرى.

العمل الفني اعلاه يحمل توقيع التشكيلي العربي ( صفوان ميلاد ) ، وهو فنان حروفي تونسي ورث حب الفن عن والده ، وسعى إلى نشر شغفه بالخط العربي وفنونه وسط أوساط الشباب التونسي، الأمر الذي جعله يخرج بفنّه إلى الشوارع والساحات والمؤسسات الجامعية والمعالم التاريخية مشكّلا في مدينته القيروان جداريات حروفية عملاقة تجمع الجمالي بالحضاري، ولو دققنا في تفاصيل عناصر اللوحة لوجدنا انها تحمل توضيحا لحدود الحروف وبعض الاشكال وعمق الوانها ، ويبدو ان ميلاد قد اراد من وراء ذلك التأكيد على الروابط الحضارية والثقافية بين أفراد الأمة الواحدة ، فاللوحة تحمل بين ثنايا عناصرها مضمون تأمُّلي هو انعكاس لرؤية فلسفية نظراُ لما يمتلكه الحرف من قيمة تراثية وحضارية مُحمّل بالدلالات، والتي تعكس موقف الفنان العقائدي والاجتماعي مستلهماً إمكانية الإيحاء اللغوي من الحرف العربي وطاقته التجريدية ، فقد استعاض الفنان تارة عن بعض العناصر التشكيلية بالحروف والخطوط العشوائية في حين نجده دمج بعض من عناصرها تارة اخرى، فالقيمة الجمالية للحرف العربي تعكس الروح العربية المُتمثلة بالشخصية العربية ، وقد تُعبّر عن انطلاقة في تعميق شخصية الفن التشكيلي في اقتباسه للحرف ، وهي وان دلت على شيء فتدل على ان هذا المنجز الفني قد انطلق من المرجعيات المتعددة للفنان ولمفرداته البيئية وإلى رؤيته في استلهام الحرف العربي كقيمة جمالية مطلقة في لوحاته.  

ومن جانب اخر فأننا نجد إن التكوين في هذه اللوحة هو تجدد في حركة الحرف - وهي سابحة في فضاء مليء بالأشكال المعمارية- فقد اظهرها كعنصر تشكيلي اساسي في بعض أجزاء اللوحة وفضاءها المكتظ بالأشكال الزخرفية الغائرة، حيث نجدها ملتصقة على بعض الجدران او تعلو بعض الاشكال او قد نجدها متماهية مع خلفية اللوحة والوانها، حيث جاء استخدام الفنان لحروف القاف و الواو و الألف و النقطة المنفردة او النقاط المتعددة حتى انها تترك انطباعاً لدى المتلقي وكأنه يتابع درساً لتعليم فنون الخط وقواعده،  وقد أضاف الفنان إلى هذا العمل أيضاً العديد من الزخارف والأشكال الهندسية لخلق نوع من التكامل والانسجام ، كذلك إحداث التداخل بين التكوينات الزخرفية والحروفية مع التكوينات الهندسية المعمارية المرسومة.

لقد اعتمد الرسام في هذا المنجز على الألوان الأساسية والثانوية ذات الملمس الخشن بانسجام وتناسُق ، أما خلفية العمل الفني فقد تكوّنت من خليط متناسق من الوان البني المخلوط بالأحمر والبرتقالي وبدرجات متفاوتة، بغية إبراز جمالية اشكال وحروف العمل الفني، ونلاحظ هنا ايضا ان صفوان عمد على توظيف عنصر التكرار لبعض الأشكال الهندسية والزخارف المرسومة .وبعض الاشكال الرمزية كالمنائر والقباب والاهلة التي تعلوها ، فضلا عن تكرار بعض الاقواس الممثلة للأبواب والشبابيك وغيرها.   

استطاع التشكيلي صفوان ميلاد وعبر سلسلة ابداعاته الرمزية ومواظبته على استقراء الواقع الجمالي والارتباطات المحيطية بإنسان اليوم، أن يؤسس رؤيته الجمالية الخاصة في التشكيل الفني الاسلامي، من خلال متقابلات ومترادفات عمل على توظيفها بين ثـقافته النظرية والتحولات الجمالية داخل لغة التشكيل لديه، فكانت تجريداته الخالصة مفعمة بالتصوف واختزال وتبسيط الاشكال لنقل مشاهداته التصويرية عن حياة الفرد العربي المسلم وارهاصاته وتمسكه بموروثه بطريقة الرسم على الجدران، والتي شكلت مادته الخصبة في التكوين الفني اعلاه واغلب ابداعاته الفنية الاخرى، والتي تميزت برؤيته الجمالية الخاصة به.. والتي تدفع بالمتلقي إلى آفاق جمالية غير مرئية في قاموسه الجمالي، فهذه الاشكال في الواقع ترقى إلى استحقاقاتها كمواضيع فنية كون جدران الجوامع والمساجد تعج بكم كبير من المشاهدات والاشكال المتوارثة من الاجيال وهي تنطق بعربيتها وعقيدتها الاسلامية.

المرفقات

: سامر قحطان القيسي