723 ــ نزار قباني (1342 - 1419 هـ / 1923 - 1998 م)

قال من قصيدة (إفادة في محكمة الشعر) وتبلغ (100) بيت:

أنـا جـرحٌ يـمـشي على قدمـيهِ     وخـيـولـي قـد هـدَّهـا الإعــــياءُ

فجراحُ الحسينِ بعضُ جراحي     وبصدري من الأسى (كربلاءُ)

وأنا الحزنُ من زمانٍ صديقي     وقــلــيـلٌ في عصرِنا الأصدقاءُ

*********************************

وقال من أخرى:

(قتلناكَ..

قتلناكَ..

ليس جديداً علينا

اغتيال الصحابةِ والأولياءْ

فكم من رسولٍ قتلنا...

وكم من إمامٍ ذبحناهُ وهو يصلّي صلاةَ العشاءْ

فتاريخُنا كلهُ محنةٌ

وأيامُنا كلها (كربلاءْ)

************************************

ويقول في قصيدته (من قتل مدرِّس التاريخ):

(مِن أينَ يأتينا الفرح؟

وكلُّ طفلٍ عندنا، تجري على ثيابِه

دماءُ (كربلاء)..

والفكرُ في بلادِنا

أرخصُ من حذاء..

وغايةُ الدنيا لدينا:

الجنسُ.. والنساء)  

*********************************

ويقول في قصيدته بلقيس:

(بلقيسُ:

إن همْ فجَّروكِ.. فعندنا

كلُّ الجنائزِ تبتدي في (كربلاءَ)

وتنتهي في (كربلاءْ)

لن أقرأ التاريخَ بعد اليومِ

إنَّ أصابعي اشتعلتْ..

وأثوابي تغطيها الدماء..

ها نحنُ ندخلُ عصرَنا الحجري

نرجعُ كلَّ يومٍ، ألفَ عامٍ للوراء) ...

********************************

ويقول في قصيدته (جلودنا مختومة بختم كربلاء):

(مواطنونَ نحنُ في مدائنِ البكاء

قهوتُنا مصنوعةٌ من دمِ (كربلاء)

حنطتنا معجونةٌ بلحمِ (كربلاء)

طعامُنا.. شرابُنا

عاداتُنا.. راياتُنا

زهورُنا.. قبورُنا

جلودُنا مختومةٌ بختمِ (كربلاء)

****************************************

وقال من قصيدة (السمفونية الجنوبية الخامسة):

(سمَّيتُكَ الجنوب

يا لابساً عباءةَ الحسين

وشمسَ (كربلاء)

يا شجرَ الوردِ الذي يحترفُ الفداء

يا ثورةَ الأرضِ التقتْ بثورةِ السماء

يا جسداً يطلعُ مِن ترابِهِ

قمحٌ وأنبياء

سمَّيتُكَ الجنوب

يا قمرَ الحزنِ الذي يطلعُ ليلاً مِن عيونِ فاطمة

يا سفنَ الصيدِ التي تحترفُ المقاومة

يا أيَّامَ عاشوراء)

*************************************

ويقول في قصيدته (منشورات فدائية على جدران إسرائيل):

(من وَجَع الحسينِ نأتي

من أسى فاطمةَ الزهراءْ..

من أُحُدٍ.. نأتي ومن بدرٍ

ومن أحزانِ (كربلاء)..

نأتي.. لكي نصحِّحَ التاريخَ والأشياء)

****************************************

ويقول في قصيدته عن مذبحة قانا التي حدثت في عام (1996):

(ورأينا الدمعَ في جفنِ عليٍّ.

وسمعنا صوتَه وهوَ يصلّي

تحتَ أمطارِ سماءٍ دامية

كلُّ مَن يكتبُ عن تاريخِ (قانا)

سيُسميها على أوراقِه

(كربلاءً) ثانية)!!

*******************************

الشاعر

نزار بن توفيق القباني، شاعر ودبلوماسي، يعد من أبرز شعراء العصر الحديث، ولد في دمشق / سوريا من أسرة علوية عربية عريقة لها بصمات في تاريخ الأدب والفن فقد كان جده أبو خليل القباني من رائدي المسرح العربي وكان أبوه من المهتمين بالشعر.

يقول الدكتور الشريف كمال الحوت الحسيني رئيس جمعية السادة الأشراف في لبنان: (وآل القباني أسرة علوية سكنت في بلاد الشام ويعود أصلها جدها الأعلى السيد علي القباني الذي يعود بنسبه إلى الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام وانتشرت في العراق ومصر وسوريا ولبنان وقد برز منها العديد من الأعلام في الفكر والأدب والسياسة وتبوأ رجالاتها مناصب كبيرة ومهمة في مصر وبلاد الشام). (1)

وكان والده توفيق قباني من رموز المقاومة الوطنية السورية ضد الانتداب الفرنسي، وكان منزله مقراً لاجتماع أقطاب المعارضة الوطنية.

مارس قباني الخط والرسم قبل أن يرسو على الشعر فطالع وحفظ أشعار عمر بن أبي ربيعة، وجميل بثينة، وطرفة ابن العبد، وقيس بن الملوح، وتتلمذ على يدِ الشاعر خليل مردم بِك الذي علّمه أصول النحو والصرف والبديع.

تخرّج قباني من كلية الحقوق في الجامعة السورية ودخل السلك الدبلوماسي وتنقل بين عواصم العالم المختلفة فعمل في السفارة السورية في مصر وبريطانيا وتركيا والصين وإسبانيا حتى استقالته فاستقر في لبنان وتفرغ للشعر وأسس دار نشر خاصة به وأصدر العديد من الدواوين وأغلب شعره في الغزل والسياسة.

مرّ قباني في حياته بالعديد من الأحداث التراجيدية المأساوية منها مقتل زوجته بلقيس بتفجيرٍ انتحاري استهدف السفارة العراقية في بيروت حيث كانت تعمل، ووفاة ابنه توفيق ورثاهما بقصيدتي (بلقيس) و(الأمير الخرافي توفيق قباني).

بعد هذه الأحداث تنقل بين باريس وجنيف، واستقر أخيراً السنوات الأخيرة من حياته في لندن حتى توفي فيها ودفن في مسقط رأسه، دمشق.

كتب عنه العديد من النقاد والأدباء منهم الأديب والصحفي لؤي قاسم عباس الذي كتب عنه موضوعاً بعنوان: (الشمس تلبس عباءة الحسين – نصوص – كربلاء في شعر نزار قباني) (2) قال فيه:

(لو شاءت الأقدار أن يتخذ الحسين أي أرض أخرى لتكون مصرعه لحملت تلك الأرض تلك القدسية والمبادئ السامية ولبقيت كربلاء على حالها جرداء قاحلة تخلو من تلك القيم وهذه القدسية التي تفتخر بها على كل بقاع الكون.

من هنا يمكننا القول بأن كربلاء تعني الحسين ولا شيء سواه… لذلك نجد أنفسنا نستحضر الحسين في أذهاننا عندما نستذكر كربلاء وبدون أن يكون لنا القصد بذاك فكلاهما مرتبط بالآخر ارتباطاً وثيقاً لا ينقطع.

وعندما يتغنّى الشعراءُ بكربلاء فهم يتغنّون بالمبادئ والقيم التي نثرها الحسين على هذه الأرض الطيبة لتورق في ساعتها أشجاراً عظيمة من القيم النبيلة والمبادئ السامية.

لقد استطاع الشعر العربي أن يحوّل كربلاء من تلك المدينة الصغيرة إلى مدينة بحجم الكون فهي لا تخضع للبعد الجغرافي كما هي على خريطة الواقع بل تتعدى الزمكانية بكامل أبعادها. فهي حاضرة بمدلولاتها في أي مكان وزمان تُستنبَط منها  رموز الفضيلة والشموخ والإباء والتضحية والعطاء وهي في نفس الوقت رمز للحزن والمأساة والغدر والحقد المتأصّل في النفوس اللئيمة وباختصار شديد فأن كربلاء مادة غنية بمدلولاتها لذلك تسابق الشعراء في استلهام تلك المعاني وتوظيف ذلك في الصور الشعرية المستوحاة من واقع حاضر في النفوس وما تركته واقعة الطف الخالدة في ضمير الشعر العربي الحر .

ونزار قباني (1923- 1998م) بمفردته الشعرية الرقيقة والمحببة إلى النفوس نراه يستعين بكربلاء في مادته الشعرية كلما احتاج أن يضع يديه على جرح الأمة النازف وليس غريباً على شاعر عشق الجمال أن يستلهم من كربلاء خاصة عندما يحتاج إلى أن يشخص ذلك الوجع بعد أن حلت بها النكبات من كل حدب وصوب بسبب تردي واقعها الفكري الذي نحيا به فالأسى والحزن الذي يجتاحنا تعود جذوره الى ذلك الدم العبيط الذي بقي أثره في كربلاء وترك شرخاً في قلوبنا ويأبى أن يندمل فهو في قصيدته (إفادة في محكمة الشعر) والتي ألقاها في مهرجان الشعر التاسع 1969 في العراق يستخدم جراح الحسين (عليه السلام) كمدلول لعمق جراح الأمة لاسيما وان القصيدة أُلقيت في وقت لازالت الأمة تعانى من آثار نكبة حزيران 1967 ولم يكن القصد من وراءها التقليل من جراح الحسين بل القصد هو تعظيم لجرح الأمة النازف فها هو في عجز البيت يرى أن الأسى يعتصر القلوب بحجم مأساة كربلاء…

سكنَ الــحزنُ كالعصافيرِ قلبي      فالأســى خمرةٌ وقلبي الإناءُ

أنا جـــــرحٌ يمشي على قدمـيهِ     وخــــيولي قد هدَّها الإعـياءُ

فجراحُ الحسينِ بعضُ جراحي      وبصدري من الأسى كربلاءُ

ويعود الحزن من جديد يسري في النفوس وكأن مأساة كربلاء تعود هي الأخرى في كل مناسبة للحزن والبكاء وصور الغدر العربي المشين، وتتجلى صور الغدر في رثائه لجمال عبد الناصر 1970 فتاريخ كربلاء يعيد نفسه مع كل حادثه اغتيال لآمال الأمة وطموحها المشروع في حياة حرة كريمة فيقول…

(قتلناكَ..

ليس جديداً علينا

اغتيال الصحابة والأولياءْ

فكم من رسولٍ قتلنا…

وكم من إمام ذبحناهُ

وهو يصلي صلاة العشاءْ

فتاريخنا كلهُ محنةٌ

وأيامنا كلها كربلاءْ)

لم تكن كربلاء حاضرة في اغتيال قادة الأمة فحسب، بل حتى رثاء أدبائها فها هو القباني يسلتهم الحزن الكربلائي في حمى الحسين ليرثي عميد الأدب العربي (1889- 1973) فقد جاء في قصيدة (إرمِ نظارتيك ما أنت أعمى) التي ألقاها في عام 1973 في جامعة الدول العربية ونجد ارتبطاً وثيقاً بين اسم الحسين وصورة احتباس الماء عن شفاه اليتامى فيقول:

إنني في حمى الحسين وفي الليـ     ـل بقايا مـن سورةٍ الرحمنِ

تستبدُّ الأحـــــــــــزانُ بي فأنادي     آه يا مصرَ من بني قحطانِ

حبسوا الماءَ عن شـــــفاهِ اليتامى     وأراقـــوه في شفاهِ الغواني

ويستذكر وجع علي والحسين والمقصود بعلي هنا هو علي الأكبر حين زفّهُ الإمام الحسين إلى المنية بنفسه فأيّ وجع ينتاب المرء وهو يودع فلذة كبده إلى مثواه الأخير ويكاد الموت يحيط به من كل مكان فهنا يستجمع بمكنونه واقعة الطف في لحظاتها الأخيرة رغم أنه كان يعيش في لندن حين كتب مرثيته إلى ولده توفيق الأمير الدمشقي 1973 يقول في قصيدته:

(لأيِّ سماءٍ نمدُّ يدينا؟

ولا أحدَ في شوارعِ لندنَ يبكي علينا

يهاجمُنا الموتُ مِن كلِّ صوبٍ

ويقطعنا مثلَ صفصافتين

فأذكر، حينَ أراك، عليا

وتذكرُ حين تراني الحسين).

وجع كربلاء لا يتجدد مع مراثي الموتى فحسب، بل هو فاجعة تاريخية شاملة تحز بالنفوس كلما مررنا على تاريخنا المظلم وفكرنا المتهرئ وليت آثاره تنتهي مع إسدالنا الستار عن تلك الفصول السوداء وما أكثرها في تاريخنا المظلم. فالخلل قد تسرب إلى النفوس وبات لا جدوى من الإصلاح. فيقول في قصيدته (من قتل مدرس التاريخ) وهو يستحضر المشهد الدموي المروع لصور الأطفال والدماء تجري على ثيابهم وكأن كربلاء هي أول فاجعة لقتل الطفولة لتصبح مدعاة لقتل الفرح فينا وهي من فتحت أبواب الشر المستطير ليفتك فينا فمن أين يأتي الفرح وهذا الصورة تقبع في دهاليز ذاكرتنا:

(من أين يأتينا الفرح؟

وكل طفل عندنا، تجري على ثيابه

دماء كربلاء..

والفكر في بلادنا

أرخص من حذاء..

وغاية الدنيا لدينا:

الجنس.. والنساء).

وكربلاء ليست مناسبة لقتل الطفولة البريئة وحسب، بل بداية للغدر الذي لا ينتهي ففي كل فاجعة تعود كربلاء حتى وإن كان الحدث في لبنان أو لندن أو أي بقعة من بقاع الكون فهنا يبكي زوجته الحبيبة بلقيس التي (كانتْ أجملَ المَلِكَاتِ في تاريخ بابِلْ) فاغتالها الحقد الدفين وكأن التاريخ يعيد نفسه فصوّر التفجير والتفخيخ لا تقل بشاعة عن صور حز الرؤوس بالسيوف ورفعها فوق أسنة الرماح فـ (مصيرنا نحن العرب أن نقتل بأيدٍ عربية) وإن السيف العربي قد حز رؤوس بني جلدته وأوقع فيهم القتل أكثر مما أوقع أعداؤهم بهم وهذه هي طامتنا الكبرى وهنا يقول في رثائه لبلقيس الراوي (1939 -1981) وكربلاء حاضرة بصورتها الجنائزية الكامنة في مُؤروثِهِ الثقافي فهي قافلة الجنائز التي لا تنتهي إلّا عند قيامة الأموات:

(فالخنجر العربي.. ليس يقيم فرْقاً

بين أعناق الرجالِ

وبين أعناقِ النساءْ

بلقيسُ:

إن هُم فجَّروكِ.. فعندنا

كلّ الجنائزِ تبتدي في كربلاءَ

وتنتهي في كربلاءْ

لن أقرأ التاريخ بعد اليوم

إنّ أصابعي اشتعلتْ

وأثوابي تغطيها الدماء

ها نحنُ ندخلُ عصرَنا الحجريَّ

نرجعُ كل يومٍ، ألف عامٍ للوراءْ)…

في 1985 فجّر نزار قباني قنبلة شعرية من العيار الثقيل وذلك في مهرجان المربد الخامس وأمام أنظار وأسماع الحكومة الجائرة والمتمثلة بقيادة البعث وبحضور لطيف نصيف جاسم وزير الثقافة والإعلام آنذاك. وكانت هذه القصيدة سبباً لخلاف كبير مع حكومة بغداد فلم يتم دعوته إلى أي مهرجان آخر في العراق. والقصيدة بعنوان (جلودنا مختومة بختم كربلاء) أو (لماذا يسقطُ متعب بن تعبان في إمتحان حقوق الإنسان) والتي يرى فيها إن ما حدث في كربلاء هو سبب مأساتنا وأن آثار تلك المأساة باقية فينا.

(مواطنونَ دونما وطن

مطاردونَ كالعصافيرِ على خرائطِ الزمن

مسافرونَ دونَ أوراقٍ.. موتى دونما كفن…

مواطنونَ نحنُ في مدائنِ البكاء

قهوتنا مصنوعةٌ من دمِ كربلاء

حنطتنا معجونةٌ بلحمِ كربلاء

طعامُنا.. شرابُنا

عاداتُنا.. راياتُنا

زهورُنا.. قبورُنا

جلودُنا مختومةٌ بختمِ كربلاء)

ولنزار قباني قراءة مختلفة عن قراءة ابن خلدون للتاريخ قد بينها في قصيدة بعنوان (قراءة ثانية في مقدمة ابن خلدون)، فهذه القراءة واقعية تخلو من التفسيرات الخيالية والتلفيق فنحن منذ مصرع الحسين نسير في جنائز:

(وكل ما سمعتُ عن حروبِنا المظفَّرة

وكرّنا..

وفرّنا..

وأرضنا المحرَّرة..

ليس سوى تلفيق..

هذا هو التاريخ، يا صديقتي

فنحن منذ أن توفي الرسول

سائرون في جنازة..

ونحنُ، منذ مصرعِ الحسين

سائرونَ في جنازة..

ونحن، من يومِ تخاصمنا

على البلدانِ..

والنسوانِ..

والغلمانِ..

في غرناطةٍ

موتى, ولكن ما لهم جنازة!!

لا تثقي، بما روى التاريخ، يا صديقتي

فنصفه هلوسة

ونصفه خطابة).

في عام 1992 اغتال الموساد الإسرائيلي عباس الموسوي زعيم حزب الله فأطلق نزار سمفونية الجنوب الخامسة من ديوانه (قصائد مغضوب عليها) والتي اتخذ من كربلاء صورة مختلفة ووجه مغاير عمّا لمسناه سابقاً، فلقد صارت كربلاء رمز البطولة والتضحية والفداء والصمود والإباء وهي مصدر الهام الجنوب اللبناني الذي حقق النصر رغم تخاذل العروبة عن نصرة الجنوب اللبناني وتقاعسهم المتعمد عن الالتحاق بخوض غمار شرف المعركة العادلة.

كربلاء كانت حاضرة في الجنوب اللبناني وهي تقارع العدو الإسرائيلي ببسالة منقطعة النظير وهذا الصمود النصر لم يكن له وجود لولا أن استمد أولئك الأبطال من كربلاء والحسين صور التحدي والبسالة والتضحية والفداء وكأنهم يرتدون عباءة الحسين.

لقد مثلت المقاومة اللبنانية الباسلة الخط المنحرف عن واقعنا المليء بالذل والهزائم والخذلان، فالعرب قد غادرها النصر ولم تذق طعمه منذ أن ارتدت ثوب الذل والخنوع حتى خلعت المقاومة اللبنانية الباسلة ذلك الثوب المهين فاستحقت هذا التمجيد …

(سمَّيتكَ الجنوب

يا لابساً عباءةَ الحسين

وشمسَ كربلاء

يا شجرَ الوردِ الذي يحترفُ الفداء

يا ثورةَ الأرضِ التقتْ بثورةِ السماء

يا جسداً يطلعُ مِن ترابِهِ

قمحٌ وأنبياء

سميتُكَ الجنوب

يا قمرَ الحزنِ الذي يطلعُ ليلاً من عيونِ فاطمة

يا سفنَ الصيدِ التي تحترفُ المقاومة

يا أيامَ عاشوراء،

ويا مآذنَ اللهِ التي تدعو إلى المقاومة

يا لعلعةَ الرصاصِ في الأعراسِ

يا فصائلَ النملِ التي

تهرِّبُ السلاحَ للمقاومة).

وفي قصيدته (منشورَاتٌ فِدَائيّة على جُدْرَانِ إسْرائيل) يستلهم الوجع من كربلاء ومن آسى فاطمة الزهراء لعله يصحّح ما تقبح من وجه التاريخ:

(نأتي بكُوفيَّاتنا البيضاءَ والسوداءْ

نرسُمُ فوق جلدكمْ..

إشارةَ الفِداءْ

من رَحِم الأيَّام نأتي.. كانبثاق الماءْ

من خيمة الذلّ الذي يعلكها الهواءْ

من وَجَع الحسين نأتي

من أسى فاطمةَ الزهراءْ..

من أُحُدٍ.. نأتي ومن بَدْرٍ

ومن أحزان كربلاءْ..

نأتي.. لكي نصحِّحَ التاريخَ والأشياءْ

ونطمسَ الحروفَ..

في الشوارع العبرِيَّة الأسماءْ)

وفي قصيدة (آخر عصفور يخرج من غرناطة) يشحذ الهمم بمجيء الحسين وثوار الجنوب للمقاومة حينها يحدث النصر المرتقب يقول:

(ظلّي معي…

حتى يظلَّ البحرُ محتفظاً بزرقته

ظلّي معي فلربّما يأتي الحسين

وفي عباءتهِ الحمائمُ، والمباخرُ، والطيوب

ووراءه تمشي المآذنُ والرُّبى

وجميعُ ثوَّارِ الجنوب)

كما أنه شبّه مذبحة قانا التي حدثت في عام 1996والتي راح ضحيتها 106 قتلى بكربلاء الثانية

(كل من يكتبُ عن تاريخِ (قانا)

سيسمّيها على أوراقِهِ

كربلاء ثانية)!!

وفي قصيدة راشيل وأخواتها تطرَّق نزار إلى الإمام الحسين عليه السلام ووصف قدسية تراب الجنوب كقدسية ثوب الحسين عليه السلام …

(دخلوا قانا.. كأفواجِ ذئابٍ جائعة..

يشعلونَ النارَ في بيتِ المسيح.

ويدوسونَ على ثوبِ الحسين..

وعلى أرضِ الجنوبِ الغالية)..

كما كتب عنه الباحث والمفكّر المغربي إدريس هاني مقالاً تناول فيه موضوع كربلاء والإمام الحسين (عليه السلام) في شعر نزار قباني بعنوان: (مع نزار قبّاني: نبكي على الرأسِ المرتِّلِ آية) قال منه:

لنزار قباني جذبة أخرى مع الحسين.. عبّر عنها بقصيدة عنوانها: (جلودنا مختومة بختم كربلاء).. فيها تجربة شعورية عميقة.. يخرج فيها كربلاء من الرميم ليجعلها عنوان نكبة عصرنا.. يتحدّث عن أكذوبة أوطان في بلاد العرب نبدو فيها مطاردين كعصافير (على خرائط الزمن) وموتى من دون كفن ولا أوراق.. كلاب ضالة تركض ليل نهار.. والبحث لم ينته حتى اليوم عن وطن هو في نظر نزار (أكذوبة).. وإذن نحن مواطنون داخل مدن البكاء أما قهوتنا...سأترك نزار يصفها:

(مواطنونَ نحنُ في مدائنِ البكاء

قهوتُنا مصنوعة

من دمِ كربلاء

حنطتنا معجونةٌ بلحمِ كربلاء)

كل ما لنا هو بقية من هذه الآلام..

(لساننا مقطوع.. ورأسنا مقطوع..)

هنا سفينةُ الحزن تسير وتمخر عباب البحر..

(مسافرون نحنُ في سفينةِ الأحزان..)

لا نعرف المنتهى لأنّنا مسافرون وكفى..

(مسافرون خارج الزمان والمكان)..

وللحرية ثمن..  ثمن أنّك تموت خارج الأوطان:

(يا وطني..

كلُّ العصافيرِ لها منازل

إلّا العصافيرُ التي تحترفُ الحرية

فهيَ تموتُ خارجَ الأوطان)

لا شيء مهما تظاهر بالنسيان الاّ وهو ملطّخ بهذه المأساة.. نكابر ونعاند وننسى، ولكن كلّ ما حولنا مختوم بختم كربلاء.. هنا يقول نزار:

(طعامنا.. شرابنا

عاداتنا.. راياتنا

زهورنا.. قبورنا

جلودنا مختومة بختم كربلاء)

تحضر كربلاء في شعر نزار قباني عبر أكثر من قصيدة، ما يؤكّد على أنّها ليست مناسبة عابرة بل يقينا في وجدان شاعر صادق اللهجة.. وها هو يعود إلى كربلاء متمدّحا هذه المرة بالجنوب.. كيف تتحول كربلاء من حال الرثاء إلى شعر الحماسة.. وكذلك هو قال قبل ذلك أنّها كانت لحظة لتحفيز الأحرار.. في الجنوب.. الجنوب اللبناني الذي سالت فيه دموع أحفاد الحسين.. كربلاء الجنوب هي المثال الأروع لأنّها أدركت سرّ ما اسماه نزار بالسمفونية الخامسة.. هنا الجنوب الذي أعاد البسمة للفواطم.. ينتصر للعدل والأرض والكرامة بعنوان حسيني مبين.. هنا سنختبر مرة أخرى شعر نزار في (السمفونيةُ الجنوبيةُ الخامسة)..

وقبل المضي في القبّانيات أحب أن أقف وقفة هنا عند المعنى الكبير لمفهمة الكفاح.. وقفة للبوح بتلك الأحاسيس الفائرة على نار آلام الحسين.. بين أبيات نزار أحبّ أن ألبس شعري.. سأبتعد قليلا لأبوح بارتساماتي.. أي شعور ذلك الذي يخامر النّفس وهي ترى أيتام أبي عبد الله في الجنوب يكسرون الصّخر بمخالب الطفولة ويقدمون الأنفس قربانا في طريق التحرير.. من يا ترى يفهم هذه الأحاسيس.. بل من يا ترى سيقهر هذه الأحاسيس؟ يقاتل الفتى هاهنا بشهامة ومزاج حسيني.. في رأس كل مقاوم تولد السيرة الكاملة للحسين.. هنا وحده الفتى يملك ناصية الحديث عن خيبر.. لا أحد فتح الحصن وكسر أضراس مرحب سوى حيدر.. هنا التاريخ تاريخ الفتى.. فالجبن مات في أحاسيس من غرف من عين الحسين غرفة بيده.. هنا السّر: حسين.. في تلك الجبال والمرتفعات والأودية التي آنست بأيتام الحسين.. والتي كانت أكثر وفاء لهم.. في كربلاء الجنوب كل شيء يقاوم.. حتى السنديان والحجر والمدر.. لا شيء في الجنوب خذل أيتام الحسين، حتى العدو قتل نفسه مكرها فداء للحسين...هنا خيبر وهنا أيضا حيدر.. وأبناؤه يزأرون زئير قسورة مرعب المنظر..

إنّ الحسين إن هو سكن القلوب فاضت لوعة العشق واهتزت رباه.. من الطبيعي أن تحبل الدنيا رفضاً وقد دشّن الحسين عهد الكرامة من نينوى حتى الجنوب.. هنا الخشية من الذكرى خشية من التحيين الرمزي لزبدة المروءة والمعنى الطّريّ للكرامة.. أقول: في هذا التحيين لرمزية الحسين والمعنى الخالد لآلام الحسين التي أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة ثورة.. لم تبرد حرارة الحسين ولا دمه ولا سيفه ولا كلماته.. هي بالأحرى سمفونية الحسين الخالدة.. دعنا نعود إلى نزار ونختبر قصيده في ضوء آلام الحسين وتدفق المعنى الخالد لقيم كربلاء..

هنا أيضا مع نزار تحضر كربلاء في الجنوب.. هذا الجنوب حكاية مرعبة في تاريخ الكفاح.. في هذه القطعة من الدنيا ينصهر ثلاث هنّ من زينة المروءة ومنبع من منابع الأصول: ما بين مزارع متهوّر باسم الأرض وعالم متزهّد بين السنديان والأرز وشاعر ينثر الكلمات كحبات القمح فوق الحقل.. ليس هناك فائض في الأرض ليكون الاستسلام هنا شريعة المهزومين.. ولا فسحة هنا لممارسة رياضة الهرولة.. ولا يوجد فائض من النّوع، لذا كان كلّ شيء هاهنا جميل.. أهل الجنوب مهما عملوا يكفيهم أنّهم في قلب مفهمة الكفاح ينعمون ويتفيّؤون تحت شجر مقاوم وجداول تمشي بنكهة الانتصار وقلوب تخفق بأنفاس الشهداء.. لا يوجد فائض في الجغرافيا للنذالة.. فأيتام الحسين هم الغالبون.. أما نزار فقد سماه الجنوب المدثّر بعباءة الحسين وشمس كربلاء.. هو الجنوب (شجر الورد) الذي عانق الفداء حرفة.. هنا خاطبت الأرض السماء.. هنا انقلبت أسباب النزول إلى أسباب الصعود.. من هنا يصّعد الموقف الطّيب:

(سَمَّيْتُكَ الجَنوبْ

يالابساً عَبَاءَةَ الحُسَينْ

وشَمسَ كَرْبَلاءْ

يا شَجَر الوردِ الذي يحترفُ الفداءْ

يا ثورةَ الأرض الْتَقَتْ بثورة السماءْ)

هنا نزار يرسم لوحة روحية تحوّل الأرض إلى مشهد لجبروت الرمزي.. لا أخفي أنّ نزار هنا كان متألّقاً، وقصيدته أثبتت لياقتها في الإقناع.. أي تصوير خلاّب هذا ونحن نسمع نزار يقول:

(يا جَسَداً يطلعُ من ترابهِ

قَمْحٌ.. وأنبياءْ).

نعم نزار، أليس في جبل عامل يوجد قمح وعلماء وأحفاد الحسين؟ وحتى التبغ في الجنوب هو دخان ينفث في وجه مرارة الزمان..

وتراه يقول:

(إسمَحْ لنا...

بأنْ نَبُوسَ السيفَ في يَدَيْكْ)

أنعم نزار، أوليس أحفاد الحسين ها هنا باسوا السيف في يديه؟ أوليس لكل شبل من أشبالهم عهد بأنّ يثأر للذبيح ؟

وها هو نزار يذبح أوصالنا بتصوير خلاّب.. يقتلنا في مذبح قصيده لأنه ما فتئ يفاجؤنا بكلام لا ندري من أي عبقر استوحاه.. آلام الحسين حين تصبح صلاة.. ولنزار مقطع ليس له في تاريخ الرثاء نظير.. عبارة ولدت من خبرة شاعر يعرف ما يقول.. فلنسمعه يقول:

(إسمحْ لنا..

أن نعبدَ اللهَ الذي يُطلُّ من عينيكْ)

وصل رثاء نزار وتخطّى الحواجز ووقف عند بيت القصيد.. عاشق تصوّف بآلام الحسين حدّ المنتهى.. هنا الحسين تحوّل إلى معبر للحقيقة.. إلى عين الله التي ينظر منها إلى مسالك الخلق وبها يحتجّ على المهرولين.. هنا الحسين عين الله التي لا تنام على ظلم ظالم.. ألم يقل أبوه:

تنامُ عينُكَ والمظلومُ منتبهٌ      يدعو عليكَ وعينُ اللهِ لمْ تنمِ

نحن أمام أجمل قصيدة في رثاء الجنوب المسربل بكربلاء.. هي عندي حتّى الآن الأجمل.. بحروفها التي تسكن بين ضلوع الحقيقة.. بحسن تجويدها لآيات الفداء.. سلام على نزار لو كانت لك هذه وحدها من بحر قصيدك لكفت.. بها تخلد حروفك النابعة من تربة الحسين.. وها هي تعانق الجنوب المكافح.. هذا الجنوب السّيد.. الجنوب الذي أعطانا شهادة ميلاد يوم تسربل بكربلاء:

(يا أيُّها المغسولُ في دمائه كالوردةِ الجُوريَّة

أنتَ الذي أعطيتَنَا شهادةَ الميلادْ

ووردةَ الحريَّة)..

الحزن هنا يؤثّث المكان.. يكسر صخب الحياة.. وأكذوبة المرح السرمدي.. لا تنسى أنّ الحزن هنا حارس للقيم.. لأنه حزن عريق موصول ببيت الأحزان.. موصول بأمّ الحسين: فاطمة:

(يا قَمر الحُزْن الذي يطلعُ ليلاً من عُيُون فاطِمَه)

فاطمة التي تعود إلى الحقل وتولد في القرى المقاومة.. هنا في الجنوب كل شيء يحترف المقاومة.. نحن أمام أنطولوجيا مقاومة تستمدّ فلسفتها من لاهوت التحرير.. لاهوت كربلاء.. وأمام سوسيولوجيا مقاومة تمتنع عن أي مقاربة.. نحن أمام مختبر للمقاومة.. الكل مقاوم: سفن الصيد، سمك البحر، كتب الشعر، حتى ضفدع الليل يقول نزار يقرأ طول الليل سورة المقاومة.. حتى فصائل النمل هنا تهرب السلاح للمقاومة.. ينادي نزار كل هذه الأشياء التي تحترف المقاومة.. ويرى أنه ينادي الجنوب ولكن بلفظ:

يا أيام عاشوراء.. هنا أيتام الحسين في الجنوب: 

(يا من يُصلّي الفجرَ في حقلٍ من الألغامْ)..

أنت كالحسين المخذول عربيا.. لا تنتظر شيئا من العرب:

(لا تنتظرْ من عرب اليوم سوى الكلامْ)..

فلئن كان أيتام الحسين قد قبلوا السيف في يدي الحسين، فاسمح لنا أن نبوس السيف في يدي الجنوب.. بل ونجمع ما تبقى من التراب تحت قدميك:

(إسْمَحْ لنا بأن نبوسَ السيفَ في يَدَيْكْ

إسْمَحْ لنا أن نجمعَ الغُبَارَ عن نَعْلَيكْ)

أنت يا جنوب في قصيدة نزار سيد الأسياد، وملحمة الملاحم.. ويعيد المشهد نفسه بأسمائه ورموزه في وصل بين السماء والأرض.. الأرض هنا تمشي بعناية الوحي.. الجنوب حيث ينبت همس الأنبياء في زفير الأشجار حين تتأوّه وهي تقاوم نيابة عن أبناء الحسين.. وكما خلدت كربلاء في التاريخ، سيخلد الجنوب في التاريخ، لآن آصرة الدم والفداء هنا متينة.. وحيث بات الأهالي هنا في معسكر حسيني كبير يقادون إلى معركة الكرامة لا أحد منهم اتخذ الليل جملا.. هذا الجنوب بات قدّيسا.. ويحكم هل في هذا شكّ؟ سيذكر الله هذا الجنوب.. وسيخلد في التاريخ.. تاريخ سلالة واحدة من كربلاء وفخ والجنوب.. لنسمع إلى نزار وهو يقول:

(سيذكُرُ التاريخُ يوماً قريةً صغيرةً

بين قُرى الجنوبِ،

تُدعَى (مَعْرَكَة).

قد دافعتْ بصدرها

عن شَرَف الأرض، وعن كرامة العُرُوبَة

وحَوْلَها قبائلٌ جَبَانةٌ

وأُمَّةٌ مُفَكَّكَة)...

من يملك أن يكذّب شعر نزار؟ أليست تلك حقيقة تتجلّى كالشمس في رائعة النهار؟ هل في ذلك شكّ كشكّ بني قينقاع في نقاوة ركب أُحد؟ ألا ترى أن من تربته يولد الحسين بين إعلان حرب وحرب؟ هنا من بحر ما أسماه نزار (معركة):

(يخرجُ آلُ البيت كلَّ ليلةٍ

كأنّهمْ أشجارُ بُرْتُقَالْ)

لا أزعم أنّني قد أجاري السمفونية الخامسة لنزار.. فهي دروب وعرة ومسالك ملتوية وحكاية طويلة.. لكنها أجادت في ربط الجنوب بأصله.. بكربلاء.. هنا حيث بقي المعنى كاملا.. في زمن اللّبس والغبار.. هنا الأرض خصبة.. والفدائي يؤمن بالحسين بعد أن يئس من الانتظار..

...................................................

1 ــ جامع الدرر البهية لأنساب القرشيين في البلاد الشامية ص (269 ــ 270)

2 ــ نشر في جريدة الزمان بتاريخ 14 / 12 / 2014

المرفقات

كاتب : محمد طاهر الصفار