من ذاكرة الازقة..

     من بين ازقة مدينة الكاظمية المقدسة حاول التشكيلي الشاب حسين داود ان يصور مشهداً يقترب من الواقعية اظهر فيه جزأً من ذاكرة المدينة المقدسة وبساطة الحياة فيها.. مصوراً ذلك بأسلوب المواجهة الكاملة للموضوع ،حيث ينفتح المكان في الافق وقباب ومنائر الروضة الكاظمية تلامس السماء وهي محاطة بعدد من الأبنية، تتخللها مساحات صغيرة من الفضاء المحدد بالأشكال الهندسية للابنية من جانبي العمل، وعلى أرضية اللوحة الموازية لأرضية المشهد تتحرك بعض الأشكال الإنسانية وشخوصها تتنوع من الرجال، والنساء ، والأطفال اللذين يجمعهم السوق ويسود عليهم طابع التعبد والانقياد لحاجة روحية تمثل المكان المقدس الذي تعلوه منائر وقباب قبتي الحرم الكاظمي المقدس.

     يصور الفنان حسين داود في هذا العمل الفني موضوعة اجتماعية تصور جوانب الحياة في علامات ورموز شعبية متاصرة في بناء إخراجي يرتبط بمقولة اللوحة فهي تعريفات جديدة مميزة تعبر عن واقع الحياة الشعبية في حوار جدلي بين المحلي الايقوني والمحلي الرمزي في حضور وخروج علامي مبرمج أعمق واشمل دلالية ؛مما أكد محليتهما عبر البناء التكويني للزي الشعبي في العباءة والعقال ، ويستجمع الفنان الشاب في هذا العمل رموزاً عربية أصيلة تتمثل في المفردات التي صاغها في كل واحد كالقباب والمنائر والابنية المحيطة ، والتي تمثل بدورها البؤرة الرئيسية في تكوين العمل.. يعاضدها من الجانبين كخلفية إنشائية وتاريخية في الوقت نفسه واجهات الابنية المزينة بالشناشيل البغدادية ، اذ يتميز من خلالها البناء العام للعمل الفني وباختزال دقيق للاشكال ليكون امام القارئ رؤية فنية معاصرة لا تنفصل عن تراثها الشعبي ذات خصوصية يستقل بها الفنان من الضياع في التجارب الكثيرة التي سادت مسيرة الفن العراقي بشكل عام .

لقد اتخذت البنية العامة للوحة نسقاً زخرفياً يعتمد في تكوينه على شكل النقطة والمثلثات والأقواس في تداخل وتراكب دقيق يمنح العمل صفاته التزينيية الشعبية التي فرضت طبيعة معينة على العمل الفني تتسم بالتفصيل في تكوين وحداته بغية إيجاد بهرجة شكلية ذات اتجاه زخرفي اتجاه جميع القباب إلى الأعلى ويكسر من رتابة الاتجاه التنويعات الخطية والزخرفية التي اتخذت اتجاهاً أفقيا يوازي الاتجاه العمودي للأقواس والقباب.

     وتعد معالجات الفنان حسين داود ذات هاجس خاص - طامح على الدوام - إلى إمكانية تحقيق الجمع بين الشكل الأكاديمي ،ورمزية المضمون والحس التجريدي الذي يصبح بمثابة الإمكانية الوحيدة للموائمة بين البناءات الأكاديمية والرغبة في الانفتاح الدلالي عبر سحب الشكل وبنية العمل بكاملها نحو منطقة التجريد عبر الايهام اللوني أو البساطة في تنفيذ الأشكال وسرعة الأداء وأثار الفرشاة أو بواسطة الطابع اللوني المتنوع لإعماله والذي يبرع فيه الفنان عادة بإنشائه عبر التحكم بالعلاقات اللونية وتدرجات الضوء وتفعيل الإيقاعات داخل حدود الأشكال وخارجها بحيث يصبح العمل الفني بمثابة عالم مستقل تحكمه علاقاته الخاصة ويستقر في زمانه ومكانه الخاص على مقربة من موضوعاته لكنه لا يحاكيه،ويعود الفنان في هذا العمل الفني إلى ذكريات الطفولة ،أو يخترق بها خفايا عالم تراث الشعبي حيث يمازج الفنان هنا بين البناء الهندسي للشناشيل الخشبية والقبة، و المئذنة وبين زخارف بعض الشبابيك الظاهرة على جانبي اللوحة بما يوحي بان شخوص اللوحة وأفكارهم ،ومشاعرهم مغلفة بعالم التراث وروحية المكان وجمالياته ومفرداته ورموزه التي تحفظ الانسان او الفرد العراقي وتصنع ذاكرته وتغني مخيلته الفنية والجمالية .

كاتب : سامر قحطان القيسي