رسائل جمالية..

اللوحة من ابداع التشكيلي العراقي شداد عبد القهار وهو من قلائل الفنانين الذين حاول الاهتمام بالنوع الفني بعيدا عن الكم، وقد نُفذت اللوحة بأسلوب تجريدي وبتقنيات مختلفة ، صور فيها الفنان مربعاً لونياً مضيئا قُسم إلى مجموعة مربعات منتظمة داخل اطار اللوحة، تتفاوت ألوانها بين الغامق والفاتح وفق مبدأ التسطيح ، فالفنان ينطلق بمنظومته الوجدانية والمعرفية نحو التجريد ، والابتعاد إلى حد ما عن الواقع المرئي والنزوع إلى عالم مثالي يسمو بالأشكال الخالصة بعيداً عن الزمان والمكان لينطلق إلى فضاءات كونية واسعة تحفز المخيلة وتعمق الإحساس البصري في ماهية جديدة للعمل الفني، فالرسام في هذا الخطاب البصري يسعى إلى تكثيف عناصر الجمال الكوني بتجلياته عبر علاقات شكلية مجردة، تعبر عن حقائق روحية خفية ترتقي بذات الفنان لصياغة أنموذجه المثالي من خلال توليف هندسي يمكن عن طريقه النفاذ للفكرة المطلقة في لعبة تعارضات بين المرئي واللامرئي .

حاول شداد جاهدا الجمع بين المخيلة والإحساس المادية، فعلى مستوى اللون يصور الفنان بألوان قريبة من تدرجات الوان الحنائي والبرتقالي والأصفر، لتأسيس عالمه الفوقي الخاص بعيداً عن عالم الواقع، فاللون هنا محتفل بذاته ويكسب اللوحة نوع من السحر الجمالي، أما على مستوى الأشكال فقد سعى الفنان إلى تفجير مضامين الأشكال وإكسابها لغة إشارية رمزية.

 ويلاحظ المتلقي المتأمل بتفاصيل اللوحة وعناصرها وسطوحها المجردة أشكالاً مثلها الفنان بعلامات تشخيصية ورموز تحيلنا إلى أفكار وثيمات متعددة، ففي أسفل يمين اللوحة ثمة مربعات صغيرة تبدو كنقاط ملونة ، شكلت إحدى نقاط الجذب المتعددة في اللوحة ، فيما بدا في مكان آخر من اللوحة شكل لمثلث وبداخله ، حزوز شكلت جسدا بشرياً اعتاد الفنان استخدامه كثيمة في معظم لوحاته، وهو ذا دلالات متعددة، وقد اخترق هذا الجسد مساحة المربع كما يمكن ان نلاحظ شبح لوجه لا تكاد تعرف ملامحه أو جسد مقلوب يخترق بعض من مساحة المربع، وتبدو على السطح أيضاً حزوز وخطوط متناثرة رسمت بعفوية وسرعة في الأداء، اضافة الى بعض الخطوط السوداء التي شكلت أشياء قد تبدو مبهمة للمشاهد، لكنها أضافت حركية للسطوح الهندسية وحررت اللوحة من رتابة الشيء الثابت .

ان نمط الصورة يقوم على خلخلة التعيين في بنية الشيء الواقعي لإيجاد علاقة غير مرئية تحفز نظام الإدراك لدى المتلقي وتجبره على تغيير مساره تجاه اللوحة ، وهكذا ينفتح الباب أمام تعدد القراءات وتأويلها ، فمضمون العمل لا يكشف عن نفسه مباشرة ، ولكن يجعلنا نبحث في الدلالات والرموز ، إذ يمكن للمتلقي ان يؤول بعض الأشكال التي سعى الفنان ان تكون غريبة وغامضة وغير متوقعة تتعدى حدود الطاقة الحسية دون ان يكون هناك دال محدد يمتلك دلالة محددة . إذ ليس للعمل نقطة مركزية مهيمنة تستقطب اهتمام المشاهد ، بل ان كل عناصر التكوين داخل العمل تمتلك قيمة متساوية ، فيستطيع المشاهد ان يختار أية نقطة يبدأ منها ليجول داخل العمل .

وعليه من الممكن ان نشخص حالات من التشظي الاسلوبي في هذا العمل من خلال الانفتاح بالرموز والأشكال كموجودات تنتمي إلى عوالم مختلفة، وتشترك بتجربة عاشها الفنان اراد من خلالها ان يرسل رسالة جمالية - مفادها ان الانسان ليس سوى ذكرى ورقماً في الحياة- اسبغ فيها من روحه الابداعية ليعبر عن روح الجماعة.. معتمدا بإظهار ذلك على اللامركزية في بنية السطح التصويري وإعطاء دور مساوي للمهمش من الاشكال إزاء المركز، فضلا عن  تفكيك مكونات المشهد الواقعي وتفعيل حيز الإحالات اللاعقلانية التي اتضحت من خلال التغريب في الأشكال والخطوط، اضافة الى استثمار الفنان للكثافة اللونية  في تنويع أشكال اللوحة وإعطاء السطوح المستوية حركية توحي للمشاهد بوجود شيء ما ، وتكسر من رتابة السطح الهندسي والذي شكل حجر الزاوية في عمله هذا ، مما أدى إلى تشظي بنية السطح التصويري وأعطى للعمل قيمة جمالية تحسب للفنان .

كاتب : سامر قحطان القيسي