النسبي والمطلق في العناصر الفنية الاسلامية..

ان الروح التجريدية التي رافقت مسار الرسم الحديث، سواء تعلق الامر بالأفكار ام بالأشكال، ما هي الا محاولة جادة من الفنانين لبلوغ صفة التسامي في الفن، والفن الاسلامي هو خير مثال على ذلك لما يمتلكه من روحية في بحثه عن الفكرة الدينية وترحيل المدركات الحسية الى مقتربات التجريد المطلق، فالفن الاسلامي ذو المرجعية الدينية التي تستند على العقيدة الاسلامية في وحدانية الله جل شأنه سعى الى توحيد الفنون الجميلة والتطبيقية وصهرها على مر العصور لتمثيل الرؤية الروحية للعقيدة الاسلامية، وان اختلفت المضامين الروحية بينهما، فهما متشابهان في موقعهما التجريدي تجاه الفن والقيم الروحية .

وتكشف اللغة البصرية في الفن الاسلامي عن قدرة لامتناهية من الانفتاح نحو المطلق - من خلال لغة التجريد - ، فالتجريد في الفن الاسلامي هو عملية الغاء لصفات الاشياء وخصائصها الحسية، لان القرب من الحق لا يكون معه وجود للشيء، اذ ان وجود الشيء لا يمكن ان يكون قائماً بذاته بل بالقدرة الالهية، فتغييب وجود الشيء ونفيه لذاته من تعلقاته المادية ما هو الا تسليم وخضوع مطلق لعظمة الله وقدرته ، وهذا يعني ان الفن الاسلامي وجد في نظرته للنسبي والمطلق طريقه للتسامي لإعلاء قيم السماء، فالسعي الى مالا تدركه الابصار يلغي المسافات والابعاد ويخرج من عالم الطبيعة متوجهاً الى عالم كلي،  ( ولله غيب السموات والارض واليه يرجع الامر كله)، وفي قوله تعالى ( لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير).

 ان المسلم وعلى الرغم من تسليمه بوحدانية الله جل وعلا.. وجد في التطبيقات الارضية ما يستطيع ان يبرهن على تجليات المطلق المتمثل بالله (سبحانه وتعالى)، سواء تعلق الامر بالفن ام بالحياة، فالغاية هي تحقيق مُثل السماء على الارض والارتفاع بالإنسان ونشاطه الى مستوى الكمال فما هو سماوي يتعالى بلا شك على ما هو الارضي، لكنه يكتسب معناه وتشع دلالته ويتأصل تصوره ارضياً، ويبرز المطلق متوقفاً زمانياً ومكانياً على النسبي، ولكنه لا يفهم الا من خلال النسبي، والفن الاسلامي خطاً او زخرفة وعلى الرغم من تطبيقاته الارضية يكتسب بعداً دينياً فالفنان المسلم سعى الى تحويل العناصر الى جواهر متوحدة لها حقيقة واحدة وهي الحقيقة الأحدية، وان هذه العناصر تسعى الى الكمال من خلال تساميها على الواقع الحسي وانجذابها نحو المطلق الذي هو نور وجودها، وبما ان المطلق لا يمكن تحديده مكانياً يتكرر العنصر ويتسلسل ويدور دورته التي تبدو انها لا تتوقف ابداً في حالة اقرار بلا محدودية المطلق وعموم نوره لكل الوجود.

وعلى ذلك فان الجمالية التي اكسبها الخط العربي والزخرفة الاسلامية لها روحية متميزة كون الخط والزخرفة يتسمان بروح تجريدية وتزداد كلما اقترب الخط الاسلامي من تجريديته وتخليه عن الوظائفية، فالذي يميز الخط العربي الاسلامي من خلال صفة الاشتباك في التكوينات الزخرفية، هو قابليتها على الانفتاح والتجدد والتوالد الى ما لانهاية، وهذا ما يقرب الخط والزخرفة الاسلامية من الروح الموسيقية، ويرى بعض الدارسين في هذا الصدد بان هناك تقارباً بين الكتابة العربية والتجريد، والذي تقترب روحيته من روحية الموسيقى، اذ يرى فيه شكلاً من اشكال الفكر الجمالي، ونشاطاً من انبل النشاطات التي جرت فيها المحاولة برفع الفتان الى مستوى المناخات الروحية من غير ان تنزع عنه النكهة الحسيه الحية للتأمل والتخيل كما يجد في العلاقة بين الكتابة العربية والتجريد والموسيقى تلك التي تؤلف وحدة واحدة تنزع الى خلق مناخ من الانخطاف يشارف به حدود المطلق، وقد تخلى الفنان المسلم عن التشبيه، والغى الصفات المادية للشيء، ويبدو انه اراد بذلك تصعيد الحسيات والتسامي بها من الجزئي الى الكلي، ويرى بعض المهتمين في هذا الشأن ايضاً، ان اشتغال المسلم على مبدأ الاستحالة في الرسم من خلال التركيز على التسطيح والغاء الظلال والمنظور التقليدي، اثبت لاواقعية الاشكال الحسية، او بمعنى أخر عمد على نفي وجودها الطبيعي وجعلها اقرب الى الماهيات منها الى الحسيات. 

كاتب : سامر قحطان القيسي