فاطمة الزهراء (عليها السلام) رائدة الحِجَاج القرآني
تتوالى الأيام وتنقضي الدهور وتبقى السيدة الزهراء (عليها السلام) ذلك الكوكب الدري الذي لا يتغير بهاؤه ولا يخفت سناؤه تبقى الكلمة الطيبة التي أصلها ثابت في الأرض وفرعها في السماء التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
لم تولد الزهراء (عليها السلام) لتموت أو لتقف في متاحف الشمع أو لتكون نظرية في برزخ الإثبات أو لتسكن في أسطر مكتوبة في صفحات مطويات أو لتكون على طاولة نقااش وبحوث الأقلام مثلما للزهراء (عليها السلام).
فالمؤمنون عاشوا حياة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في أقوالهم و في سلوكياتهم و في عواطفهم و في ضمائرهم من دون أن يتثاقلوا منها أو ليسأموا أو ينتابهم الملل وإنما تجد الأرواح تتجاذب نحوها تجاذب الفطيم إلى محالب أمه ذلك لأن عطرها عطر الجنة أو لأنها الحقيقة المجهولة أو لانها القبر المجهول أو السر المكتوم أو ام أبيها.
ولعل هذا الذي جعل السيدة الزهراء (عليها السلام) عنوان لتأليف مئات الكتب وآلاف البحوث وملايين الخواطر من قبل المثقفين وأنصاف المثقفين .. وكيف لا والقرآن الكريم أول من شق الطريق للناس بالبحث عنها بالثناء عليها في آياته وبيناته فسلطت الضوء على أثر القرآن الكريم في خطبتها المعروفة بـ (الخطبة الفدكية) على ضوء مصادر الخطابة في العصر الإسلامي؛ إذ لم تسم بالفدكية إلا وهي تحمل كثيراً من معاني التضحية والفداء الذي لازم الزهراء (عليها السلام) منذ أن فتحت عينيها على الحياة وهي في شعب أبي طالب ولم ينتهي دور فاطمة الزهراء (عليها السلام) في مكة المكرمة وإنما امتد مع هجرتها إلى المدينة المنورة حتى آخر لحظة من حياتها الشريفة حتى لم تتوانَ في الدفاع عن إمام زمانها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقد نصرته بكل وجودها حتى استشهدت وهي تحمل معها آثار الظلم الذي أصابها من الضلع المكسور والجنين السقط وكلمات ما زال صداها يفضح صوت التاريخ من خطبتها في أرض فدك نحلة أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومثلما كان للخطيب في العصر الإسلامي مصادر لابد أن يرجع إليها في خطبته كالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة المتمثلة بأحاديث الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم ).
لقد استطاع الخطيب الإسلامي بأسلوبه الحجاجي أن يوظف القرآن الكريم في خطبته حتى يستطيع بمشافهته للجمهور من أن يقنعهم ويستميلهم من خلال ما تمليه عليه ثقافته من الرجوع لمصدره القرآن الكريم فإما أن يفتح خطبته بآية من الذكر الحكيم ويبني عليها كامل خطبته مستفيداً بذلك من موضوع الآية في عرض أفكاره للناس أو من خلال الاقتباس من القرآن الكريم في ثنايا خطبته للتدليل على صحة رأي أو لتنفيذ رأي آخر ربما يكون الاقتباس من أجل نسج ألفاظ القرآن الكريم بألفاظ الخطيب حتى يكون الكلام قطعة نثرية ونسيج رصين.
وصاحبة الذكرى مولاتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام) برعت في توظيف آيات القرآن الكريم لتكون نصيب خطبتها (عليها السلام) من هذا المصدر في التدليل والتنفيذ من خلال عرضها لآيات المواريث التي نص عليها القرآن الكريم والتي تزيف الحديث المفترى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبينت أيضاً اقتباسها من ألفاظ القرآن مع ألفاظها حتى أكسب الخطبة رصانة وقوة لا تدانيها خطبة خاطبة أو خطيب غيرها وقد عملت عرض لألفاظها وما يقابلها من آيات القرآن الكريم.
حقا.. فبفضل أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أذاب الإسلام العصبية القبلية وأصبحت السيادة للدين لا للنسب والإخاء للرحمن لا للعصب وأن التغيير في العقلية العربية كان يستلزم حتماً تغيير ما يصدر عنها من فكر أو تصور أو قول، فالشاعر الذي كان يقطر لسانه سموم العداوة والبغضاء والفارس الذي كان يرتع بالدماء والاشلاء والخطيب الذي يهيج المنافرة والمفاخرة والهجاء والغني الذي يتاجر بقوت الفقراء كلهم وقفوا منصتين صامتين لدعوة الإسلام فلا يقولون ولا يفعلون إلا بإذن من الصادق الأمين وهذا ما أفصحت عنه السيدة الزهراء (عليها السلام) في خطبتها وهي تشير إلى عظمة الرسول القائد (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ قالت: (وكنتم على شفا حفرة من النار؛ مذقة الشارب ونزهة الطامع وقبسة العجلان وموطن الأقدام وكنتم تشربون الطرق وتقتاتون القدة والورق أذلة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله بأبي محمد).
فكما أشرنا فيما سبق أن الخطيب الإسلامي بات من الضروري في مكان أن يرجع إلى القرآن الكريم على اعتباره المصدر الأول الذي يملي عليه الرجوع إليه في أمة أصبحت تدين بدين الإسلام لها وترى منه هذا الكتاب مشتملاً على أصول الدين المشتمل على الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر والائتمار بالمعروف والانتهاء عن المنكر وهي أمور تتصل بالعاطفة والوجدان فالدعوة إليها والحث عليها يقتضيان الأسلوب الخطابي القوي المؤثر الفعال وهذا ما دعت إليه السيدة الزهراء (عليها السلام) في خطبتها التي ضمنتها القرآن الكريم وكان استعمالها القرآن الكريم لا يعدو أن يكون من خلال ما يأتي:
الأول: استعمال آيات القرآن الكريم بصورة مباشرة الغرض منها هو التدليل:
فكثيراً ما يحتاج الخطيب البارع إلى التدليل على صحة رأيه بأدلة منطقية مبنية على مقدمات ثابتة يقينية وأي أدلة ثابتة يقينية ترقى إلى الأدلة القرآنية التي اعتمدتها الزهراء (عليها السلام).
فتوزعت الآيات القرآنية في خطبتها كالآتي:
أ- {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} وبعد مقدمتها افتتحت خطبتها بذكر ابيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي تدلل على أن الرسول من العرب يشق ويعز عليه وقوعهم في الشدة لأجله حريص على توفير وسائل السعادة لكم بالمؤمنين من هذه الأمة رؤوف رحيم كلمتان مترادفتان معناها العطف واللطف والحنان.
ب- {أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} وجاءت هذه الآية بعد قولها: (ابتداءاً زعمتم خوف الفتنة) وقد دللت باليقين القرآني أن الفتنة أنتم وعملكم هو الفتنة المفسدة غصبتم الحقوق عن أهلها لأجل الوقاية من الفتنة حسب ادعائكم وأي محنة أعظم من تغيير مجرى الإسلام وتبديل أحكامه وغصب حقوق أهل البيت (عليهم السلام) ومعاملتهم بتلك القسوة والخشونة.
ج- {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وجاءت هذه الآية الخطيرة بعد أن حذرتهم من تركهم الحكم بالقرآن فيكون ذلك خروجهم عن ملة الإسلام الأمر الذي يؤدي إلى الخسران المبين في الآخرة.
ثانياً: استعمال آيات القرآن الكريم لغرض آخر وهو التفنيذ:
ويكون عن طريق مناقشة آراء الخصم وأدلته لإبطالها سواء أكان التفنيد للآراء العامة التي دعا إليها الخصم أم النتائج التي استنبطها وكثيراً ما يضطر إلى تفنيذ ما قاله خصمه ليمحوا من النفوس أثره وهذا ما استعرضته السيدة الزهراء (عليها السلام) لكل آيات الإرث التي تفند الحديث الذي اختلقه نفر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونسبوه إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فأبطلت ذلك الإدعاء بالأدلة القاطعة والحجيج الساطعة المأخوذة من القرآن والتي أعجزت ذلك النفر عن تفنيدها والتي جاءت بعد قولها: (يا ابن أبي قحافة أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث بي؟ لقد جئت شيئاً فرياً؟ أفعن عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول {وورث سليمان داود} وخبر زكريا إذ قال {فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب}).
يتبين من ذلك المقدرة الخطابية التي بلغتها السيدة الزهراء (عليها السلام) باستشهادها على كلامها بآية قرآنية.
كانت مصادر الخطابة واضحة وجلية في خطبة الزهراء (عليها السلام) وموزعة بشكل هندسي يدل على إمكانية وقدرة عالية في فن الخطابة.
بدأ المصدر الأول وهو القرآن الكريم أكثر وضوحاً من غيره في مشهد الخطبة؛ ذلك لأنه كان لزاماً عليها من الرجوع إليه لتزييف الحديث المفترى على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) .
دلت الخطبة على مقدرة الزهراء (عليها السلام) الخطابية وتمكنها من اللغة والثقافة الأدبية حتى انتجت مثل هذا الكلام الذي أصبح مثار جدل بين الباحثين والمؤرخين من وقته إلى هذه اللحظة.
نعم.. كانت خطبة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) خطبة ارتجاليّة منظّمة منسّقة تستفيض فيضها من آيات القرآن الكريم، بعيدة عن الاضطراب في الكلام، و منزّهة عن المغالطة والمراوغة والتهريج والتشنيع، بل وعن كلّ ما لا يلائم عظمتها وشخصيّتها الفذّة، ومكانتها السامية، وتعدّ هذه الخطبة معجزة خالدة للسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وآية باهرة تدلّ على جانب عظيم من الشفافة الدينيّة وتوظيفها القرآن الكريم في خطبتها، وما التي كانت تتمتّع بها الصدّيقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من عظمة وبلاغة دينية.
مازال أثر هذه الخطبة باق إلى الوقت الحاضر؛ لما لها من أثر كبير في قلوب محبي الزهراء وأهل بيت محمد (عليهم السلام أجمعين) .