الاشكال الفنية.. بين الواقع والايهام

يقتنص الفنان التشكيلي بموهبته ودربته نصوصاً فنية تحاول عين المشاهد المتلقي ترجمتها ومعرفة كينونتها لتكون بعد ذلك نصاً تدركه العين، فالواقع ان اللون في العين هو لغة، والشكل والخط لغة ايضاً، وتقنية التنفيذ وضربات الفرشاة على اللوحة لغة اخرى.. تجمع بدورها الاحجام والمواد والاشكال داخل حدود اللوحة، و تقع على العين مسؤولية تركيب المادة المرسومة وتحملها بممكنات التعبير واحتمالات الانفعال، فهي لغات تختزنها العين من ما ينتشر على سطح اللوحة او على واجهات الابنية والنقوش والمنحوتات ، فالتشكيل تحويل لما يمثل امام العين الى نصوص تمنح الاشياء والالوان دلالات غير دلالاتها في الواقع تقود العين بدورها الى اختراق المرئي والتحكم في مداراته. 

ولا شك ان كل هذا ممكن عن طريق الخضوع لسياق الايهام - الذي يبثه الفنان من خلال لوحته - بين الواقع والمتخيل الذي شكلت ثنائيته عبر العصور المختلفة سؤال الهوية عن التاريخ والانجاز، ومحوره المنضوي على اعادة صياغة اخرى للتاريخ، فمن خلال التأمل لهذا الانجاز الفني الايهامي التخيلي سوف يجد القارئ بين عناصره واشكاله غزارة وكثافة فنية غير متوقعة لم يكن يسيراً عليه فهمها مع غياب فهم العلاقات والانتقالات النوعية من سياق الى اخر ومن نظام الى اخر، ولكن نجد في محصلة ذلك التأمل ان الايهام المبثوث من قبل الفنان قد شكل بين الواقعي والمتخيل ذاكرة التشكل وخطابه ونظامه، فعملية الايهام يغلفها ويحيط بها فعل التواصل بين اللوحة والمشاهد، وان تعقيد عملية التواصل يؤدي حتما الى ما هو وهمي، حيث تدار لعبة الايهام المتبادل بين الاثنين ويحاول كل من الفنان والمشاهد فك شفرات الاشكال لإنجاز فعل التواصل مع العمل الفني.

وعلى ضوء ذلك تنجز عملية الابداع والخلق الفني فعلها في التذوق، فكل انسان هو اجتماعي ويعيش في بيئة معينة ولها طبيعتها ومناخها.. وبإمكانه ان يصنع لنفسه ايهاما بالعالم وهو ايهام متأرجح بطبيعته، فتارة ما يكون شعري وتارة اخرى عاطفي حافل بالفرحة والحنين او السوداوية والاحزان تبعا لطبيعة الشخص، وليس لمنتج العمل ومنفذه الا ان يعيد بإخلاص انتاج هذا الايهام بكل طرائق الفن التي تعلمها والتي يستطيع ان يستعملها .

ان تفكيك الاعمال الفنية التي تقدم نفسها كونها مموهة او تخيلية الاشكال ينبني على ان هذه الاعمال ومنتجيها قابلة على تحمل مسؤوليتها امام المشاهد، اذ يجب ان تكون مقنعة ومقتنعة بالإيهام الذي تحدثه، مثل تصوير بعض الروايات والقصص الخيالية، وهذا بطبيعة الحال قد يكون قائما على اساس التصديق الكامن بالإيمان الجماعي بالحادثة او الرواية المرسومة ،

 فالإيمان الجماعي بشيء ما يؤسس في هذا المجال قاعدة تصديقا لأهمية وفائدة الفن في المجتمع، ويبدو ان ذلك يكون ادق واكثر تأثيراً من الواقع الذي يستطيع المشهد المرسوم ان يحدثه، ولكي نفهم تأثير هذا التصديق بتمييزه عن التأثير الذي تحدثه العين، ينبغي ان نلاحظ ان هذا التركيز يرتكز على الاتفاق حول الافتراضات المسبقة، او بدقة اكبر، مخططات البناء التي يدمجها  كل من الرسام والمتلقي في انتاج العمل والتي تصلح للكشف عن انها مشتركة بين الرسام والمشاهد أي انها تمتلك مقومات عالم الفهم المشترك بين الرسام والمشاهد، فالاتفاق شبه الشامل حول هذه البنى، ولاسيما البنى المكانية والزمانية، هو اساس الايمان الجماعي وتصديق واقعية العالم، اذ ان المكان والزمان في المنجز الفني لهما وجود محمل بالمتخيل والوهمي وعبر التمثل والتمثيل في كل النتاجات الفنية وعبر العصور المختلفة.

كاتب : سامر قحطان القيسي