اقترنت النتاجات الفنية التشكيلية في اغلب الحضارات وعلى مر العصور- وعلى وجه الخصوص الحضارة الإسلامية - بالتعبير عن القدرة المطلقة متخذة تكوينات مختلفة ضمن وحدة فنية جسدية متكاملة.. وهذا ما نراه متجسداً في فنون التصوير الإسلامي التي ابدعها الفنان المسلم وغير المسلم ممن حاولوا توثيق الحياة العربية الاسلامية ونقل واقعها الى بلدان الغرب من المستشرقين.
فالفكر الإسلامي يستلهم صوره وأفكاره من الموروث الفكري والعقائدي من أدب وملاحم وأساطير ، والفنان يؤمن بوجود قدرة هائلة مطلقة تتحكم في صفات الكائنات الظاهرية ، ومن هنا فأن النتاجات الفنية ترتقي بالحدس صعوداً، حيث تلعب القوة التخيلية دوراً مهماً من ناحية تكوين البيئة التصويرية ، واستفادة الفنان من الإعجاز الإلهي والأساطير والحوادث التاريخية والحكايات الشعبية ومدياتها اللاشعورية التي تمتلك بدورها أبعاداً اعتقادية تمت بصلة إلى حياة المجتمع وطقوسه وجميع ممارساته الاجتماعية، ليشمل ذلك توظيف كل الأشكال لتي تحمل دلالات رمزية تدل على عناصر مجتمع الفنان، بحيث يكون هو اللغة البصرية الجمالية التي تحمل رموزاً شعورية ولا شعورية، لها مرجعياتها في حياة الشعوب الإسلامية ،وتشير بعض الدراسات الجمالية إلى ان طريقة تشكيل الخطوط والألوان والعناصر في هكذا لوحات فنية تسهم الى حد كبير في سعة نطاق المعاني الممكنة لها في الخارج بإشارتها لأصولها في العالم المادي وفي العالم الداخلي من خلال رمزيتها، فضلاً عن جماليتها لكونها تستخدم وسيلةً لنقل الأفكار وواقع المجتمع وخيالاته، كونها توظف الأشكال بطريقة لا تستخدم في فصلها عن معانيها في الواقع ،بـــل على العكس من ذلك، فهي تزيد من نطاق المعاني بحسب الطريقة التي يرسم بها الفنان.. وحسب علامات مكان البناء و تركيبة العناصر، ونجد أن هناك منطقاً عقلياً قائــماً على أسس هندسية ورياضية وروحية في نفس الوقت وهي منسجمة فـــي وحــدة فنية تتسم بصـــرامة وفاعلية قصديه غير متجاوزة لقـدرة الخالق جل وعلا.
وهذا ما نراه متجسدا في اللوحة اعلاه الموسومة بــ( يوم عاشوراء ) وتحمل توقيع الفنان ( برونو ريشتر) - مستشرق أميركي .. من أصل ألماني -، التي صاغ مفرداتها والوانها الرائعة عام 1915 م وجاء بها كتوثيق لذكرى احياء يوم العاشر من محرم الحرام في مرقد ابي عبد الله الحسين عليه السلام في كربلاء المقدسة في العهد العثماني، وهي كما واضح امام المشاهد قد صيغت عناصرها بتقنية الزيت على القماش وبتدرجات لونية رائعة اظهر فيها الفنان اهتمامه بمدى تأثره بقداسة المكان والمقام ومدى عظم الحدث التاريخي والانساني باستشهاد الحسين عليه السلام بطفوف كربلاء، ومنها برزت فكرة اللوحة التي اثارت في نفسه انفعالات وجدانية خالصة تركت انطباعاً دفعه الى تكريس خبرته الفنية لتجسيد قدسية وعظمة هذا اليوم الاليم والمقام المقدس.
عمد برونو الى معالجة هذا العمل الفني بطريقة واقعية ممزوجة بروحية الاسلام ومقدساته إذ نُشاهد في هذه اللوحة مجموعة من التكوينات الفنية تشكل مجتمعةً بنية العمل الفني المتكاملة والتي تشغل مساحة اللوحة طولاً وعرضاً، اذ تم توزيع الخطوط والالوان في فضاء اللوحة بعناية تامة وبشكل يجعل المشاهد متأثراً بقدسية المكان والزمان مما يجعله حافزاً للاستقصاء عن شخص الامام الحسين عليه السلام لدى الغرب او حتى الشرق ممن يجهلون من هو سيد الشهداء عليه السلام وما حكاية يوم عاشوراء، وقد أعطى الرسام عمقاً للعمل الفني من خلال مهارته في استخدام الالوان والخطوط اللينة الرقيقة والناعمة بإتقان ودقة، فمن خلال التبادل اللوني ووضعه لكتل الوان الأحمر والاصفر والبني وتكرارها بشكل دقيق واستخدامه للون الأخضر في بعض الرايات - كما هو واضح في الراية الخفاقة اعلى القبة الشريفة الموسومة باللون الاصفر الذهبي وبعض الرايات في اقصى يسار اللوحة -، ازداد إشعاع الالوان وبالخصوص اللون الاحمر والاصفر وكأنهما متجاوران في اللوحة، فضلا عن تداخل المشاهد المكونة للوحة من خلال موازنته بين الالوان الحارة والباردة مما خلق انسجاما وتداخلا بين الاشكال وبالخصوص ما نراه في الشعاع الاصفر النير المنبثق من داخل بوابة الذهب المؤدية الى الضريح الشريف الى الصحن المبارك والاحاطة بمن فيه وكأنه يصور العناية الالهية المحيطة بزوار ومحبي ابي عبد الله الحسين عليه السلام.
من هذا نستطيع القول ان ريشتر قد وفق في هذه اللوحة - شأنه شأن المستشرقين الاخرين ممن حاولوا نقل الصورة الواقعية للحضارة العربية الاسلامية - في إثارة الانفعالات الدينية والعقائدية للمشاهد من خلال انتقائه موضوعة اللوحة واستخدامه لغة العاطفة والوجدان للتعبير عن مضمون فكري وروحي مقدس يقترب من جوهر الحياة العربية الاسلامية الزاخرة بالمعتقدات والتقاليد المتوارثة، حيث استطاع التوفيق بين الشكل والمضمون مقتربا بذلك من مفردات البيئة العربية الاسلامية بتمسكها المستمر بكل ما هو مقدس .
اترك تعليق