مرجعية الفقهاء

معتصم السيد أحمد

الإمتدادُ الرّساليُّ في عصرِ الغيبة

إذا نظرنا للتّشيّعِ بوصفِه واقعاً ملموساً، أو كحركةٍ إجتماعيّةٍ، نجدُه ظاهرةً إنسانيّةً لها خصوصيّاتُها الحضاريّةُ، فهوَ أوّلاً أحدُ مكوّنينِ لبُنيةِ الواقعِ الإسلاميّ، وثانياً يمتازُ على المكوّنِ الآخرِ بكونِه إطاراً إجتماعيّاً مُتفاعِلاً ومُنضبِطاً ضمنَ إطارِ قيادةٍ دينيّةٍ، فإذا جازَ لنا التّفريقُ بينَ الإسلامِ كمبدأٍ، وبينَ الإنسانِ المُسلمِ كنموذجٍ لذلكَ المبدأِ، يجوزُ لنا القولُ: إنَّ النّموذجَ الشّيعيَّ أكثرُ إنضباطاً بقيمِ الإسلامِ منَ المُكوّنِ الآخر.

وللتّدليلِ على ذلكَ يجبُ أن نُفرّقَ بينَ نوعينِ مِن طُرقِ التّقييمِ والدّراسةِ، بينَ طريقةٍ تستهدفُ البُعدَ الحضاريّ والإمتدادَ التّاريخيّ للطّائفةِ، وطريقةٍ أُخرى تستهدفُ المكوّنَ العقائديّ والفكريّ، والفرقُ في أنَّ الأولى تقتربُ منَ الواقعِ، والثّانيةُ تقتربُ منَ العقلِ وآلياتِ الوعي والفهمِ، والأمرُ الذي نقصدُه هوَ الكشفُ عنِ البُعدِ الخارجيّ للكيانِ الشّيعيّ.

والتّشيُّعُ ضمنَ البُعدِ التّاريخيّ يُمثّلُ تيّارَ الرّفضِ والمُعارضةِ لكُلِّ أشكالِ الهيمنةِ، بعكسِ المُكوّنِ الآخرِ الذي ما زالَ يُمثّلُ تيّارَ الموالاةِ لكُلِّ الأنظمةِ السّياسيّةِ التي حكمَت، صحيحٌ أنَّ التّشيُّعَ قَد ضحّى بالكثيرِ في سبيلِ هذا المبدأ، وما زالَ يُعاني مِن عداواتٍ وثاراتٍ تُوارثَت معَ الأيّامِ، ولكنّهُ ربحَ دينَه وعقيدتَه، ولَم يعترِف بأيّةِ سُلطةٍ حتّى وإن كانَت مِن كبارِ الصّحابةِ، طالما لم تكُن بسُلطانٍ منَ اللهِ، وحافظَ بذلكَ على مُكوّناتِه الدّينيّةِ والثّقافيّةِ بشكلٍ مُستقلٍّ عَن أيّ نظامٍ سياسيّ، ولم يُضطرَّ يوماً للتّنازلِ عَن أيّ مبدأٍ مُجاراةً لأيّ هيمنةٍ سياسيّةٍ، وقَد ساعدَهُ في ذلكَ وضوحُ فكرتِه، وترابُط أتباعِه في نظامٍ دقيقٍ يتّصلُ بقمّةِ الهرمِ الشّيعيّ، وهُم الفُقهاءُ والمراجعُ.

والتّشيّعُ في عُمقِ معناه هوَ الولايةُ والإمامةُ، وبالتّالي لا يستقيمُ إلّا ضمنَ حالةٍ إجتماعيّةٍ تنتظمُ في شكلٍ هرميٍّ وصولاً للقيادةِ، الأمرُ الذي يُؤكّدُ على أنَّ الكُفرَ بالطّاغوتِ، لا يتحقّقُ إلّا ضمنَ الإنخراطِ في صفِّ أولياءِ الله.

فالتّوحيدُ ليسَ مُجرّدَ حالةٍ نظريّةٍ أو إيمانٍ قلبيٍّ يرتبطُ بقضيّةٍ غيبيّةٍ، وإنّما هوَ تجلٍّ عمليّ في واقعِ الحياةِ؛ لأنّهُ هوَ الإستثناءُ الوحيدُ الذي ينبثقُ مِن ضميرِ الرّفضِ (لا إلهَ .. إلّا اللهُ)، ولا يتحقّقُ ذلكَ الرّفضُ إلّا ضمنَ واقعٍ بديلٍ يُمثّلُ ولايةَ اللهِ، فإذا كانَ الرّفضُ ينطلقُ مِن صميمِ الواقعِ المُزيّفِ والكُفرِ به، فإنَّ التّوحيدَ يتجلّى في الواقعِ الذي يُمثّلُ الحقَّ والتّسليمَ له: ﴿فَمَن يَكفُر بِالطَّاغُوتِ وَيُؤمِن بِاللهِ فَقَدِ استَمسَكَ بِالعُروَةِ الوُثقى لاَ انفِصامَ لَها﴾([1])، صحيحٌ أنَّ الكُفرَ بالطّاغوتِ مُقدَّمٌ على الإيمانِ بالله، ولكنَّ الإيمانَ بأولياءِ اللهِ والتّسليمَ لهُم، هوَ الذي يُحقّقُ الكُفرَ العمليَّ بالطّاغوتِ، فيُصبحُ التّوحيدُ بذلكَ واقِعاً عمليّاً، وتجسيداً خارجيّاً لحقيقةِ الولاءِ، قالَ تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزبَ اللهِ هُمُ الغالِبُونَ﴾([2])، وليسَ حالةً نظريّةً تُحقّقُ الإيمانَ باللهِ كقضيّةٍ غيبيّةٍ ثمَّ تدينُ بالولاءِ للطّواغيتِ كحالةٍ عمليّةٍ، قالَ تعالى: ﴿أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزعُمُونَ أَنَّهُم آمَنُوا بِما أُنزِلَ إِلَيكَ وَما أُنزِلَ مِن قَبلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَد أُمِرُوا أَن يَكفُرُوا بِهِ﴾([3])، فإذا كانَ الدّينُ دعوةً للتّوحيدِ، فحينئذٍ يكونُ التّشيُّعُ هوَ التّطبيقُ العمليُّ لذلكَ التّوحيدِ.

والإسلامُ بوصفِه منظومةً منَ القيمِ يقعُ على رأسِها التّوحيدُ، لا يعدو كونَهُ إطاراً نظرياًّ ما لم يجِد طريقَهُ إلى الواقعِ، الأمرُ الذي لا يمكنُ تصوّرُه من دونِ قيادةٍ تُمثّلُ الضّامنَ لهذا التّطبيقِ؛ لأنَّ الرّسالةَ إنّما تتحقّقُ بما لها مِن إمتدادٍ في الواقعِ، ولا يمكنُ أن نتصوّرَ مُجتمعاً إسلاميّاً يُمثّلُ إمتداداً للرّسالةِ، مِن غيرِ أن يكونَ على رأسِه فقيهٌ، وهذا ما عليهِ الشّيعةُ بخلافِ المذاهبِ الأُخرى، فمذاهبُ أهلِ السّنّةِ لَم تُفرِز نظاماً مرجعيّاً واضِحاً يكونُ الدّينُ فيهِ شرطاً للطّاعةِ والولاءِ، واستبدلُوا ذلكَ النّظامَ المرجعيَّ بالسّمعِ والطّاعةِ لكُلِّ مَن حكمَ، ونصوصُهم في ذلكَ مُتضافرةٌ، وسوفَ نُشيرُ لبعضِها في آخرِ المقالِ.

ومِن هُنا نفهمُ مدى الحرصِ الشّيعيّ على دورِ المرجعيّةِ الدّينيّةِ، فبعدَ غيبةِ الإمامِ الحُجّةِ (عجّلَ اللهُ فرجه)، إرتبطَ الشّيعةُ بالفُقهاءِ كضمانٍ لاِستمرارِ المسيرةِ الرّساليّةِ، وسيادةُ الفقيهِ عندَ الشّيعةِ إنّما هيَ تابعةٌ لسيادةِ الدّينِ، فلا يتقدّمُ لهذا المنصبِ إلّا أكثرُهم عِلماً وورعاً وزُهداً، فقَد جاءَ في وصيّةِ الإمامِ الحُجّةِ لشيعتِه في عصرِ الغيبةِ: (مَن كانَ منَ الفُقهاءِ صائِناً لنفسِه، حافِظاً لدينِه، مُخالِفاً لهواهُ، مُطيعاً لأمرِ مولاه، فللعوامِّ أن يُقلّدوهُ)[4]، فالضّابطُ للمرجعيّةِ هوَ الفقهُ والورعُ، ولتحقيقِ هذا الشّرطِ إهتمَّ الشّيعةُ بالمُؤسّسةِ العلميّةِ التي تُسمّى بالحوزةِ، وقَد توارَث الشّيعةُ هذهِ المُؤسّسةَ العِملاقةَ منذُ زمنِ الأئمّةِ عليهمُ السّلام وإلى اليوم، وقَد تكفّلَت ضمنَ ضوابطَ دقيقةٍ، تخريجَ عشراتِ المُجتهدينَ، الذينَ نالوا درجاتٍ عاليةً منَ الفقهِ والعلم.

والمهمُّ في الأمرِ، أنَّ المؤسّسةَ الحوزويّةَ لا تفرضُ مرجِعاً مُحدّداً على المُقلِّدِ، وإنّما المُكلَّفُ هوَ الذي يختارُ لنفسِه مِن بينِ المُجتهدينَ مرجِعاً له، فهيَ بالتّالي إنتخابٌ جماهيريٌّ شعبيٌّ لا تتدخّلُ فيهِ الدّعايةُ والتّرغيبُ، فالإنسانُ المُسلمُ ضمنَ الدّائرةِ الشّيعيّةِ إمّا أن يكونَ مُجتهِداً قادِراً على استنباطِ الأحكامِ الشّرعيّةِ أو مُقلِّداً للفقيهِ الجامعِ لشرائطِ الإجتهادِ، ويبقى بابُ الحوزةِ مفتوحاً أمامَ الجميع، لمَن يرى في نفسِه أهليّةَ التّعلُّمِ والإجتهادِ.

والمرجعيّةُ الدّينيّةُ ضمنَ التّصوّرِ الموجودِ هيَ مصدرُ فخرِ الشّيعةِ وعِزّتِهم؛ لأنّهُم دونَ غيرِهم منَ المذاهبِ إستطاعوا أن يُوجِدوا لأنفسِهم نظاماً على رأسِه العُلماء: (فكيفَ ما كنتُم يُولّى عليكُم)، فالمُجتمعُ الذي يدفعُ لصدارتِه الفُقهاءَ والعُلماءَ، هوَ خيرُ نموذجٍ للمُجتمعِ الذي أرادَهُ الإسلامُ، ولا أتصوّرُ أنَّ هُناكَ مُنصِفاً لا يرى أنَّ النّظامَ المرجعيَّ عندَ الشّيعةِ، هوَ الخيارُ الأمثلُ لأيّ مُجتمعٍ إسلاميٍّ، ولا بديلَ عَن ذلكَ على المُستوى النّظريّ - طالما أنَّ المُجتمعَ يتّصفُ بكونِه مُسلِماً -، ولا على المُستوى العمليّ؛ فواقعُ الحالِ دالٌّ على أنَّ الدّينَ أصبحَ مطيّةً في يدِ السُّلطانِ.

فالمُجتمعُ الشّيعيُّ مُستقلٌّ بكيانِه غيرُ مُرتهنٍ لغيرِه، ولقَد كانَ ذلكَ مصدراً لعداءِ الأنظمةِ الحاكمةِ والمذاهبِ التي تحتمي بها، رُغمَ أنَّ الشّيعةَ أكثرُ إنضباطاً بحقوقِ المواطنةِ والعيشِ المُشتركِ، وأكثرُهم تعقُّلاً في التّعاملِ معَ المُخالفِ، إلّا أنَّ استبدادَ الأنظمةِ لا يقبلُ أن يكونَ هُناكَ ولاءٌ لغيرِه، وقَد خسرَ الشّيعةُ الكثيرَ بسببِ الإنتماءِ المرجعيّ، فهُمِّشوا، وحُوصِروا، واستُضعِفوا، وسُجِنوا، وهُجِّروا،... ورغمَ ذلكَ، ظلَّت المرجعيّةُ هيَ العَلمُ الذي يُرفرِفُ على رؤوسِ الشّيعةِ.

وكشاهدٍ على تصدّي المرجعيّةِ لشؤونِ الأُمّةِ، ودليلٍ على مدى تأثيرِ الزّعامةِ الدّينيّةِ على نفوسِ الشّيعةِ، نُذكِّرُ هُنا بدورِ المرجعيّةِ في إسقاطِ آخرِ إمبراطوريّتينِ إيرانيّتين عرفتهُما بلادُ فارس، هُما الإمبراطوريّةُ القاجاريّةُ في نهايةِ القرنِ التّاسعِ عشر، والإمبراطوريّةُ الشّاهنشاهيّة البهلويّةِ في نهاياتِ القرنِ العشرين.

ففي السّنواتِ الأخيرةِ منَ القرنِ التّاسعِ عشرَ إضطرَّ ناصرُ الدّينِ شاه القاجاري، إلى التّراجعِ عَن قانونِ منحِ إمتيازِ التّنباكِ (التّبغِ) للإنجليز، وذلكَ بسببِ الضّغطِ الكبيرِ الذي شكّلتهُ فتوى المُجدّدِ الشّيرازيّ بتحريمِ التّبغِ، (التي عُرفَت بثورةِ التّنباكِ)، وقد وصلَ تأثيرُ هذهِ الفتوى إلى داخلِ أسوارِ القصرِ القاجاريّ، حيثُ قامَت زوجةُ السُّلطانِ نفسُها بتحطيمِ كلِّ أدواتِ التّدخينِ في القصرِ، وكانَ ردُّها حاسِماً، عندَما إستنكرَ زوجُها هذا الفعلَ، بقولِها: (إنَّ الذي حلّلني عليكَ حرّمَ إستعمالَ التّنباكِ اليوم).

الشّيءُ نفسُه حصلَ في ثورةِ الإمامِ الخُمينيّ، على إمبراطوريّةِ محمّد رضا بهلويّ في نهايةِ السّبعيناتِ، عندَما إصطدمَ الشّاهُ بفتاوى العُلماءِ الذينَ حرموا إعانةَ الحاكمِ الظّالمِ على شعبِه، الأمرُ الذي جعلَ الحرسَ الإمبراطوريَّ الخاصَّ وهُم «الخالدونَ»، يتخلّونَ عَن حمايةِ النّظامِ وإعانتِه، ولم ينفرِط عقدُ نظامِ محمّد رضا بهلوي، إلّا بعدَ أن إنفرطَ عقدُ حرسِه «الخالدون»، وقرّروا الإلتحاقَ بالشّعبِ عملاً بفتوى العُلماء.

ومِن أهمِّ الشّواهدِ التي تُدلّلُ على حضورِ المرجعيّةِ الفقهيّةِ في المُجتمعِ الإسلاميّ الشّيعيّ، وما زالَت تداعياتُها حاضرةً في السّاحةِ، هيَ الفتوى التي أصدرَها المرجعُ الكبيرُ السّيّدُ عليٌّ الحُسينيّ السّيستانيّ (دامَ ظلُّه) في العراقِ، بوجوبِ الجهادِ الكفائيّ ضدَّ تنظيمِ داعش الإرهابيّ، بعدَ أن كادَ يجتاحُ العراقَ كلّه في ظلِّ ضعفِ الحكومةِ العراقيّةِ وتآمُرٍ دوليٍّ وإقليميّ، فهبَّ الشّعبُ العراقيُّ بكُلِّ مُكوّناتِه حتّى عجزَت الجهاتُ الرّسميّةُ مِن إستيعابِ الملايينِ الذينَ استجابوا لهذهِ الفتوى، وتكوّنَ على إثرِها مجموعاتٌ عسكريّةٌ ضخمة سُمّيَت بالحشدِ الشّعبيّ الذي عملَ على طردِ داعش منَ المُدنِ العراقيّةِ وإلحاقِ هزيمةٍ نكراءَ به.

وعليهِ فإنَّ الواقعَ الشّيعيَّ شاهدٌ على مدى العلاقةِ التي تربطُ القاعدةَ بقمّةِ الهرمِ، ولا شيءَ هُناكَ يُحقّقُ ذلكَ الرّابطَ سِوى الدّينِ والإلتزامِ بالأحكامِ، ولولا ذلكَ الحرصُ على الدّينِ، لما دفعَ الشّيعةُ أخماسَ أرباحِهم سنويّاً للمرجعيّةِ الدّينيّةِ، الأمرُ الذي جعلَ المُؤسّسةَ الدّينيّةَ مُستقلّةً، وغنيّةً عَن مدِّ اليدِ لطلبِ العونِ مِن أيّ نظامٍ سياسيٍّ موجودٍ، بخلافِ المُؤسّسةِ الدّينيّةِ للمذاهبِ السُّنّيّةِ، التي أصبحَت جُزءاً مِن إداراتِ الدّولةِ، ممّا جعلَها دوماً رهينةً لسياسةِ النّظامِ الحاكمِ، فالدّولةُ هيَ التي تُعيِّنُ المُفتي، ووزيرَ الأوقافِ، وإدارةَ الزّكاةِ، وتتدخّلُ حتّى في شؤونِ التّعليمِ في الجامعاتِ الإسلاميّةِ، ولم نرَ في كلِّ التّاريخِ، أنَّ المُؤسّسةَ الدّينيّةَ السُّنّيّةَ تمرّدَت على حكومةٍ منَ الحُكوماتِ التي حكمَت.

وهذهِ الإشارةُ كافيةُ الدّلالةِ، على أنَّ فكرةَ المرجعيّةِ مُنبثقةٌ مِن صميمِ الإسلامِ، وأنّها الطّريقُ الذي يُحقّقُ سيادةَ الدّينِ، وبذلكَ نكونُ قَد أكّدنا على مدى إنسجامِها مع فلسفةِ الإسلامِ الكُبرى، وهيَ التّكاملُ على المُستوى الفرديّ والإجتماعيّ.

وفي ختامِ هذا العنوانِ، أسردُ بعضَ الأحاديثِ والآراءِ التي زخرَت بها مصادرُ السُّنّةِ، في ضرورةِ السّمعِ والطّاعةِ للحاكمِ حتّى وإن كانَ ظالِماً، الأمرُ الذي يُشكّلُ مُفارقةً كبيرةً بينَ المذهبِ الذي يأمرُ أتباعَهُ بمولاةِ السُّلطةِ السّياسيّةِ الحاكمةِ، وبينَ المذهبِ الذي ينخرطُ أفرادُه ضمنَ نظامٍ إجتماعيٍّ يكونُ على رأسِه الفُقهاءُ والعُلماءُ. وهذهِ النّصوصُ هيَ التي تطرَبُ لها آذانُ كلِّ الطّغاةِ، الذينَ أمرنا اللهُ بمقاطعتِهم والكُفرِ بهم، فكُلُّ مَن يرفضُ المرجعيّةَ الدّينيّةَ للفقيهِ، لا طريقَ أمامَهُ إلّا الوقوعَ في أحضانِ الطّاغوتِ.

عَن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: عَلَيكَ السَّمعُ وَالطَّاعَةُ فِي عُسركَ وَيُسرِكَ، وَمَنشَطِكَ وَمَكرَهِكَ وَأَثَرَةٍ عَلَيكَ([5]).

وعَن وائل بن حجر - رضي الله عنه - قَالَ: سَأَلَ سَلَمَةُ بنُ يَزِيدَ الجُعفِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ الله، أَرَأَيتَ إِن قَامَت عَلَينَا أُمَرَاءُ يَسأَلُونَا حَقَّهُم وَيَمنَعُونَا حَقَّنَا فَمَا تَأمُرُنَا، فَأَعرَضَ عَنهُ؟ ثُمَّ سَأَلَهُ، فَأَعرَضَ عَنهُ؟ ثُمَّ سَأَلَهُ فِي الثَّانِيَةِ أَو فِي الثَّالِثَةِ، فَجَذَبَهُ الأشعَثُ بنُ قَيسٍ، وَقَالَ: اسمَعُوا وَأَطِيعُوا فَإِنَمَا عَلَيهِم مَا حُمِّلُوا وَعَلَيكُم مَا حُمِّلتُم([6]).

وعن حذيفة - رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: يَكُونُ بَعدِي أَئِمَّةٌ لايَهتَدُونَ بِهُدَايَ وَلايَستَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِم رِجَالٌ قُلُوبُهُم قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثمَانِ إِنسٍ، قَالَ: قُلتُ: كَيفَ أَصنَعُ يَا رَسُولَ الله إِن أَدرَكتُ ذَلِكَ؟، قَالَ: تَسمَعُ وَتُطِيعُ لِلأمِيرِ، وَإِن ضُرِبَ ظَهرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ؛ فَاسمَع وَأَطِع([7]).

وعن عَوف بنَ مَالِكٍ الأشجَعِيَّ يَقُولُ: سَمِعتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُم وَيُحِبُّونَكُم، وَتُصَلُّونَ عَلَيهِم وَيُصَلُّونَ عَلَيكُم ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبغِضُونَهُم وَيُبغِضُونَكُم، وَتَلعَنُونَهُم وَيَلعَنُونَكُم، قَالُوا: قُلنَا يَا رَسُولَ الله، أَفَلا نُنَابِذُهُم عِندَ ذَلِكَ؟، قَالَ: لا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاةَ، أَلا مَن وَلِيَ عَلَيهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأتِي شَيئاً مِن مَعصِيَةِ الله، فَليَكرَه مَا يَأتِي مِن مَعصِيَةِ الله، وَلا يَنزِعَنَّ يَداً مِن طَاعَةٍ([8]).

وعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَن كَرِهَ مِن أَمِيرِهِ شَيئاً فَليَصبِر، فَإِنَّهُ مَن خَرَجَ مِنَ السُّلطَانِ شِبرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً([9]).

وعَن عَدِيِّ بنِ حَاتِمٍ قَالَ: قُلنَا: يَا رَسُولَ الله، لا نَسأَلُكَ عَن طَاعَةِ مَنِ اتَّقَى، وَلَكِن مَن فَعَلَ وَفَعَلَ، فَذَكَرَ الشَّرَّ، فَقَالَ: اتَّقُوا الله، وَاسمَعُوا وَأَطِيعُوا، وصحّحه العلامة الألباني ([10]).

وغيرُها منَ الأحاديثِ التي لا تجدُ في بابِها نصّاً يُعارضُها، وعلى ذلكَ كانَ إجماعُهم، يقولُ الإمامُ أحمد: ومَن خرجَ على إمامٍ مِن أئمّةِ المُسلمينَ، وقد كانَ النّاسُ اجتمعُوا عليه، وأقرّوا لهُ بالخلافةِ بأيّ وجهٍ كانَ بالرّضا أو بالغلبةِ، فقَد شقَّ هذا الخارجُ عصا المُسلمينَ، وخالفَ الآثارَ عَن رسولِ اللهِ، فإن ماتَ الخارجُ عليهِ ماتَ ميتةً جاهليّة ([11]).

وَقَالَ أبو الحسنِ الأشعريّ: وأجمعوا عَلَى السّمعِ والطّاعةِ لأئمّةِ المُسلمينَ... مِن بَرٍّ وفاجرٍ، لا يلزمُ الخروجَ عليهم بالسّيفِ، جارَ أو عدل ([12]).

وقالَ الآجريّ: (مَن أُمِّرَ عليكَ مِن عربيٍّ أو غيرِه، أسودٍ أو أبيضٍ، أو أعجميّ، فأَطِعهُ فيما ليسَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ فيهِ معصية، وإن ظلمكَ حقّاً لكَ، وإن ضربكَ ظُلماً، وانتهكَ عِرضَكَ وأخذَ مالَك، فلا يَحملُكَ ذَلِكَ عَلَى أن يَخرُجَ عليهِ سيفُك حتّى تُقاتلَه، ولا تَخرُج مع خارجيٍّ حتّى تُقاتلَه، ولا تُحرِّض غيرَك عَلَى الخروجِ عليهِ، ولكِن إصبِر عليه) ([13]).

وقالَ الطّحاويُّ في عقيدةِ أهلِ السّنّةِ: ولا نرى الخروجَ على أئمّتِنا وولاةِ أمورِنا، وإن جارُوا، ولا ندعو عليهِم، ولا ننزعُ يداً مِن طاعتِهم، ونرى طاعتَهُم مِن طاعةِ اللهِ - عزَّ وجلَّ- فريضةً، ما لم يأمرُوا بمعصيةٍ، وندعو لهُم بالصّلاحِ والمُعافاةِ.

وقالَ الحافظُ: وقَد أجمعَ الفُقهاءُ على وجوبِ طاعةِ السُّلطانِ المُتغلِّبِ والجهادِ معَه، وأنَّ طاعتَهُ خيرٌ منَ الخروجِ عليه لِما فِي ذَلِكَ من حقنِ الدّماءِ وتسكينِ الدّهماءِ ([14]).

وقالَ العلاّمةُ ابنُ عُثيمينَ: الإمامُ هوَ وليُّ الأمرِ الأعلى فِي الدّولةِ، ولا يُشترطُ أن يكونَ إماماً عامّاً للمُسلمينَ؛ لأنَّ الإمامةَ العامّةَ إنقرضَت مِن أزمنةٍ مُتطاولةٍ .. مِن عهدِ أميرِ المُؤمنينَ عُثمَان بن عَفَّان... وما زالَ أئمّةُ الإسلامِ يدينونَ بالولاءِ والطّاعةِ لِمَن تأمّرَ على ناحيتِهم، وإن لَم تكُن لهُ الخلافةُ العامّة..([15]).

ويقولُ الإمامُ أبو عثمان الصّابونيّ (ت 499 هـ): ويرى أصحابُ الحديثِ الجُمعةَ والعيدينِ وغيرَهُما منَ الصّلواتِ خلفَ كلِّ إمامٍ مُسلمٍ بَرّاً كانَ أو فاجِراً، ويرونَ الدُّعاءَ لهُم بالتّوفيقِ والصّلاحِ، ولا يرونَ الخروجَ عليهم وإن رأوا منهُم العدولَ عنِ العدلِ إلى الجورِ والحيفِ ([16]).

ولقَد ذكرَ هذا الإجماعَ جمعٌ منَ العُلماءِ، منهُم النّوويُّ حيثُ قالَ: (وأمّا الخروجُ عليهم وقتالُهم فحرامٌ بإجماعِ المُسلمينَ، وإن كانُوا فسقةً ظالمينَ)([17]).

ونقلَهُ ابنُ حجرٍ عَن ابنِ بطّالٍ فقالَ: (وقد أجمعَ الفُقهاءُ على وجوبِ طاعةِ السُّلطانِ المُتغلّبِ والجهادِ معَه، وأنَّ طاعتَهُ خيرٌ منَ الخروجِ عليه، لِما في ذلكَ مِن حقنِ الدّماءِ وتسكينِ الدّهماءِ..، ولم يستثنُوا من ذلكَ إلّا إذا وقعَ منَ السُّلطانِ الكُفرُ الصّريحُ ...([18]).

ونحنُ هُنا لا نقولُ إلّا ما قالَهُ تعالى: ﴿ أَفَمَن يَهدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لا يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهدى فَما لَكُم كَيفَ تَحكُمُونَ (35)﴾([19])، وما قالَهُ سُبحانَه: ﴿أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزعُمُونَ أَنَّهُم آمَنُوا بِما أُنزِلَ إِلَيكَ وَما أُنزِلَ مِن قَبلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَد أُمِرُوا أَن يَكفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيطانُ أَن يُضِلَّهُم ضَلالاً بَعِيداً﴾([20]).)[21]

 

[1] - سورة البقرة/256.

[2] - سورة المائدة/56.

[3] - سورة النّساء/60.

[4] - الاحتجاج للطبرسي ج 2 ص 263

[5] - صحيحُ مسلم/ حديث رقم 1836.

[6] - المصدرُ السّابق/ حديث رقم 1846.

[7] - صحيحُ مسلم/ حديث رقم 1847.

[8] - المصدرُ السّابق/ حديث رقم 1856.

[9] - البُخاري/ حديث رقم 7053، ومسلم/ حديثُ رقم 1851.

[10] - ابن أبي عاصم في السنة/ حديث رقم 1069.

[11] - أصول السنة/ حديث رقم 27.

[12] - رسالة إلى أهل الثغر ص296.

[13] - الشّريعة ص40.

 

[14] - الفتحُ 13/7.

[15] - الشّرحُ المُمتِع 8/12.

[16] - عقيدةُ أصحابِ الحديث ص 106 .

[17] - شرحُ صحيحِ مُسلم 12/ 229.

[18] - فتحُ الباري 13/ 7.

[19] - سورةُ يونس/35.

[20] - سورة النّساء/60.

[21] - الصّحوةُ الإسلاميّةُ ضوابط وتوجيهات – محمّد بن صالحٍ العُثيمين ج1 ص 284- 285- 286 - 287

المرفقات