عن وضع المرأة: هوامشٌ على نصٍّ جدليٍّ.

السيد علي الحسيني

يدور هذا المقال المختصر حول النصّ المعروف: خيرٌ للمرأة ألّا ترى رجلاً، ولا يراها رجلٌ،  وينطوي على أربعة هوامش تتعلق بالحديث:

1.عن السؤال الذي يثيره.

2.وفي مناسبته وصيغته.

3.وعن مصدره وإسناده.

4.ثمّ دلالته ومضمونه.

أولاً- في السؤال الذي يثيره الحديث.

يقترن نصّ الحديث –لحظة الإستدعاء والتداول- بمشكلتين تتمثلان بإدعاء التقاطع مع واقعين:

أـ الواقع التاريخي المنقول عن نساء أهل بيت العصمة، سيّما سيدة نساء العالمين الزهراء(ع)؛ إذ تحفظ الذاكرة الجمعية للمسلمين أنّها خرجت مع بعض النسوة من بني هاشم لمسجد النبي(ص) تحاجج أبا بكر بشأن فدك، وألقتْ خطبتها في جماعة من المهاجرين والأنصار، مضافاً إلى اللقاء الذي حصل بينها وبين الشيخين حين جاءا يسترضياها بعد حادثة الهجوم على الدار ...

ب ـ وواقع المرأة المسلمة اليوم أيضاً؛ فكيف لها العمل بمضمونه، والحال أنّ المطلوب منها: التعلّم لدينها ودنياها، وأحياناً، إعالة أبنائها ورعايتهم، أو رعاية نفسها وعلاجها... عندئذٍ يتبلور السؤال على النحو التالي:كيف التوفيق بين منطوق حديث: خير للمرأة ألا ترى رجلاً... من جهة، وبين الواقع الاجتماعي للمرأة، و الواقع التاريخي للزهراء(ع) من جهة أخرى ؟!

ثانياً- للحديث مناسبتان، وصيغتان:

الأولى-(خير للمرأة من أن لا ترى رجلا ولا يراها)

عن عليٍّ(ع)  أنّ النبي(ص) سألَ ذات يوم: أي شيءٍ خير للمرأة ؟، فلم يكن عندنا لذلك جواب، فلّما رجعتُ إلى فاطمة قلتُ: يا بنت محمد إن رسول الله (ص)سألنا عن مسألة فلم ندر كيف يجيبه؟! فقالت: وعن أيّ شيّ سألكم ؟، فقلت: قال: أيّ شيءٍ خير للمرأة ؟ قالت : فما تدرون ما الجواب ؟ قلتُ لها : لا ، فقالت : ليس خيرٌ للمرأةِ من أن لا ترى رجلاً، ولا يراها،  فلمّا كان العشي جلسنا إلى رسول الله (ص)، فقلت له : يا رسول الله، إنّك سألتنا عن مسألة فلم نجبك فيها ، ليس للمرأة شئ خير من أن لا ترى رجلا ولا يراها . قال : ومن قال ذلك ؟ قلت : فاطمة . قال : صدقتْ ، إنّها بضعة مني.

الثانية- (أدنى ما تكون من ربها أن تلزم قعر دارها)

وهي أيضاً عن أمير المؤمنين،  وأنّه دخل على الزهراء، وبه كآبة شديدة فقالتْ فاطمة يا علي، ما هذه الكآبة؟ فقال علي: سألَنا رسولُ الله (ص) عن المرأة، ما هي؟قلنا: عورة، فقال:  فمتى تكون أدنى من ربّها؟ فلم ندر، فقالتْ فاطمة لعلي (ع) ارجع إليه فأعلمه: أن أدنى ما تكون من ربها أن تلزم قعر بيتها فانطلق فأخبر رسول الله بما قالت فاطمة فقال رسول الله: إن فاطمة بضعة مني.

والصياغتان متقاربتان جداً، كما هو واضح من سياق وظرف صدورهما،  وتختلف الاضافات في ذيل الحديث ففي بعضها: فضمها إليه وقال: ذرية بعضها من بعض، وبعضها الآخر: صدقت، إنّها بضعة مني..وهكذا ، كما أن الصياغة الأولى قد تنقل مختصرة بأن سأل النبي الزهراء مباشرة: أيّ شيءٍ خير للمرأة؟ فأجابت: ألّا ترى رجلاً...

ثالثاً- في المصدر والإسناد.

وعمدة المصادر الشيعية الأوليّة ـ فيما أعلمُ ـ  التي نقلتُه وعنها تلقّاه المتأخرون؛ أربعة:

1.كتاب: دعائم الإسلام( 2 / 215/ح793)، للفقيه الاسماعيلي: النعمان بن محمد بن منصور التميمي المغربي(ت 363 هـ).

2.كتاب: مناقب آل أبي طالب(3/341) لابن شهرآشوب المازندراني(ت588هـ)،ويشترك هذان المصدران في رواية الصيغة الأولى عن أمير المؤمنين مرسلاً، من غير إسناد.

3.وأمّا الصيغة الثانية للحديث فنقلتْ في كتاب: ( النوادر، ص14)، للسيد ضياء الدين، فضل الله بن علي بن عبيد الله الحسيني، المعروف  بالراوندي ( من أعلام القرن السادس، توفي بحدود سنة : 570هـ)، وهو وإن رواها مرسلة عن الصادق(ع) من غير إسناد، بيد أنّ معظم روايات النوادر مأخوذة من الجعفريات، وقد جاء الحديث بصيغته الثانية مسنداً غير مرسل(ص95، من النسخة المتداولة).

4.وكتاب: (الجعفريات) أو (الأشعثيات) عنوانان لكتاب واحد، فإذا نسب لراويه :محمّد بن محمّد بن الأشعث سُمي(الأشعثيات) وإذا نسب للمروي عنه: الإمام جعفر الصّادق عليه السلام سمي(الجعفريات)، لمحمد بن محمد بن الأشعث.

والحديث بصيغته الثانية وإن جاء فيه مسنداً كما أسلفنا، لكن للتحقيق مجال واسع، سواء في اعتبار أصل كتاب الأشعثيات ومطابقة النسخة المتداولة مع الأصلية، أوفي الطريق إليه، وغيرها من جهات تختلف فيها الأنظار والتحقيقات والمباني.(ينظر:أصول علم الرجال،ج2،ص15،للداوري).

وقد رأى بعضٌ أنّ  للحديث شواهد تقوّي معناه وتؤدي مضمونه، من بينها وأقواها ما ورد مكرراً في مناسبات وموارد شتى تجمعها عبارة:  إن لم يكن يراني فأنا أراه، أو : إن لم يركما فإنكما تريانه، وقد رويت عن الزهراء تارة، وعن النبي مع عائشة وحفصة أخرى، ومع أم سلمة وميمونة ثالثة.

وقصة صدورها في جميع الحلات الثلاث واحدة، وهي بإيجاز: أنّ رجلاً أعمى (تحدده بعض المرويات بابن أم مكتوم) قد استأذن لدخول بيت النبي، فبادرتْ الزهراء للاحتجاب، فسألها النبي عن سبب الاحتجاب مع كون المقُبلَ أعمى؟! فقالتْ تلك العبارة، وفي حالة غير الزهراء كان النبي هو الآمر بالاحتجاب، وهنّ السائلات.

رابعاً- وقفة في المضمون.

في النص  مفردتان تستحقان الوقوف: الخيرية – الرؤية .

أ‌-أمّا الخيرية، فمن المؤكد لا يستفاد منها وجوب المكوث، وحرمة الخروج حرمة شرعية تُؤثم المرأة على خالفتها؛ لثبوت جملة من الأحكام الشرعية التي تقتضي خروجها ورؤيتها الرجال أو رؤية الرجال لها، كصلة الأرحام، ووجوب الحج، وصلاة الجمعة...فليس هي في مقام تأسيس حكم تكليفي، ولا بصدد الكشف عن إنشاء حكم شرعي يفيد الطلب والحث ـ وجوباً أو استحباباً ـ ، وإنّما فتعني الإرشاد لحكم أخلاقي، وأصل إرشادي، مظانه: الحالات الطبيعية التي تخلو من موجبات أو محرّمات رؤية الرجال..عندها وبمقتضاه: تترجّح كفّة عدم الخروج وتَفْضُل على غيرها.. وحتى لو فسّرتْ(الخيريّة) بإنشاء حكم شرعي طلبي يقضي باستحباب مكوث المرأة في بيتها؛ تبقى محكومة بقواعد التزاحم، وتقديم الأولويات، شأنها شأن خيرية كل شيء، فالصيام المستحب خيرٌ للمرأة، بيد أنّها محكومة بعدم مزاحمة حق الزوج...!

ب‌-الرؤية: يقول تعالى مخاطباً مريمَ:{ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} [مريم : 26]، والذي يبدو من الرؤيا هنا ليس مجرّد النظر و المشاهدة البصرية، وإنّما الرؤية المصاحبة للمحادثة واللقاء من ثمّ قد تكون (الرؤيا) تعبيراً كنائيّاً عن الاختلاط والمحادثة وتبادل الكلمات، وإلا لو كانت الرؤية لا تعبّر إلا عن المشاهدة البصرية وحسب؛ كيف ساغ الانتقال في الآية المباركة منها (ترين) إلى الأمر بالقول(فقولي)؟! وليس ذا بعزيز على القرآن باسلوبه الكنائي الراقي في أمثال هذه الموضوعات،  فقد كنّى من قبل ـ مثلاًـ عن الجماع باللمس!

وثمّة قيدٌ آخر تضيق به دائرة المحادثة، وتالياً: الرؤيا المنهي عنها، فالنهي عن الكلام و المحادثة ليس مطلقاً؛ إنما مشروطٌ بالخضوع والترقيق في صوت المرأة بما يوجب الفتنة، كما قد يستفاد قوله تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب : 32]، فظاهرها أن موضوع النهي هو (الخضوع في القول)، وليس القول نفسه، وإلا كان التعبير: فلا تقلن !

تجدر الإشارة في الختام، إلى أنّ سؤال التوفيق بين الحديث وفعل الزهراء(ع) على وجه الخصوص_ سؤال غير وارد من الأساس؛ فإنّ النصوص التاريخية لا تصرّح بأكثر من خطبتها وحديثها، بل بعضها يفيد أنّها لمّا خطبتْ في المهاجرين والأنصار قد نيطت دونها ملاءة، وأنّها قد لاثت خمارها على رأسها واشتملت بجلبابها...

المرفقات