مع الأستاذ آل ياسين: هل كان "ابن نوح" من صلبه؟!

السيد علي الحسيني

في مقطع متداول أُخذ من لقاء تلفزيوني يظهر فيه الأستاذ و الشاعر العراقي (محمد حسين آل ياسين) مُبدياً رأياً غريباً على المشاهدين، فيقول: كان نوح قبل الطوفان قد دعا ربّه أن ينقذ أهله معه، ووعده بذلك، فلمّا رأى ابنه قد غرق، فدعا نوح ربّه: ياربّ إن ابني من أهلي ووعدك الحقّ، فماذا كان الجواب؟.. مو [ليس] إنه من الكافرين، ولا من الضالين، ولا من الفاسقين، لا، [بل كان الجواب ] : إنّه ليس من أهلك، إنّه عملٌ غير صالح، فلا تسألني ما ليس لك به علم، فليس من صلبه، فما وعده الله به قد أنجزه...وختم: بأنّ هذا الرأي لأوّل مرّة يقال.

      وقد بدا واضحاً أنّ الأستاذ (آل ياسين) يريد المضمون القرآني، وإلا فلفظ الآيتين من سورة هود هو: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ. [هود : 45-46]، والأهمّ من هذا الانصراف إلى كلامه والتعليق عليه:

1- فلنبدأ معه من حيث انتهى: ليس هذا الرأي من عندياته وابتكاراته، ولا هو بالجديد غير المسبوق، فهو رأيٌ قديم قِدَم التابعين، وأبرز من أخذ به منهم هو الحسن البصري(ت110م) على ما أخرجه الطبري عن قتادة قال: كنت عند الحسن فقال: "نادى نوح ابنه"، لعمْر الله ما هو ابنه!، قال: قلت: يا أبا سعيد يقول: (ونادى نوح ابنه) ، وتقول: ليس بابنه؟! قال: أفرأيت قوله: (إنه ليس من أهلك) ؟ قال: قلت إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك...(تفسير الطبري، ج15، ص341، الطبعة الأولى-الرسالة، ت:أحمد محمد شاكر).

2- ينقل علاء الدين الكاساني(ت587هـ ) في بدائع الصنائع أنّ الشاعرة العربيّة ليلى الإخليليّة(من القرن الهجري الأوّل) لمّا دخلت على الحجّاج فأنشدته قصيدة...قال[الحجّاج] لحاجبه: اقطع لسانها، فذهب إلى الحدّاد فأخرج(الموسى) وأراد أن يقطع لسانها، فقالت ليلى: ما هكذا أراد الحجّاج، بل أراد أن تقطعوا لساني بالعطيّة، فلمّا استفسروا من الحجّاج قال لهم كما قالت ليلى، وعاقب الذي أخطأ في الفهم!( ج9ص332، دار الكتب العلمية)، وإذا كان الحال من الاحتياج للاستفسار مع كلام الحجّاج، وفي القرن الهجري

الأول، فكيف بنا نحن الآن أبناء العصر الراهن، و مع كتاب الله العظيم؟! وعظمة الكلام، من عظمة المتكلّم؛ من أجل هذا وغيره:

3- اتّفقتْ أمة محمّد(ص وآله)على عدم صحة الاعتماد على اللغة –وحسب- في فهم القرآن وتفسيره، فهذا المنهج –الامتدادي لمنهج حسبنا كتاب الله- مخالفٌ لصريح القرآن نفسه:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم} [النحل : 44]، ويفضي إلى إنكار الحديث بل و ما علم ثبوته من الدين ضرورة، وعلى سبيل المثال: نفى  المهندس محمد شحرور(ت2019) وجوب الصيام في شهر رمضان؛ اعتماداً على المدلول اللغوي(الأوّلي) لكلمة الإطاقة في قوله تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة : 184]...إلى غير ذلك من توالٍ وتطبيقات بيّنة الفساد!، ومع جلاء هذه المسألة ووضوحها، بيد أنّي لم أترك الإشارة إليها ولو باقتضاب؛ لأنّها مسالةٌ منهجيّة تعكس صلب اختلافنا مع هذه الرأي التفسيري وغيره من آراء تطرح على الدوام!

4-  وفيما يخصّ الشيعة -وطبقاً لحديث الثقلين المتواتر- فإنّهم قد ذهبوا إلى أنّ طريق المعرفة الدينيّة - سيّما تفسير القرآن - بعد النبي؛ منحصرٌ بما ثبت عن أهل البيت، وقد ثبت عنهم(عليهم السلام) أنّ لهم موقفاً مغايراً تمام المغايرة للرأي آنفاً، ولم يكتفِ أهلُ البيت بإبداء الرأي المخالف، وإنّما رفضوا هذا التفسير علانيّة، وكذّبوه في أحاديث صحيحة، ونصوص صريحة، دونك ما رواه الصدوق في عيون أخبار الرضا:

- حدثنا أبي (رضي الله عنه) قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسن بن علي الوشاء، عن الرضا (عليه السلام)...قال أبو عبد الله (عليه السلام):

إن الله عزّ وجلّ قال لنوح: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ؛ لأنّه كان مخالفاً له، وجعل من اتبعه من أهله، قال: وسألَني، كيف يقرأون هذه الآية في ابن نوح؟ فقلت: يقرؤها الناس على وجهين: إنه عملٌ غير صالح، وإنّه عَمِل غير صالح، فقال: كذبوا، هو ابنه، ولكن الله عزّ وجلّ نفاه عنه حين خالفه في دينه.(ج2،ص82).

قلتُ: الحديث صحيح، بل صحيح أعلائيٌ، فرجاله من أعيان الطائفة، كما أنّ صحّته جارية على مبنى الوثوق والوثاقة...، وزاد في خبر آخر من حديث الوشّاء أيضاً: "كلا لقد كان ابنه، ولكن لمّا عصى الله عزّ وجلّ نفاه عن أبيه، كذا من كان منّا لم يطع الله عزّ وجلّ، فليس منّا، وأنت إذا أطعت الله عزّ وجلّ فأنت منا أهل البيت"(ج2،ص257)، ومضمون هذه الزيادة فوق الإحصاء في الأحاديث، ولها أصل قرآني أيضاً: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي...} [البقرة : 249]، و{فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم : 36].

5- إنّ كلّاً من (عمل)  و(غير) في قوله تعالى: (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) لها قراءتان:

أ‌-  (عملٌ) اسم مرفوع على أنّه خبر إنّ و(غيرُ) نعتٌ له مرفوع، وهذه القراءة تتلائم مع التفسيرين، وبناءً على تفسير أهل البيت الذي قدّمناه فإنّ الجملة لا تخلو من إشارة بلاغيّة، تعبّر عن بلوغ النصّ الغاية في الذمّ حتى اندكت الذات في الخساسة، واندمجت مع العمل الطالح كما لو أنّهما شيئاً واحداً !

ب‌- (عَمِلَ)فعل ماض، و(غيرَ) منصوب على أنّه مفعول، أي: أنّ ابنك يا نوح، قد عمل عملاً غير صالح، فالموصوف بغير الصالح هو العمل وليس الذات، وهذه القراءة غير قابلة للتوجيه بناءً على رأي آل ياسين ومن قبله البصري، بل ينهدم مع هذه القراءة أقوى معطيات هذا الرأي كما هو واضح!

6- وحتى لو كنّا نحن والنصّ القرآني، وبالاعتماد على طريقة قريبة الشبهِ بطريقة الشاعر المحترم؛ يمكننا المساجلة بأنّ قوله تعالى: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ...[هود : 42] إخبارٌ صريح بالبنوّة، وليس له ما ينفيه أو ما يشير إلى أنّه بلسان الحكاية، كما هو الحال في قوله تعالى حكاية عن نوح: فقال ربّ إنّ ابني من أهلي، من ثمّ لا ترفع اليد عن الصريح بما يحتمل الوجهين:(إنّه ليس من أهلك) في أحسن الأحوال، وبكلمة أخرى أوضح، هاهنا عبارتان: عبارة تقرّر البنوة الصلبيّة صراحة(ونادى نوح ابنه)، ولا نفي صريح إزاءها؛ إذ لم يقل: إنّه ليس ابنك، ولا إنّه ليس من صلبك...، والعبارة الثانية جاءت على لسان نوح:(فقال: ربّ إنّ ابني من أهلي)، وهنا أيضاً، صُبّ النفي على كونه من أهله وحسب، مع أنّ عبارة نوح مركّبة من نسبتين: ابني، ومن أهلي!، نعم، يبقى السؤال عن الجمع و المواءمة بين نفي كونه من أهله، لكن دون المساس بالبنوّة الصلبيّة، وقد مرّ عليك وجهها في حديث أهل البيت، فراجع ثمّة.

المرفقات