ما هو مصير الذين عاشوا في عصر الجاهلية؟!

لا توجد غاية أعظم من خروج الإنسان من ظلمات الجهل والخرافة، ودخوله الى دائرة النور حيث الإنسانية والفطرة بأجلى صورها ومظاهرها، وهذه غاية الإسلام منذ نشأته الى أن يرث الله الأرض ومن عليها، غير أننا نعلم يقيناً بأن هناك أعداد كبيرة من البشرية  لم تستضئ بنور الإسلام، ولعل أبرز مصاديقهم الذين عاشوا قبل إنبثاق الرسالة المحمدية، ومثل هذه الأصناف من الناس يكون حكمهم طبقاً للقاعدةِ الأوّليّةِ الحاكمةِ في فهمِ هذهِ القضيّةِ وأشباهِها مثلَ مصيرِ مَن ماتَ وهوَ طفلٌ أو المجنونِ أو غيرِ ذلكَ؛ والقاعدةُ هيَ ترتُّبُ الحسابِ والعقابِ على بلوغِ الرّسالةِ، بالتّالي تتعلّقُ الأحكامُ والتّكاليفُ على مَن بلغَتهُ الدّعوةُ دونَ غيرِه، والآيةُ المُحكمَةُ التي يجبُ الإرتكازُ عليها وردُّ جميعِ المُتشابهاتِ إليها هيَ قولُه تعالى: (منِ اهتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهتَدِي لِنَفسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزرَ أُخرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبعَثَ رَسُولًا). حيثُ صرّحَتِ الآيةُ بأنَّ العذابَ يأتي كأثرٍ ونتيجةٍ لبعثِ الرّسلِ، وقَد استنبطَ الفُقهاءُ مِن هذهِ الآيةِ قاعدةً عامّةً وهيَ (قبحُ العقابِ بلا بيانٍ).

وبعدَ اتّضاحِ هذهِ القاعدةِ نُشيرُ إلى وجودِ خلافٍ حولَ إذا كانوا يدخلونَ الجنّةَ من دونِ حسابٍ أم أنَّ هُناكَ إمتحاناً أخرويّاً يترتّبُ عليهِ مصيرُهم إمّا جنّةً أو ناراً، فقَد جاءَ في بعضِ الرّواياتِ بطُرقِ الشّيعةِ والسّنّةِ أنَّ اللهَ سُبحانَه يأمرُ بتأجيجِ نارٍ عظيمةٍ ثمَّ يأمرُهم بالدّخولِ فيها، فمَن إستجابَ ودخلَ أنجاهُ اللهُ منَ الإحتراقِ، ثمَّ أُدخِلَ الجنّةَ، وأمّا مَن لَم يُلقِ بنفسِه فيها فيُعتبَرُ عاصياً ويُدخلُه اللهُ النّارَ، ومِن تلكَ الرّواياتِ صحيحةُ هشامٍ عَن أبي عبدِ اللهِ جعفرٍ الصّادقِ عليهِ السّلام: (ثلاثةٌ يُحتجُّ عليهم: الأبكمُ، والطّفلُ، ومَن ماتَ في الفترةِ (أي قبلَ بعثةِ النّبيّ)، فتُرفعُ لهُم نارٌ فيُقالُ لهُم: اِدخلوها، فمَن دخلَها كانَت عليهِ برداً وسلاماً، ومَن أبى قالَ تباركَ وتعالى: هذا قَد أمرتُكم فعصيتموني). ويقولُ ابنُ حجرٍ في الإصابةِ وردَ مِن عدّةِ طُرقٍ في حقِّ الشّيخِ الهرمِ ومَن ماتَ في الفترةِ ومَن ولدَ أكمَهَ أعمى أصمّ ومَن وُلِدَ مجنوناً أو طرأَ عليهِ الجنونُ قبلَ أن يبلُغَ ونحو ذلكَ أنَّ كُلّاً منهُم يُدلي بحُجّةٍ ويقولُ لو عقلتُ أو ذكرتُ لآمنتُ فتُرفَعُ لهُم نارٌ ويُقالُ ادخلوها فمَن دخلَها كانَت لهُ برداً وسلاماً ومَن امتنعَ أُدخِلَها كرهاً.

إلّا أنَّ البعضَ قَد ناقشَ في ذلكَ باعتبارِ أنَّ يومَ القيامةِ لا تكليفَ فيهِ، كما في نهجِ البلاغةِ عنِ الإمامِ عليّ عليهِ السّلام: (اليومَ عملٌ ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل) فكيفَ يُكلّفُ هؤلاءِ في يومِ ارتفاعِ التّكاليفِ؟ وقد أشارَ إلى ذلكَ الشّيخُ الصّدوقُ: (إنَّ قوماً مِن أصحابِ الكلامِ يُنكرونَ ذلكَ ـ أعني تكليفَ الأطفالِ ـ ويقولونَ: إنّهُ لا يجوزُ أن يكونَ في دارِ الجزاءِ تكليفٌ، ودارُ الجزاءِ للمُؤمنينَ إنّما هيَ الجنّةُ، ودارُ الجزاءِ للكافرينَ إنّما هيَ النّار، وإنّما يكونُ هذا التّكليفُ منَ اللهِ عزَّ وجلَّ في غيرِ الجنّةِ والنّارِ، فلا يجوزُ أن يكونَ كلّفَهُم في دارِ الجزاءِ).

وقَد أضافَ بعضُهم أنَّ التّكليفَ بدخولِ النّارِ أمرٌ غيرُ عُقلائيٍّ ومُخالفٌ لطبيعةِ الإنسانِ، أو كيفَ يكونُ هُناكَ أمرٌ للأطفالِ بدخولِ النّارِ وغيرِ ذلكَ منَ المُناقشاتِ. إلّا أنَّ كلَّ تلكَ الإعتراضاتِ على إمتحانِ مَن لم يصِلهُ التّكليفُ يومَ القيامةِ قائمةٌ على الإجتهادِ في أمورٍ لَم يُحيطوا بعلمِها التّفصيليّ، وكلُّ ما وردَنا هوَ أنَّ اللهَ يُوقدُ لهُم ناراً ويأمرُهم بدخولِها وليسَ أمامَنا مُعطياتٌ تفصيليّةٌ حتّى نحكُمَ على كونِها مُمكنةً أو غيرَ مُمكنةٍ ومقبولةٍ عقلاً أو غيرَ مقبولةٍ، وعليهِ لا يمكنُ تكذيبُ الأحاديثِ الصّحيحةِ التي أشارَت إلى حدوثِ هذا الإمتحانِ وبخاصّةٍ إن كانَ حدوثُ ذلكَ مصحوباً بالبيانِ حتّى لا يتعارضَ معَ الآيةِ المُحكمَةِ (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبعَثَ رَسُولًا).

وفي المُحصّلةِ يجبُ على الإنسانِ المُؤمنِ في تعاطيهِ معَ الأمورِ الغيبيّةِ أن يتوقّفَ عندَ حدودِ النّصوصِ؛ لأنَّ العقلَ لا يمكنُه التّفكيرُ في شيءٍ وفهمهِ خارجَ حدودِ الشّهودِ، أمّا الأمورُ الغيبيّةُ فإنَّ العقلَ يتعاملُ فقَط في حدودِ ما وصلَهُ مِن نصوصٍ وغيرُ ذلكَ يكونُ إستغراقاً في الجهلِ، حالهُ كحالِ الأعمى الذي يدّعي معرفتَهُ للألوانِ فحتّى لو أصابَ فهوَ مُخطئ.

المرفقات