فن المدن .. تعبير عن روح التراث

ثمرة فنية اخرى من ثمار التشكيلي الراحل راكان عبد العزيز دبدوب الذي ظل وفيا لوطنه العراق ولمدينته الحبيبة الموصل الحدباء التي سقته من اجوائها التراثية مذ كان صبيا حتى وفاته، اذ صور فيها مشهدا تعبيريا من مدينته الحدباء اتخذ فيها التكوين العام شكلا مستطيلا وزعت عليه مفرداته وبشكل متشابه افقيا وطوليا مصورا فيه انعكاس الاشكال على ارضية اللوحة مظهرا فيها اقواس القباب وارتفاع المنائر التي تتخللها النوافذ الإسلامية الصغيرة المتناثرة والملونة الفتحات بالألوان الاسود.. مصوراً الجدران بأطياف من الألوان الحمراء والخضراء والصفراء والزرقاء والوردية.

 أستخدم الفنان أسلوب التشخيص المبسط بتكوينات هندسية في أشكال البناء وهو يشبه أسلوب تنفيذ تصاميم المعمار العربي، ويمثل التكوين العام الاستقرار أو السكون كون الفنان اعتمد أسلوب التناظر في المساحات التي تضمنت المفردات ، حيث جعل شكلاً مربعا في اعلى الوسط لتكون الاشكال الاخرى متناظرة على جانبيه، فقد شكل التكوين العام للمنجز بشكل افقي وكانه قابع على ضفاف نهر دجلة  الذي يشطر مدينة الموصل – مدينة الفنان – الى نصفين ليستقر بذلك التكوين وموضوع  المنجز حسب رؤية الفنان، وقد مثل الفنان ذلك بأسلوب تجريدي مماثل للمشهد بمساحة رئيسة قسمت افقيا إلى قسمين متناظرين ليحقق بذلك نوعاً من الإيقاع في شكل المشهد العام ، فضلا عن تحقيق التوازن المحوري بين المساحتين، ومثل جو المنجز العام باللون الازرق والنيلي الغامق  وتم توزيعه بشكل متوازن مما أعطى استقراراً للمشهد واكسبه إيقاعاً لونياً  متحركاً بالوان الابنية التي انسجمت مع الجو العام.

حاول الفنان جعل شكل القبة شكلا سياديا في اللوحة، اذ أولاها اهتماما وجعل منها مركزا لسيادة المشهد ،سواء عن طريق الشكل المنسجم مع الاشكال الاخرى ، أو عن طريق الالوان النقيضة للأشكال في الواقع ، فكانت سيادة القبة عن طريق الاختلاف المكاني واللوني، ويظهر الفنان البعد لأشكال اللوحة من خلال الظلال وانعكاسات الاشكال والوانها على ارضية اللوحة، ومن خلال شكل الثقوب التي طالما تكررت في منجزات الفنان ، حيث يضفي على المنجز شبها بالتكوينات النحتية ، أما الفضاء فيمكن تلمسه في شكل السماء من خلف الاشكال والهلال المنير المرتفع في اعلى وعمق اللوحة.

   ويتجلى للمشاهد من خلال المشهد التصويري أن الفنان وظف مجموعة من الرموز الإسلامية ، وهي القبة لتي احتلت مركز السيادة ، والبوابة الإسلامية والمنائر ورمز الهلال، فضلاً  عن توظيف الخط العربي في المنجز بطريقة الجانب التزييني والجمالي، وهذا واضح من خلال تخلل النقاط في اشكال الابنية في اللوحة اذ تبدو كأنها نقاط للحروف والكلمات، فالقبة هي رمز إسلامي يمثل دور العبادة ومراقد أهل البيت (عليهم السلام ) وهم رمز الطهارة والنقاء والالتزام بالدين والعقيدة ، كما أن رمز القبة يرتبط بمفاهيم دينية واجتماعية مشتركة بين المسلمين، تشكل أهمية بالنسبة لهم فهو حاضر في طقوسهم وشعائرهم ،ففي المسجد حيث إقامة الصلاة والعبادات الأخرى وفي الزيارات للاماكن المقدسة ، وفضلاً عن الدلالات التي تمتلكها القبة ، إلا أنها في الوقت ذاته ذات شكل جمالي وتزييني بارز خلال جمالية الشكل المقوس وتناسق ألوانه والزخارف في قاعدته، وعلى الرغم من شكلها الواقعي فقد حُملت معنى الرمز والمدلول الرمزي وهو قريب من المجتمع ومعبر عن عاطفة المسلمين وانتمائهم  لدينهم، لذا نجد ان الفنان استلهم هذا الرمز من البيئة التي تحيط به  ليعبر عن نفسه وعن قومه .

   أما الرمز الإسلامي الثاني فهو المنائر ومن تحتها البوابات الإسلامية، اذ حملها الفنان معان رمزية عدة من خلال موقعها في المنجز الذي شغل حيزا مكانيا ولونيا على الرغم من ابتعاده عن اشكالها الواقعية، ليجعلها تبدو امام القارئ كوسيط بين عالمين متناقضين هما الظلام والنور، الايمان والجهالة بالله جل وعلا، وأضاف لها الفنان إشارة رمزية بان جعل اغلب الابواب مفتوحة نحو الداخل ليجعلها  أداة وصل بين عوالم مختلفة، العالم الداخلي والخارجي المتمثلة بعالمي الأرض والسماء، لذا فان الهداية تأتي عن طريق الباب الذي يكون مدخل للمرقد أو المسجد لينتهي باتجاه السماء التي تحقق الطمأنينة والسكينة وراحة النفس الأبدية .

 وقد وظف الفنان راكان دبدوب الرمز الإسلامي الثالث وهو الهلال لما يحمله من وظيفة رمزية تؤكد الجانب الروحي للإسلام فهو يمثل مواقيت العباد المتمثلة بالأهلة وبداية الاشهر القمرية كشهر رمضان المبارك وشهر ذي الحجة ومحرم الحرام وغيرها من شهور السنة القمرية الاثني عشر والتي تمثل بمجملها مواقيت العبادة التي تعد قوة الإسلام وشموليته وقدرته على منح الراحة للنفوس، ولم يهمل الفنان الجانب الجمالي للخط العربي حيث اضاف الفنان شحنة عاطفية للتكوين بجعل اشكاله تبدو كأنها ملونة المداد بنقاطها الممثلة لشبابيك الابنية في اللوحة، ليصبح التكوين العام وما يحتويه من عناصر مجتمعة هو اللغة البصرية الجمالية والوسيلة الايصالية لأفكار الفنان.

 وهنا نجد ان الفنان راكان دبدوب قد حقق في هذه اللوحة القيمة التشكيلية المبتغاة من خلال وجود العلاقة بين مفردات المشهد ، كما أنه دمج أكثر من فن فيه.. في محاولة ناجحة للتأكيد على التعبير عن روح التراث من خلال التقنية الفنية وإكساب المنجز دلالات تكوينية وأخرى إنسانية، اضافة الى استلهام اشكال الحروف العربية - الحاضرة الغائبة -  من قبل الفنان ليؤكد من خلالها على اصالته كفنان مسلم وبالتالي التأكيد على أصالة الهوية الإسلامية.

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات