تحمل هذه الرموز الملقاة على سطح اللوحة توقع الفنان العراقي( كريم رسن) 1998م، وهو يعد واحد من بين أهم الفنانين الذين بزغت اضواء اعمالهم الفنية في مرحلة الثمانينات من القرن المنصرم، متأثرا بطروحات أستاذه (شاكر حسن آل سعيد) وروحية لوحاته الصوفية التي اختصت بمحاكاة الموروث والواقع العراقي والعربي بأحزانه ومسراته، فقد كان رسن محملا بارث متحفي وعلاماتي محلي كأسلافه الأولين في ارض الفراتين، لتكون رموزه وعلاماته مكتنزة بمكنونات الأحلام البشرية التي تنطق بها وتفضحها سريرتها الجمعية ، فكانت سطوح اعماله الابداعية تتشكل من حكايا سرية، رغم عدم إخفاء بعض من بوح مرموزاتها، فالدمية السومرية والأجساد البدائية وبعض من أعضائها التي نجدها في لوحاته تتواشج ورسوم الطلاسم والتعاويذ التي تزخر بها الموروثات الشعبية الرافدينية.
رسمت هذه اللوحة بمواد مختلفة على الخشب، اذ جاءت بتقنية جدران البعد الواحد التي اسسها ال سعيد، لكن وجه الاختلاف كان من حيث الرؤى وابداع اسلوب له خصائصه الذاتية محققا صورة تطلق خطابها من عمق التاريخ، لإظهار صور جدران الكهوف في العراق القديم ولكن بطريقة حديثة من خلال العلامات والايقونات التي تشكل دلالات لهذا العالم التجريدي، فهي من يشخص اللوحة وهي التي تقود المنتج في حركة التأويل لخلق معانيها وتحديد مسمياتها.. والكل يعمل بواسطة عملية الاختزال الشكلي والبدء بتحديد ملمس اللوحة بصريا من خلال ما هو مادي عبر وسائل تقنية ينشرها هذا النوع من الاخراج التشكيلي الرائع.
ان البنية الشكلية في لوحات كريم رسن قائمة على جلب صور من العوالم البدائية وبطريقة فطرية.. لتحديد صورة ما هو مرئي على اسس مادية وبالرغم من طريقة طرحه الفنية التي غلف بها تجريداته التي تحمل مجموعة العلامات الايقونية التي كانت انطلاقا لتحديد المعنى الذي تكشف عنه أي من لوحاته، وقد بقيت اشكال رسن الابداعية تصوغ عالمها التعبيري وسط تجريدات اللوحة.. رغم التلقائية التي نفذت بها، لكنها ذهبت للكشف عن تأويلات باتجاهات مفتوحة الدلالة مع وجود العلامات الاخرى التي تشكل توازنا بصريا وبعدا مفاهيميا داخل اللوحة مع الحفاظ على تجريديتها القائمة على الملمس الذي يعكس قيمة العمل التاريخية.
ولو ركزنا الانظار نحو وسط اللوحة اعلاه لوجدنا ان هنالك شكل هندسي مربع وبداخله مربعات صغيرة اخرى مشكلة بطريقة تناوبية كرقعة الشطرنج غير انها تحوي نقاطاً في كل مربع صغير مع دخول بعض اللون عليها لكي لا يكتمل الشكل الهندسي الذي نفذ بطريقة لا تعكس هندسة متقنة بقدر ما تعطي انطباعا بأنه اثر يدوي تركه شخص على جدار ما، فهي هندسة حديثة وسط عالم بدائي جاء به الفنان كتوليفة تكشف عن عالمين في ذات الوقت، و فيها طلسمية تعكس سحرية الفكرة، فضلا عن ربطها ضمن سلسلة فكرية فيها مقاصد تأويلية، لربط مفهومي الحداثة والبدائية من خلال البعد التعبيري لحركة المعنى وسط الصياغة التجريدية المؤسسة بصريا، كي تبدأ بالبحث عن معانيها من خلال رسالتها الأيقونية لصياغة الخطاب البصري ليدفع بالجمالي مستندا على الفطري او البدائي.
من هذا يتضح لنا جليا ان تجريدية العمل المتقنة ابقت الاشكال مجردة ولم تكشف عن معانيها صراحة، مما يجعلها مفتوحة المعنى والمرجعية، فان محاولة دمج المفاهيم وسط رؤية قائمة على نظام اظهار مجرد لرؤية ما، لا تكشف حقيقة عن هويتها صراحة بقدر ما تعكس مرجعيات اخرى في الفن فالدقة والحساسية في دمج العوالم التي عمد كريم رسن على استخدامها في هذه اللوحة لم تعكس صيغة حداثوية في الرسم العراقي فحسب، بل كانت محاولة للكشف عن الخطاب البصري الحداثوي المرتبط بمرجعيات الفنان في هذه المرحلة وفق رؤية تندمج مع ما يجول في العالم من صياغة الحداثة في الفن والاتجاهات التجريدية والتعبيرية، ومن المؤكد ان الفنان في هذه اللوحة كما هو حال اقرانه في الفن العراقي المعاصر، يمتلك من العفوية الشيء الكثير للابتعاد عن التكلّف والقصدية، إلاّ في بعض الأجزاء من البنية العامة للوحة، وهذا واضح للمتلقي من خلال المزاوجة بين الالوان والاجناس الفنية المختلفة مثل بعض الكتابات واشكال الرموز والارقام وطريقة توزيع الالوان والخطوط المتقاطعة من فوقها طولا وعرضا.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق