حرف العين..

وسط أجواء لونية هادئة تشبه ألوان الفضاء الخارجي.. مثلت رائدة اللوحة الخطية المعاصرة الفنانة مديحه عمر التكوين الفني اعلاه بأشكاله الحروفية الرائعة، وهي تخوض في عوالم فنية غريبة بحثاً عن عالم مثالي، يكون فيه الحرف العربي ذا قيمه روحية عليا، ولتكسب مشاهدها الفنية الحروفية قيما جمالية ورمزية عليا تعبر عن البعد الروحي للحرف العربي الذي توسط منتشراً مساحة اللوحة بلونه الابيض وليقبع على خلفية من الألوان الزرقاء والنيلية المعتمة الرائعة المظهر.

يجد المتأمل لهذا التكوين الفني ان الفنانة اعتمدت الخطوط البسيطة وبعض الالوان الاحادية في انجازه بهذه الطريقة الابداعية، فلو تتبعنا الاشكال المرسومة من وسط المنجز سنلاحظ وجود خطاً  يمتد لعمق اللوحة يبدو وكأنه تخطيط لجسر ابيض  ومن فوقة وبداخله خطوط أخرى بيضاء تسير معه بنفس الاتجاه ينحني ببدايته خط متجه للحافة اليمنى للمنجز بالنسبة للمشاهد ويستند بقاعدته على مجموعة من الخطوط والزوايا المتقاطعة مع خط افقي يذهب باتجاهه نحو عمق اللوحة من الوسط، لتنحصر من تحته مجموعة من الاقواس الممثلة لحرف العين السابح في فضاء اللوحة والمتكرر بلونه الابيض المزرق والمتنامي من نهايات بعض الخطوط المختلفة الاشكال و الاتجاهات، اما لو توجهنا بأنظارنا الى الجانب الايسر من اللوحة نجد بروز شكل هرمي او قببي ملتوٍ يرتفع اعلاه شكل من اشكال حرف العين المخطوط بالخط الكوفي النباتي الهيأة.. ليوائم الاشكال والحروف القابعة في الزاوية السفلى اليمنى من اللوحة والتي نفذ كل منها بخط سميك معتم في بعض اجزائه ليكون مقاربا للون الخلفية المعتم وليقطع جزءاً من الجسر الابيض العائم في فضاء اللوحة.

 وهنا نجد ان الفنانة لم تبتعد عن ولعها بالحرف العربي والخطوط العربية المتشابكة المصاغة على أبواب المساجد والمحيطة بالقباب والمآذن.. والذي جسدته في اغلب ابداعاتها الفنية طيلة حياتها، فارتكزت على الحروف واشكال القباب المختلفة الاحجام واستبلت في بعضها الاهلة بالحروف كما في لوحتها اعلاه.. ليلتصق حرف العين في اعلاها بدل الهلال ويعتليها ليبدو على شكل يشبه إناء صغير  برز داخل غطائه شكل مثلث، لتنسحب انظار المشاهد بذلك الى النصف العلوي الافقي وتحديدا فوق الجسر الأبيض الممتد من بدايته في الجهة اليمنى الى اقصى يسار اللوحة وافقها، فقد ظهرت أشكال كروية واخرى بيضاوية تربطها اواصر خطية من لونها، لتبدو متلاصقة فيما بينها.. تاركة فراغاً صغيراً بينها وبين شكل الفضاء المتلألئ بالنجوم عند وسطه ونهايته والمحصور في الحافة العليا للمنجز والذي يمثل افق اللوحة وعمقها بشكل او بأخر.

   استخدمت الفنانة الأسلوب التجريدي في منجزها الفني، الذي اخذ تكوين الشكل الهرمي في بعض من اجزاءه، ليمثل الديمومة والاستمرارية التي دعت لها الفنانة في اغلب اعمالها الفنية، واعتمدت الفنانة في التكوين العام  على الخطوط بانواعها وبشكل أساس، فشكلت خطوطها المنسابة بحركات مرنة في فضاء المنجز موضع القوة ،فنراها تسير وبكل راحة في ذلك الفضاء الرحب، لتوحي بحركات إيمائية وتتكرر بشكل خطوط مستقيمة وأقواس لتحصر بينها خطوطا اخرى متكررة، فالفنانة تختار وحدات صورية  تشبه الكائنات المجهرية او النجوم في الفضاء الفسيح لتدخلها مع النسق العام للحروف العربية، ذلك لان الحرف العربي ذا مرونة و مطاوعة تسمح له بالتشكيل المتنوع وكيفما يشاء المرء، وفي الوقت ذاته تستقصي الفنانة من الحرف شكله المقروء لتصوغه صياغة جديدة وتقوي من صورته الرمزية عبر علاقته باللون .

وقد وزعت الفنانة أشكالها على مساحة المشهد وبشكل عشوائي، حيث بدت الأشكال الحرفية وبعض الاشكال الكروية والبيضاوية وكأنها تتدحرج فوق جسر من الحبال تعلوه اقواس وهو معلق في الفضاء، مثلته الفنانة  بشكل رحب يتخلل الأشكال التي تداخلت ألوانها الاحادية بألوانه لتعطي إحساساً بالتناغم اللوني فضلاً عن الشاعرية الغنائية والحركة والاستمرارية التي تبوح بها وحدات المشهد بشكل عام.. مُشكلة ايقاعاً بصرياً يمنح الأشكال والحروف السابحة في الفضاء  قيمة جمالية عالية، كما وتمثل السيادة في الألوان والاشكال في هذا المنجز للون الابيض ودرجاته، حيث نراه يملأ الجو العام للمنجز المميز باللون النيلي والذي يشبه شكل الفضاء الخارجي، وقد حمل هذا اللون دلاله رمزية فاللون الأزرق بدرجاته يمثل لون النفس وهو اقل درجة من اللون الأخضر، في عالم الالوان.. في حين استخدمت الفنانة اللون الأبيض في تحديد أشكالها العائمة واستثمرته ايضاً في ملء فضاء المشهد بأشكال نقاط دقيقة لها أشعة لامعة تشبه النجوم المتلألئة وبعضها يشبه النيازك.

 عمدت الراحلة مديحة عمر على توظيف الحرف العربي ( العين ) دون غيره، كونه يعد رمز يحمل مضمون روحي وقدسية عالية مستمدة من قدسية اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم، فضلاً عن مكانته الاجتماعية كوسيلة للتواصل وجمالية شكله، كما وظفت الأشكال الد\ائرية او البيضاوية التي تشبه الواحدة منها شكل حرفي نون ملتصقين من ناحية الرأس، وما لهذا الحرف من دلالة دينية قدسية( ن والقلم ) ودلالته الاجتماعية وجمال شكله المقوس، فالفنانة استخدمت الحرف ضمن قوالب زخرفية عبرت فيها عن القيمة الجمالية لتلك الحروف فضلاً عن قيمتها الرمزية، كما عبرت خلال الشكل الدائري او البيضاوي عن الاستمرارية والحركة اللانهائية للحرف عبر الزمن من خلال تكرارها لهذا الشكل في فضاء المنجز وبأحجام مختلفة، فالحرف العربي ولد بشكل مجرد ودون نقاط  ثم استكمل ملامحه وبعدها بدأ يزين نفسه بالحركات والنقاط واستمر يتطور في الخط الكوفي والأشكال الأخرى وسيظل يتطور ويسير مع الزمن ويتحرك ضمن الفضاء الروحي للإنسان المعاصر الذي يعيش أزمة الصراع ما بين الوجود و العلم  وتقنياته .

 سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات